أحسن الله عزاءكم في السيادة الوطنية
في فترات من تاريخنا المعاصر سادت لدينا مصطلحات عدة وغدت من المسلمات وبمنزلة المحكم الذي لا يصلح تأويله، من بينها السيادة الوطنية التي كانت تعنى الاستقلال الوطني وعدم السماح لأحد أياً كان اسمه ورسمه سواء شخصاً أو هيئة أو منظمة بالتدخل في الشأن الداخلي ..
في فترات من تاريخنا المعاصر سادت لدينا مصطلحات عدة وغدت من المسلمات وبمنزلة المحكم الذي لا يصلح تأويله، من بينها السيادة الوطنية التي كانت تعنى الاستقلال الوطني وعدم السماح لأحد أياً كان اسمه ورسمه سواء شخصاً أو هيئة أو منظمة بالتدخل في الشأن الداخلي وعد ذلك عدوانا على الاستقلال والسيادة الوطنية، وقد بلغ من العناية بها وعدها من المسلمات التي لا يمكن التفريط فيها ولا المساومة عليها أن صارت مادة في الدساتير حيث ينص عليها فيقال: (دولة حرة مستقلة ذات سيادة)، لكن لما كانت هذه الشعارات المرفوعة تفتقر إلى سياج يقيها من التآكل والانهيار، والسياج في هذه الحالة هو الارتكان إلى مقومات الشعب الثابتة وهو دين الأمة ما لبثت أن تآكلت السيادة الوطنية والاستقلال وأصبح أثرا بعد عين وشكلا وصورة بلا حقيقة، ولم تعد التدخلات الخارجية في القرارات السيادية تمثل حساسية لدى تلك الأنظمة بل لم تعد قادرة على الانتصاب في مواجهة الدول الطاغوتية المتجبرة وليس لها إلا مداومة الانحناء فيكفي أن يصدر وزير خارجية إحدى تلك الدول المتجبرة أو حتى وزيرة خارجية بيانا قصيرا لا يتجاوز ثلاث جمل حتى تهتز الأنظمة وتسارع إلى تهدئة تلك الدول وتطييب خاطرها بل وربما إصدار حزمة من القوانين ولو ضد مصلحة بلدانهم وشعوبها للتدليل على استجابتها للدول المتجبرة، وهذه الدول المتجبرة لها مسالك متعددة في تخويف الدول الضعيفة المهتزة المنحنية واستلاب استقلالها وسيادتها، فمن ذلك:
1- استخدام الأمم المتحدة التي صارت مطية لتحقيق إملاءات الدول المتجبرة على الدول الضعيفة.
2- استخدام الحملات الإعلامية التي تقودها وكالات الأنباء العالمية.
3- تأييد الدول المتجبرة للدول الضعيفة عندما تستأسد على شعوبها، والتهديد من طرف خفي بمناصرة الشعوب إذا لم تستجب تلك الأنظمة لمراد الدول المتجبرة.
4- الرشوة التي تقدم للأنظمة الضعيفة في مقابل التنازل الفعلي عن الاستقلال والسيادة الوطنية، والرشوة لها صور متعددة.
ونحن لو بحثنا في سلوك كثير من الأنظمة من حيث الاتفاقات أو المعاهدات أو القوانين التي تسن كل فترة لن نتعب في اكتشاف موت السيادة الوطنية منذ زمن كل ما هنالك أن الإعلان عن الموت واستخراج شهادة الوفاة قد تأخر.
ومنذ أن أدركت كثير من القوى السياسية الداخلية أنه لم تعد هناك ما يمكن أن يقال له استقلال القرار أو السيادة الوطنية عمدت إلى الضغط والاستعانة بالقوة الخارجية المتجبرة للضغط على تلك الأنظمة الضعيفة الذليلة المنحنية الراكعة الساجدة لغير الله تعالى وتحقيق مطالبها لديها، بل أصبحت تلك القوى السياسية الداخلية في كثير من الأحيان عندما تصدر تصريحا أو بيانا يكون عينها صوب الدول المتجبرة ويكون خطابها في حقيقته موجها لها لا إلى شعوبها، وهو بهذا الإعلان أو التصريح يطلب دعم تلك الدول المتجبرة لأنه يعلم أن ذلك مما يرضيها.
والشيء المحزن أن الاستقلال والسيادة لم تمت في ستر وخفية، حتى يقال إن الشعوب لا تدري وتجهل ذلك، بل ماتت جهرة وصار ذلك مما تعرفه الشعوب وتتعامل معه من غير حساسية: اعتبر ذلك بما يقوله قطاع كبير من الناس رداً على من يريد القيام بعمل يحافظ على خصوصية المجتمع أو يحمي هويته الإسلامية، لا تجد لهم رداً أكثر من أن يقول: لكن أمريكا لن تقبل بذلك وهو وإن كان يدل على طغيان تلك الدول وتجبرها وإفسادها في الأرض إلا أنه يدل في الوقت نفسه أن تلك النفوس قبلت بضياع الاستقلال أو السيادة الوطنية وصارت تتعامل مع تلك المصطلحات وكأنها ليست لنا وإنما لغيرنا.
الأمثلة كثيرة لن نقدر على استيفائها في هذا المقال، لكن يكفي أن ندلل على ذلك ببعض الأمثلة التي تعبر عما وراءها. عندما قدم د. محمد البرادعي إلى مصر أيام حكم الطاغية المخلوع، ولعل الدعم الأمريكي له كان لمزيد من الضغط على حكم الطاغية المخلوع ليزداد انحناء أمام المطالب الامريكية واليهودية، المهم أن من أوائل تصريحات البرادعي التي كان يتوجه بها قطعا للغرب وليس لأمته قال: "الدولة كمؤسسة ليس لها دين" أ. هـ.، ومن ثم فلا ينبغي النص على دين الدولة في الدستور هذا الكلام بالقطع يوجهه للغرب ليأخذ الدعم منهم لمشروعه فبعد أن كان الدستور قد خطا خطوة وإن كانت صغيرة ليست كافية في تطبيق الشريعة حيث ينص في مادته الثانية على أن مبادئ الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع إذا بالبرادعي يريد حذف المادة كلية من الدستور لتكون الدولة بلا دين، وهذا ناتج من الشعور الداخلي أنه لم يعد هناك شيء اسمه الاستقلال أو السيادة الوطنية.
عندما يصرح مفكر قومي كالدكتور مصطفى الفقي -الذي ظل سنوات طويلة حليفاً لحكم الطاغية المخلوع متبتلا في محرابه- ويقول: "إن أي رئيس قادم لمصر لا بد أن يكون موافقاً عليه من إسرائيل وأمريكا"، يقول ذلك جهاراً نهاراً علناً بلا مواربة فلا قيمة عنده للشعب المصري كله ولا لموقفه من الرئيس القادم، وإنما المهم أن توافق عليه أمريكا واليهود، هل بعد ذلك هناك كلام أو حديث عن السيادة الوطنية أو استقلال القرار السياسي.
عندما يقول بعض من بيدهم أزمة الأمور: مدنية الدولة أمن قومي، أو مدنية الدولة خط أحمر فإن من يقول ذلك لا يتوجه به إلا للدول المتجبرة وحلفائها في الداخل لأن القوى السياسية المعبرة عن جماهير الشعب ليست مع الدولة المدنية بالمفهوم الذي يقدمونه، وعلى نفس المنوال عندما يقوم شخص بعمل مؤتمر صحفي ليعلن فيه عن ترشحه لرئاسة الجمهورية فيكون أول ما يقوله: مصر دولة مدنية ديمقراطية فكأنه يقدم بذلك أوراق اعتماده عند من يظن أنهم أصحاب السيادة الحقيقية.
بل بلغ الأمر أن تُطالب القوى الإسلامية الصاعدة باختيار شعوبها لها أن تقدم خطاباً تطمينياً للغرب! هل صار الغرب أصحاب السيادة الذين ينبغي استجلاب رضاهم.
لقد بلغ من أمر هوان الاستقلال وإهدار السيادة الوطنية أن الدول الطاغية المتجبرة لم تعد تخشى من إظهار تدخلها في الشئون الداخلية للبلدان المنحنية بل تصرح بذلك وتعلنه وتطالب الأنظمة بتصرفات محددة ثم تقوم بالمتابعة للتأكد من التزام الأنظمة بما صدر إليها من تعليمات، لقد كان هذا الأمر في البداية لا يعلن بل تجتهد الدول الطاغية المتجبرة في إخفائه حتى لا تحرج العملاء أمام شعوبهم، ثم بدأت في الإعلان شيئا فشيئا محاولة في قتل أية نخوة ورجولة وكرامة للشعوب، لكن الشعوب استيقظت ونأمل أن لا تنام مرة أخرى.
محمد بن شاكر الشريف
باحث وكاتب إسلامي بمجلة البيان الإسلاميةوله عديد من التصانيف الرائعة.
- التصنيف: