فضائيات تشوّه صورة سيّد الشهور

منذ 2012-07-11

بالتأكيد أن هذه الفضائيات أضاعت وخدشت روحانية وصفاء وصورة رمضان!! ويمضّنا الألم من جراء انصراف الشبيبة والأجيال الجديدة لأسئلة واستكناه البرامج الفكاهية المؤدلجة، والكليبات الغنائية الماجنة، وتلك المسلسلات التي تحفل مضامينها بكثير من الخروج على القِيَم العامة، أو السخرية من أنماط المحافظة والأصالة، وصولاً إلى استهزاء بعضها بالدين، مع شديد الأسف.


مسلسل "الحسن والحسين" حديث الصفحات والمنتديات الفكرية والثقافية، وأتذكر العام الماضي كان هناك مسلسل "القعقاع بن عمرو"، وقبلهما مسلسل "الملك فاروق"، وهكذا دواليك، نحن في كل عام إزاء مسلسل له دوّي ولغط، وتتبارى الفضائيات في شهر شعبان لإعلان الدراما والبرامج الفكاهية التي ستتميز بها خلال رمضان طمعاً في كسب المشاهِد، وخصوصاً في فترات الذروة المشاهدية التي تلي صلاة المغرب؛ حيث تتجمّع الأُسَر السعودية في هذا الوقت؛ لتقدّم وقتاً ذهبياً بالنسبة للإعلام الفضائي، الذي يهتبل هذه المناسبة بتقديم أفضل ما لديه لجذب المشاهِد، الذي سيجلب معه كعكة الإعلانات التجارية التي تمطر بها.


بالتأكيد أن هذه الفضائيات أضاعت وخدشت روحانية وصفاء وصورة رمضان!! ويمضّنا الألم من جراء انصراف الشبيبة والأجيال الجديدة لأسئلة واستكناه البرامج الفكاهية المؤدلجة، والكليبات الغنائية الماجنة، وتلك المسلسلات التي تحفل مضامينها بكثير من الخروج على القِيَم العامة، أو السخرية من أنماط المحافظة والأصالة، وصولاً إلى استهزاء بعضها بالدين، مع شديد الأسف.


الفضائيات للأسف أضاعت روحانية وصفاء هذا الشهر الكريم، مقارنة بما عشناه قبل ثلاثة عقود، وعندما أعود بذاكرتي إلى قبل عصر الفضائيات، أي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي؛ لأتذكر كيف كنا في السعودية نتسمّر صغاراً أمام الشاشة، نستمع إلى حديث الأستاذ الكبير محمد حسين زيدان يرحمه الله قبل صلاة المغرب، وهو يروي في برنامج "كلمة ونصف" فصولاً من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بأسلوبه الحجازي الآسر، وتارة أخرى ونحن نلهج بالحنين لصورة سلّة الفاكهة والشربة التي بقيت طوال أكثر من عشرين عاماً في البرنامج الأشهر "على مائدة الإفطار" للشيخ علي الطنطاوي يرحمه الله ليبقى ذلك البرنامج العلامة الأبرز على مدى عقود في التلفاز السعودي، ويستوقفك منظر الأُسَر السعودية وقد تحلَّقت حول مائدة إفطارها تستمع لهذا العالم الرباني الذي أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وتستمتع إلى أسلوب إلقائه الساحر، وقصصه التي لا تنتهي، واستطراداته المحببة التي نتشتت معها وقد ضاع الموضوع الأصلي، إضافة إلى رؤية ذلك العالم الرباني الفقهية المتسامحة..


أدرك أن لكل عصر إعلامه الذي يلائمه، ولكل جيل ذائقته الخاصة التي تختلف عن ذائقة جيل الآباء، بيد أنني أقارن هنا سحر تلك البرامج التي كانت تُبَثّ عبر قناة يتيمة ذات إمكانات متواضعة بما تتبارى به فضائياتنا العربية اليوم، وقد غدت بالمئات جاعلة من شهر رمضان، شهر البركات، والنفحات، والصيام والقيام، موعداً لتقديم أحدث مسلسلاتها وأغانيها، وشهراً للتنافس المحموم على استعراض عضلاتها الدرامية!!.. وتستغرب من هذه الفضائيات التي يقوم كثير منها باستثماراتنا الخليجية التي تبثّ الكثير من البرامج المصادمة لقيم المجتمع؛ إذ تبذل إداراتها الأموال الطائلة، وترصد الميزانيات الضخمة ذات الخانات الست؛ في سبيل الفوز بأكبر شريحة مشاهدين في هذا الشهر الفضيل تحديداً.


لا يملك مثلي إلا أن يحوقل ويسترجع على تكريس الإعلام العربي صورة رمضان في نفوس أجيالنا الجديدة بأنه موسم المسلسلات الفضائية بدلاً من الروحانية الإيمانية، التي تميِّز سيّد الشهور، وبأنه وقت استعراض الصبايا المتمايلات من كل الأقطار العربية، بدلاً من صور التبتل والإنابة إلى الله تعالى، والخلوة مع النفس، وقراءة القرآن وخَتْمه، وبأنه زمن المفاخرة بأهمّ برامج الترفيه البريء وغير البريء، بدلاً من صور الاجتهاد في القيام والصيام..


وإذ أتحسّر مع أولئك المحافظين على ما آلت إليه صورة سيّد الشهور عبر هذا الإعلام في ذهنية الأجيال الجديدة فإنني أتفهم أن ذلك هو ثمن للعولمة الإعلامية التي تجتاح كل جغرافيتنا العربية، جازماً بيقينية مطلقة بأن ذلك لن يلبث أن يتراخى مع فورات زمانية قادمة، فحتى في هذا الغثاء الكثير الذي تمطرنا به سماؤنا العربية في رمضان لا يزال لفضائيتنا المحافِظة حضور ليس بسيطاً، وباتت تأخذ حصة لا بأس بها من كعكة المشاهدين، التي يأتون إليها فِطْرةً وتديناً وتساوقاً مع روحانية الشهر التي تكاد تتلاشي بفعل ما تبثه الفضائيات الأخرى.


بل حتى تلك الفضائيات الأخرى بدأت تتسابق في استقطاب دعاتنا الملهمين من أمثال: سلمان العودة ومحمد العريفي وسعد البريك وصالح المغامسي وعائض القرني غيرهم من درر الدعاة الذين أسروا قلوب الشرائح الاجتماعية بمختلف طبقاتها، وحلّقوا بأرواحهم في سماوات الفضيلة والعفاف؛ حيث يحظون بمتابعة كبيرة، بيد أنها تظل متابعة قاصرة على جيل ما قبل الفضائيات، أما الجيل الحالي وضحايا (هلال) الصبايا المتمايلات، اللاتي يطللن علينا مساء كل ليلة عبر تلكم الفضائيات، فلا منقِذ لهم ولا نصير إلا العزيز القدير.


عبد العزيز قاسم

السبت 30 يوليو 2011 م

 

المصدر: موقع سبق