من أحكام السياسة الشرعية في الانتخابات الرئاسية المصرية

منذ 2012-06-21

من المسائل التي تحتاج اليوم للنظر إليها من وجهة نظر السياسة الشرعية مسألة الانتخابات الرئاسية في مصر..


من النتائج المهمة التي أسفرت عنها الثورات العربية المعاصرة بعث الحياة في علم كاد أن يذبل ويُقْتَصر الكلام فيه على قاعات الدرس في الجامعات والمعاهد العلمية وهو علم السياسة الشرعية، فبعد أن طغى الدخيل من السياسات وغيرها على الساحة في بلدان المسلمين ممَّا حجم من الالتفات إلى علم السياسة الشرعية والاعتناء به، إذا بالثورات تعيده إلى صدارة الأولويات فصرنا نسمع عنه في الدروس العلمية والمحاضرات والندوات والأسئلة والاستفسارات وفي البرامج الفضائية بعد أن كان نسياً منسياً.

من المسائل التي تحتاج اليوم للنظر إليها من وجهة نظر السياسة الشرعية مسألة الانتخابات الرئاسية في مصر.

الانتخاب الرئاسي: يعني اختيار شخص من بين عدة أشخاص يسبقه قبل ذلك وجود أكثر من طالب أو مرشح للرئاسة يكون الاختيار من بينهم، وهذه المسألة تعني وجود أكثر من قضية متعلقة بأحكامها فمن ذلك:

أولاً: حكم طلب الولاية.

ثانياً: صفات من يجوز توليته.

ثالثاً: صفات من يختار أو ينتخب.

رابعاً: ما العمل إذا تعارض الواقع المعمول به مع الحكم الشرعي.

أولاً: حكم طلب الولاية أو الترشح لرئاسة الجمهورية:

الأصل الذي تدلُّ عليه النصوص الشرعية أن المسلم ليس له أن يطلب الدخول في الولاية؛ لأنه باختياره هذا الأمر يُعرِّض نفسه لبلاء قد لا يطيقه ثم لا يجد على ذلك عوناً من الله تعالى:

وإذا لَمْ يكُنْ عَونٌ من اللهِ للفَتى

فأوَّلُ ما يَجني عليه اجْتِهادُهُ.

أما إذا طُلِب لها أو فُرضت عليه فإنه ما يزال معه من الله معين:

وإذا كان عون الله للمرء شاملاً

تهيأ له من كل شيء مراده.

وقد دلَّ على ذلك الحديث المشهور عندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه -: «يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها»[1]، وقوله لأبي ذر - رضي الله تعالى عنه -: «يا أبا ذر، إني أحب لك ما أحب لنفسي، وإني أراك ضعيفاً، فلا تأمرنَّ على اثنين، ولا تلينَّ مال يتيم»، وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر عندما سأله: «ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها»[2]، وقال لعمه العباس - رضي الله عنه - حينما قال له: «يا رسول الله، ألا تستعملني؟ فقال: يا عباس يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها»[3].

كما دلَّت النصوص على أن من طلبها فلا ينبغي أن يُجاب طلبه كما جاء في حديث أبي موسى: «قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله، أمرنا على بعض ما ولاك الله - عزَّ وجلَّ -، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: «إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه»[4]، ومنهج الإسلام في ذلك أن الولاية الصغرى يتولاها المرء بتولية صاحب الولاية الكبرى له، وأما الولاية الكبرى التي هي الرئاسة العليا للدولة فلا يطلبها المرء وإنما تعرض عليه ممن له الحق في إسنادها إليه، ومن هذا يتبين أن طلبها أو الترشح لها - سواء أكانت صغرى أم كبرى؛ ليس طريقاً مقبولاً من وجهة النظر الشرعية، غير أن هذا الحكم ترد عليه بعض الاستثناءات فمن ذلك:

1- عندما ينحصر الصلاح للولاية في شخص واحد بحيث يكون هو الصالح الوحيد لها وما عداه لا يصلح لها، ولا ينبغي أن يكون التفاوت هنا تفاوتاً في مزيد الصلاح ولكنه تفاوت في أصل الصلاح كأن يكون أحدهما جامعاً لأركان الصلاح وواجباته، ويكون ما عداه ناقصاً عنه إما في الأركان وإما في الواجبات وإما في كليهما، أما إذا كان التفاوت في مزيد الصلاح بعد أن يستويا في أركانه وواجباته فإن المزيد في الصلاح لا يجيز لأحد الصالحين طلبها ما دام أن هناك من يشاركه في الصلاح الواجب، على أنه لا ينبغي أن يقتصر رؤية انحصار الصلاح للولاية في شخص على مجرد رؤية الشخص نفسه لأن الإنسان قد يرى في نفسه ما ليس حقيقياً لفرط ثقته في نفسه ومزيد تقديره لها، بل ينبغي أن يراه الناس كذلك أو يقدم هو من البراهين والأدلة التي يقتنع بها الناس على صدق رؤيته لنفسه، والأصل في هذا الاستثناء طلب يوسف - عليه السلام - من ملك مصر في زمنه الولاية التي بمقتضاها يتصرف باجتهاده في خزائن مصر، وقد كان الملك وقتها يراه كذلك أي أن الصلاح منحصر فيه لسابق تأويله للرؤيا التي تدلُّ على علمه وكفاءته، وقد ذكر هو من الدليل على مقدرته وكفاءته أنه حفيظ عليم قال يوسف - عليه السلام - عندما قال له الملك: {إنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ صلى الله عليه وسلم 54 قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 54-55]، ومن هنا فإذا كان من هؤلاء الذين أظهروا رغبتهم في الترشح من انحصر الصلاح فيه فهو الذي يجوز له الترشح، أما إن كان الصلاح لم ينحصر في واحد منهم؛ بل الصلاح موجود في أكثر من واحد منهم، فلا ينبغي له أن يتقدم لأنه فقد مسوغ مخالفة الأصل، ولا شك أن ميادين الصلاح كثيرة وعلى رأسها أو ذروة سنامها الإيمان الكامل التام بصلاحية الشريعة، ووجوب تحكيمها والتمسك الصريح بها، وعقد العزم على إنفاذها وتحكيمها، وهذا ليس كلمة تقال أو وعد يعطى من غير أن تكون هناك دلائل على صدق التمسك به والعزم على إنفاذه، ويتبين ذلك من خلال الكلام التفصيلي الذي لا يناقض الكلام العام أو المجمل بالتمسك بالشريعة، كما يتبين بعدم صدور أقوال ورؤى تخالف الكلام المجمل، وإذا كانت لبعض المرشحين كلمات سابقة تدلُّ على بعده عن التمسك الصريح الصحيح بالشريعة، فالغالب أن تكون كلماته اللاحقة المخالفة للمتقدمة من باب الدعاية الانتخابية أو لكسب الأصوات الإسلامية، ولا يكون هذا من قبيل التوبة والرجوع عمَّا قاله سابقاً إلا أن يعلن ذلك فيعلن رجوعه عمَّا سبق أن قاله مناقضاً لما يعلنه حالياً، فلا يمكن لمن كان يقول سلفاً إن الشريعة كانت مطبقة في زمن النظام البائد وما كان من أمور لا تحمد لا يعدو أن يكون خللاً إدارياً، وأن الداعين إلى تطبيق الشريعة إنما هم يزايدون بذلك، لا يمكن أن يحمل قوله اليوم على تطبيق الشريعة على المعنى الحسن إلا أن يتراجع عن قوله السابق، كما لا يمكن لمن كان يقول: إنه ليس بين المسلمين والنصارى خلاف في العقيدة أن يحمل قوله اليوم على تطبيق الشريعة على المعنى الحسن إلا أن يتراجع عن قوله السابق، ولا شك عندي في أن من خلا كلامه عن التصريح بالتمسك بالشريعة وتحكيمها قولاً وفعلاً فقدْ فَقَدَ ركناً ركيناً من أركان الصلاح للمنصب حتى لو كان مستكملا لبقية الأركان.

وانطلاقاً من هذا الاستثناء يمكن القول: إنه لو تقدم رجل للمنصب وانحصر الصلاح فيه وكان ممن حصل له قبول أو ركون ظاهري من جمهور الناس، فإنه لا ينبغي لأحد بعده أن يتقدم؛ لأن استثناء طلب الولاية مبني على عدم وجود من يصلح لها لذا أجيز للصالح أن يتقدم لها فإذا تقدم من هو صالح لها؛ وظهر ركون الناس له وقبولهم له، فإن تقدم الثاني من بعده يكون تقدماً بغير مسوغ يجيزه.

2- الحال الثانية التي يجوز فيها التقدم لطلب الولاية أن يخلو مكان الإمارة بموت مفاجئ أو نحوه، ولا يكون هناك مجال لاختيار الأمير بالطريق الاعتيادي نظراً لظرف طارئ بالأمة فإنه يجوز لمن آنس من نفسه قدرة على القيام بمهام الإمارة أن يطلبها ممن يملك إعطاءها؛ بل يجوز له أن يستولي عليها إذا شغر المكان وكان في تقاعسه عن التقدم لهذا المنصب إضاعة للناس، فإنه يجوز له التقدم بل ربما يجب، لكن هذا لا يمنع من محاولة الحصول على موافقة من يتيسر اجتماعهم ممن له حق التولية بغير إخلال بمتطلبات الظرف الطارئ، ودليل ذلك فيما كان من غزوة مؤتة عندما استشهد الأمراء الذين ولاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي الجيش في أرض بعيدة بدون قائد أو أمير في مواجهة جيش محارب، وفي هذا الظرف الطارئ العصيب لا يكون طلب الإمارة من باب الحرص على المنصب؛ لأن الإمارة في تلك الحال من باب المغارم وليس من باب المغانم، أخرج البخاري في صحيحه وغيره عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة ففتح عليه»[5]، وقد بوب عليه البخاري بقوله: «باب من تأمر في الحرب من غير إمرة إذا خاف العدو»، فهو بذلك يشير إلى حال الضرورة التي حملت القائد الهمام خالد على التقدم وتحمل المسؤولية من غير أن يسبق تأميره وهو مما يبين جواز الإقدام على ذلك في مثل تلك الأحوال.

3- الحال الثالثة التي يجوز فيها التقدم لطلب الولاية أن يكون النظام غير ملتزم بالضوابط الشرعية في تولية الولايات حيث يتيح لكل أحد أن يتقدم لطلب الرئاسة مما يترتب عليه إمكانية أن يتولى الأمر من ليس هو صالح له، وحينئذ يكون تقدم المسلم لها من باب دفع من ليس صالحاً لها عن توليها وإن لم يكن صلاح المسلم لها تاماً فهو من باب احتمال أخف الضررين، فلو لم يتقدم مسلم لها وإن لم يكن كامل الصلاح؛ لأدى ذلك إلى تقدم مَن ليس صالحاً لها أصلاً وحينئذ يكون إحجام المسلمين عن التقدم لطلبها بمنزلة تيسير الطريق وتسهيلها أمام غير الصالحين لها.

ومن خلال هذه الاستثناءات يتبين لنا أن تقدم بعض المسلمين لتولي هذا الأمر مما يجوز الإقدام عليه في ظلِّ الظروف القائمة في مصر، فإذا كان الاستثناء الأول يقصر جواز التقدم على من انحصر الصلاح فيه، فإن الاستثناء الثالث يوسع الباب أمام من لم ينحصر الصلاح فيه للتقدم لهذا الأمر وذلك حتى يمنع من ليس صالحاً أصلاً لتولي هذا الأمر.

ثانياً: صفات من يجوز توليته:

الصفات المطلوبة فيمن يتولى أمر الأمة تنقسم إلى عدَّة أقسام:

- منها ما يتعلق بالحواس: كالبصر والسمع ونطق اللسان فمما لا يخفى على الناظر ضرورة سلامة الحواس المذكورة كي يتمكن الوالي من القيام بواجباته التي نصب من أجل تحقيقها، وإن الإخلال بتلك الحواس أو أحدها كأن يكون أعمى أو أصم أو أخرس فإنه يعسر عليه جداً القيام بتلك الواجبات مما يمتنع معه تولية من هذا حاله.

- ومنها ما يتعلق بالأعضاء: كفقد الرجلين أو اليدين فهذا ممَّا ينزل منزلة العمى والصمم والخرس لأنه عائق كبير لولي الأمر عن القيام بما يجب عليه، ويكون مانعاً من قيامه بواجباته التي نصب من أجل القيام، فيها فلا ينبغي أن يُولَّى والحال هذه.

- ومنها ما يتعلق بالصفات اللازمة: وهي أن يكون الإمام من قريش، وهذا الشرط إنما هو في حق الإمام أو أمير المؤمنين، ورئيس مصر ليس أميراً للمؤمنين جميعهم فلا يشترط فيه هذا الشرط ولا يعدُّ تخلفه قادحاً في ولايته.

- ومن الصفات اللازمة المجمع عليها: الذكورة - الحرية - العقل - البلوغ، فلا رئاسة لامرأة، ولا رئاسة لعبد، ولا رئاسة لفاقد أو ناقص العقل، ولا رئاسة لصبي، وممَّا يلحق بالصفات اللازمة الشجاعة: فلا يصلح أن يكون الرئيس والقائد الأعلى للبلاد خواراً جباناً، وكذلك الشهامة فلا يصلح ألا يكون عنده صبر ولا جلد ولا صلابة في مواجهة الشدائد والأزمات.

- ومنها ما يتعلق بالصفات المكتسبة: وهي:

1- العلم وهو لا حدَّ لأكثره وأما أقل ما يُعتدُّ به من قدر العلم ما يتمكن به الرئيس من استقلاله بنفسه في تدبير الأمور الدينية، والدنيوية، والقدرة على فهم ما يحال إليه ممَّا هو متعلق بتلك الأمور والنظر فيه على نحو يستطيع معه الموازنة بين الأقوال المختلفة والوصول إلى رأي هو أقرب ما يكون إلى الصحة والصواب، وتحقيق هذا الحد من العلم لا يمانع أو يعارض وجود مجلس شورى للرئيس في مختلف التخصصات يستشيره فيما يريد البتَّ فيه.

2- التقوى والورع وهي صفة في النفس تحمل صاحبها على مجانبة كبائر الذنوب والحياء، والبعد عن التظاهر بصغارها، فمن لم يقدر على كفِّ نفسه عن الوقوع في هذه الأمور فلن يقدر على سياسة أمة خاصة وهو في حاجة إلى أن يكفها عمَّا لم يقدر على كفِّ نفسه عنه فأنَّى له ذلك.

3- توقد الرأي في عظائم الأمور، والنظر في مغبات العواقب (كما يقول الجويني في الغياثي): فالرئيس نظراً لما يقوم به من أعمال وتصرفات جسيمة فإنه في حاجة أكيدة إلى الرأي النافذ، والقدرة على استشراف القادم، والنظر في مآلات الأحداث التي ربما تكون مباديها غير ظاهرة للعيان.

4- ويأتي على رأس هذه الصفات الدين فيشترط بالإجماع أن يكون الرئيس في بلاد المسلمين مسلماً، والمقصود بكونه مسلماً ليس أن يكون له اسم من أسماء المسلمين أو يكون مولوداً لأبوين مسلمين أو يكون مدوناً أمام خانة الديانة في شهادة الميلاد أنه مسلم؛ بل المراد بذلك أن يكون منسوباً لحقيقة الإسلام في أصوله وفروعه وعقيدته وشرائعه وهذا يقتضي منه الانحياز التام إلى شريعة الله تعالى كلِّها واليقين الجازم بكمالها وعمومها، وأنها العلاج التام لكل أدواء المجتمعات سواء أفي السياسة أم الاقتصاد أم القضاء أم الحقوق والحريات، والجهر بذلك في كل مناسبة ولا يكون ذلك مجرد عقيدة يسرُّها في نفسه والسعي بكل طريق في سبيل تحكيمها في أرض الواقع.

وعندما ننظر اليوم في واقع المرشحين اليوم سواء أكان ممَّن يُقال عنه إنه مرشح إسلامي أم لا يُقال عنه ذلك؛ لا نجد واحداً منهم تتحقق فيه كل هذه الصفات، ومن ثَمَّ فلا مناص من الموازنة بين المرشحين واختيار أكثرهم قرباً من هذه الصفات.

ثالثاً: صفات من يختار:

طالما أن الحديث عن دولة إسلامية ينص دستورها على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع فكان مقتضى ذلك أن يجري كل شيء فيها وفقاً لما تقضي به الشريعة، ومنها ما يتعلق بنظام الحكم وإقامة النظام السياسي، لكن الواقع بخلاف ذلك حيث يتيح النظام لغير المسلم وللمرأة الترشح لمنصب الرئاسة، ومن باب أولى إعطاؤهم الحق في اختيار من يتقلد هذا المنصب، والأحكام الشرعية في هذا الجانب واضحة وهي معلومة مذكورة في النصوص الشرعية وفي مصنفات أهل العلم في كتب السياسة الشرعية أو الأحكام السلطانية، حيث من يحق لهم الاختيار هم طائفة من الناس لهم صفات تؤهلهم للاختيار الصحيح من حيث العلم الذي يمكنهم من معرفة من توجد فيه الصفات المؤهلة للولاية على نحو أكمل من غيره، ومن حيث العدالة التي تحجزهم عن اتباع الهوى في الاختيار، وهذه الطائفة معروفة في كتب السياسة الشرعية بأهل الحل والعقد، والأمر في الأنظمة المعاصرة التي تؤخذ بالنظام الانتخابي ليس كذلك حيث تتيح أغلب هذه الأنظمة لمن بلغ سن الثامنة عشرة من مواطنيها المسلم منهم والكافر الرجل والمرأة على حدٍّ سواء، الحق في اختيار من يشغل منصب الرئيس.

وهنا نقطة نودُّ أن نثيرها في هذا الصدد وهو تصور بعض الجماعات الإسلامية أن لها الحق في أن تملي على أفرادها اختيار من تراه الجماعة أهلا لمنصب الرئاسة، ويعدون ذلك داخلاً تحت السمع والطاعة التي بين إمارة الجماعة وأفرادها، ومن غير دخول في مناقشة القضية الأصل أعني مسألة السمع والطاعة بين الجماعة وأفرادها فإنَّا نقول: إن مسألة اختيار رئيس البلاد ليست داخلة تحت السمع والطاعة فليس يلزم أحد ينتمي لجماعة ما أن يتقيد بما تختاره الجماعة لهذا المنصب، لأن الاختيار هنا يعبر عن رأي عضو الجماعة عن مدى اقتناعه بصلاحية ذلك المرشح لهذا المنصب، وهذا لا يدخل فيه السمع والطاعة، فلا يمكن لأحد أياً كان أن يأمر أحداً بأن يقتنع بصلاحية مرشح ما لمنصب الرئاسة، فالاقتناع والتصور والرؤية ليست مسألة تنفيذية يتصور فيها الأمر والنهي ومن ثم السمع والطاعة، والمتكلمون في التكييف الفقهي للانتخاب بعضهم يقول : إنه من باب الشهادة والشاهد لا يجوز له أن يشهد إلا بما يراه هو صواباً، ومن ثم فلا معنى للسمع والطاعة في الشهادة، وبعضهم يقول عن الانتخاب إنه من باب الوكالة أو الإنابة والمسلم لا يوكل أو ينيب إلا من يراه هو ويرتضيه ليكون وكيلاً أو نائباً عنه، ومن ثم فلا يدخل في ذلك أيضاً السمع والطاعة، فكيفما كان تكييف الانتخاب فلا يدخله الأمر والنهي من أمير الجماعة ومن ثم السمع والطاعة.

رابعاً: ما العمل إذا تعارض الواقع المعمول به مع الحكم الشرعي:

نظراً لأن الأمور تدار في غالب البلاد الإسلامية بموازين ليست مرتبطة بالشريعة في كثير من الأحيان، فإنه من المتوقع أن تكون التنظيمات المتعلقة بإدارة الانتخابات في كثير من جوانبها ليست متفقة مع الأحكام الشرعية التي جاءت في النصوص، والتي أوردها أهل العلم في مصنفاتهم، ومن هنا ظهر من يقول بعدم خوض هذه الانتخابات والمشاركة العامة في العملية السياسية؛ لأن ذلك سوف يوقع حتماً في مخالفات شرعية أو على الأقل الموافقة عليها والإقرار بها.

وهذا القول لا شك له حظ من النظر وهو خلاف معتد به، لكن هناك أكثر من محدد يدعو إلى المشاركة وخوض تلك الانتخابات على الرغم ممَّا فيها من المخالفات الشرعية، فمن ذلك:

1- أن عدم المشاركة سوف يجعل الطريق سهلاً ميسراً لوصول من لا يستحق لهذا المنصب الذي سيكون له تأثير كبير على المجتمع في كافة جوانبه وقضاياه، والموازنة الآن بين منكرين:

أ- منكر المشاركة في ظل نظام به مخالفات شرعية.

ب- منكر وصول شخصية غير إسلامية لهذا المنصب تفسد البلاد والعباد وتبعدهم عن الالتزام بالشرع في كثير من الجوانب، وعلى أقل تقدير لن يكون من اهتماماته تحكيم شرع الله ممَّا يعني ضياع تحكيم الشريعة على المدى الطويل كما حدث من قبل.

والمنكر الثاني بلا شك أكبر وخطره أشد حيث سيقود المجتمع في النهاية إلى وجهة غير إسلامية، ويوقع المجتمع في مخالفات شرعية أكبر بكثير من المخالفات التي تحدث نتيجة الانتخابات الرئاسية في ظلِّ نظام به مخالفات شرعية، فضلاً عن أن مخالفات المشاركة في الانتخابات لا يلزم المرشح أو المنتخب أن يعلن عن موافقته عليها أو الالتزام بها لا تصريحاً ولا كتابة، وأكثر ما فيها ما يمكن أن يفهم من الموافقة الضمنية التي تزول بالتصريح بالصواب الذي تدل عليه النصوص وقبوله ونبذ ما خالفه.

2- أن المشاركة تتم في ظلِّ نظام لم يستقر بعد ومن ثم فإمكانية التغيير أو البناء الجديد أبوابها مشرعة ومن المأمول أن يحدث تغيير حقيقي في الاتجاه الذي نريد وعلى ذلك تكون المشاركة لإحداث التغيير المنشود في الاتجاه الصحيح.


23/06/33 هـ


[1] أخرجه البخاري في صحيحه رقم 6248 ومسلم في صحيحه رقم 1652.

[2] أخرجه مسلم في صحيحه رقم 1825.

[3] مصنف ابن أبي شيبة رقم 32544، والسنة لأبي بكر الخلال رقم 69.

[4] أخرجه مسلم في صحيحه رقم 1733 والبخاري في صحيحه رقم 7149.

[5] أخرجه البخاري رقم 3063.
 
المصدر: مجلة البيان

محمد بن شاكر الشريف

باحث وكاتب إسلامي بمجلة البيان الإسلاميةوله عديد من التصانيف الرائعة.