اختلاف المطالع في البلدان

منذ 2012-07-27

مما ينبغي أن يعلم أن مسألة (اختلاف المطالع) هي كغيرها من المسائل الفقهية التي تنازع فيها أئمة العلم قديماً وحديثاً، والخلاف فيها لا يضر كما قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: "وجنس هذا الاختلاف لا بد منه في المسائل الفروعية ولا يضر" [فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم:4/156]..


الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:


مما ينبغي أن يعلم أن مسألة (اختلاف المطالع) هي كغيرها من المسائل الفقهية التي تنازع فيها أئمة العلم قديماً وحديثاً، والخلاف فيها لا يضر كما قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: "وجنس هذا الاختلاف لا بد منه في المسائل الفروعية ولا يضر" [فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم:4/156].


والحق أن في هذه المسالة أقوال عدة للعلماء، لكن أشهر هذه الأقوال هما قولان نذكرهما مختصرين مع أدلتهما:

القول الأول: لو رأى أهلُ بلدٍ هلال رمضان، لزم سائر بلاد الدنيا العمل بهذه الرؤية، واستدلوا بأدلة:

1- منها قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ووجه الدلالة: أن الله علَّق صوم رمضان برؤية الهلال دون أن يخُصَّ كُلَّ قطر برؤية أهله.

2- ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» [رواه البخاري:1776، ومسلم:1809]، وكذلك حديث: «لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه» [البخاري:1773، ومسلم:1795] قالوا: فالخطاب هنا لعامة الأمة لا لأناسٍ مخصوصين.

3- واستدلوا كذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنهما: "تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه" [أخرجه أبو داود:1995، وهو في صحيح أبي داود للألباني:2028].

4- وحديث أبي هريرة الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون...» فقالوا: إن أهل الأقطار يعمل بعضهم بخبر بعض، وشهادته في جميع الأحكام الشرعية، والرؤية من جملتها.

5- واستدلوا بأن شهر رمضان ما بين الهلالين، وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام من حلول الدين، ووقوع الطلاق، والعتاق، ووجوب النذور، وغير ذلك من الأحكام، وكذا الصوم لثبوته بشهادة الثقات.

6- وكذلك قاسوا البلاد البعيدة على القريبة من بلد الرؤية، إذ لا فرق بينهما، والتفرقة تحكم لا يعتمد على دليل.

7- وهذا القول أقرب لتوحد المسلمين، واجتماع كلمتهم، وهذا القول فيه الاحتياط للعبادة.

فهذه بعض الأدلة التي استدلوا بها، وهناك أدلة أخرى استدل بها القائلين بهذا القول.



القول الثاني: أن لكل أهل بلدٍ رؤيتهم، واستدلوا على هذا القول بعدة أدلة:

1- منها ما استدل به أهل المذهب الأول - وهي قوله - سبحانه -: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، ومن لم ير الهلال لم يشهد الشهر.

2- وكذلك استدلوا بحديث: «لا تصوموا حتى تروه»، وحديث: «صوموا لرؤيته»، ونحو ذلك من الأحاديث التي علَّقت الصيام بالرؤية، ودلَّ ذلك على أن من لم ير الهلال فلا يلزمه الصوم.

3- وكذلك حديث كريب: أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام، فقال: فقدمت الشام، فقضيت حاجتها، واستهلَّ عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبدالله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنَّا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم [رواه مسلم:1819].

4- وكذلك قالوا: إن ذلك أدعى للوحدة في كل قطر، وعدم زيادة الاختلاف والفرقة.

5- وقالوا كذلك بأن: القول باتحاد المطالع، وتوحُّد الرؤية، يخالف المعقول، لما علم وثبت بالضرورة من اختلاف الأوقات، ولأن الشرع أناط إيجاب الصوم بولادة شهر رمضان، وبدء الشهر يختلف باختلاف البلاد وتباعدها، مما يقتضي اختلاف حكم بدء الصوم تبعاً لاختلاف البلدان.

وأدلة هذا القول دلالتها متنازع فيها، وأمرها محتمل، وكما قيل: "إذا وجد الاحتمال في الدليل ضعف الاستدلال".


ولعل القول الأول هو الأقرب إلى الصواب - والله أعلم- وهو قول من قال: بتوحد الرؤية - إن أمكن ذلك - لقوة أدلة من قال به، ولكن الأمر كما قال الشيخ الألباني - رحمه الله -: "وإلى أن تجتمع الدول الإسلامية على ذلك فإني أرى على شعب كل دولة أن يصوم مع دولته، ولا ينقسم على نفسه فيصوم بعضهم معها، وبعضهم مع غيرها، تقدمت في صيامها أو تأخرت، لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف في الشعب الواحد، كما وقع في بعض الدول العربية منذ بضع سنين، والله المستعان" [تمام المنة ص:398] وبهذا أفتت اللجنة الدائمة فجاء في فتوى لها: "ونظراً لاعتباراتٍ رأتها الهيئة وقدرتها، ونظراً إلى أن الاختلاف في هذه المسألة ليست له آثار تخشى عواقبها، فقد مضى على ظهور هذا الدين أربعة عشر قرناً لا نعلم فيها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة، فإن أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء يرون بقاء الأمر على ما كان عليه، وعدم إثارة هذا الموضوع، وأن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المشار إليهما في المسألة، إذ لكل منهما أدلته ومستنداته [رقم الفتوى:3686، 10/103 من جمع الدويش].


وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى -: "وعمل الناس اليوم على هذا أنه إذا ثبت عند ولي الأمر، لزم جميع من تحت ولايته أن يلتزموا بصوم أو فطر، وهذا من الناحية الاجتماعية قول قوي, حتى لو صححنا القول الثاني الذي نحكم فيه باختلاف المطالع فيجب على من رأى أن المسألة مبنية على المطالع ألا يظهر خلافاً لما عليه الناس"[ الشرح الممتع:6/322].

نسأل الله - عز وجل - أن يمُنَّ على هذه الأمة بالتوحد والائتلاف على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، اللهم وفقنا لطاعتك، وجنبنا معصيتك، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


مجموعة زاد