كسر الإرادة وَحرب العقول والقلوب
أُكرر أننا على ثقةٍ تامة في الرئيس المنتخب د / محمد مرسي وجميع معاونيه، ولكن المقصود هو التنبيه على عدم تكرارِ الخطأ الذي وقعنا فيه مِراراً وهو الثقة المفرطة، وحُسن الظن .. حتى مع من غُلفوا بغلاف الوطنية ودُفِعَ بهم بعد ثورة 25 يناير فجأة.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
- مختصر تحليلي للمشهد المصري في ضوء استراتيجية أمنية أمريكية جديدة لمُواجهة المَدّ الإسلامي.
- (الكود الأمريكي) للمواصفات القياسية للتيار الإسلامي:
بصفة عامة؛ وبالطبع في مصر وهنا نَرجع إلى وثيقة أمريكية كَشفت عنها صَحفية فرنسية ونشرتها في شبكة المعلومات، مستفيدة من القانون الأمريكي (سرية نشر المعلومات والذي يَنص أنه يُمكن نشر الوثائق السرية بعد انقضاء 20 عاماً على كتابتها)؛ حيث وجدتها هذه الصحفيّة بمكتبة الكونجرس الأمريكي.
وتم كتابة هذه الوثيقة في عهد الرئيس الأمريكي السابق كارتر وفي حضور لجنة الأربعين -وسيأتي توضيح ما هي لجنة الأربعين الأمريكية في دراسات قادمة بإذن الله لما لها من أهمية كبيرة في صناعة القرار الأمريكي وتحديدًا الخارجي-.
تنص هذه الوثيقة على أنه بعد القضاء تماماً على الخطر الأحمر (الشيوعية العالمية)؛ تم التأكيد على أن الخطر القادم وهو الأقوى من نوعه هو الخطر الأخضر (التيارات الإسلامية) حيث تم تقسيمها الأقسام الآتية طبقاً للوثيقة :
1- القسم الأول:
وهو الإسلام الجهادي (الإرهابي)؛ وهو طبقاً للكود الأمريكي أخطر الأقسام على الإطلاق، وهو في المفهوم الأمريكي يعنى أي فكر إسلامي يُحاول الاشتباك مع الواقع السياسي بقواعده الإسلامية الأصيلة وليس بقواعد أمريكا السياسية سواء حاول فرض نفسه بالقوة، أو حتى بأساليب العصر وما يُسمى بالديمقراطية؛ وهذا القسم يجب استئصاله من جُذوره وعدم التعاطي معه، واستخدام سياسة العزل والإقصاء وطرق أُخرى غاية في الخُبثِ والدهاء.
في كلِ الأحوال عدم السَّماح له بالاشتباك مع الواقع، والتشويه المستمر.
2- القسم الثاني:
وهو الإسلام المعتدل (الوسطيّ)؛ وهو طبقاً للكودِ الأمريكي يَظلُ خطراً ولكن بدرجة أقل من القسم الأول؛ حيث تَكمُن خطورته بأنه يُعد مصدرٍ لتفريخ القسم الأول. ولكن يُمكن التعامل معه بحذرٍ شديد، ويُمكن استخدام سياسة العصا والجزرة مع هذا القسم (صِدامٌ مباشر تارةً، احتواءٌ تارة أُخرى)، ومن الممكن عَقد تبادل المصالحِ المرحلية السياسية مع هذا القسم.
3- القسم الثالث:
وهو الإسلام الصديق (الإسلام الليبرالي)؛ وهذا القسم طبقاً للكودِ الأمريكي لمواصفات التيارات الإسلامية ليس منه أي خطورة بل هو الامتداد الطبيعي للنظام العالمي الجديد؛ ما دامَ الناس لن تَتخلى عن معتقداتهم وهو الرهان الأمريكي في ثورات الربيع العربي كبديلٍ للأنظمة الديكتاتورية والتي باتت لا تُلبي مُتطلبات هذا النظام الجديد.
ويجب دعم هذا القسم دعماً كبيراً ودَفعه لتولي مراكز القيادة في البلدان الإسلامية ولا سيما مصر (أم الدنيا).
- وبتطبيق الكود الأمريكي للمواصفات القياسية للتيارات الإسلامية طبقاً للوثيقة سَالفة الذكر؛ على ثورات الربيع العربي وتحديداً ثورة 25 يناير، وكذلك تفسيراً لعدم اكتراث أمريكا إلى فزَّاعة الأنظمة الديكتاتورية البائدة (الإسلاميين) نستنتج الآتي:
1- أن أمريكا اطمأنت إلى نسبة الخطورة المُحتملة من التيارات الإسلامية. لأن جماعة الإخوان المسلمين (حزب الحرية والعدالة)؛ لها خبرة كبيرة مع التعاطي السياسي على ضوء تجاربها العديدة سواءً مع أمريكا أو مع النظام العالمي وهي في الأساس مُصنّفٌ طبقاً للكود الأمريكي في القسم الثاني.
2- وأنه تم ترقية تيار الدعوة السلفية والتي تمثل التيار السلفي (القوة الكامنة) في المشهد السياسي في المرحلة الانتقالية من القسم الأول المحظور إلى القسم الثاني طبقاً للكود سابق الذكر.
والسؤال الهام هنا:
هل مازال هناك تيارات إسلامية يُمكن إدراجها في القسم الأول للتصنيف الأمريكي؟ وإذا كانت موجودة ما مَدى قوتها وتأثيرها؟ وهل هناك ضمانات كافية من المجلس العسكري ومن الأطراف المختلفة للسيطرة على هذه التيارات في حال وجودها؟ وما هي هذه الضمانات؟
استراتيجية أمريكا الأمْنية الجديدة للجنرال بيترايوس للتعاطي مع زخم الإسلام السياسي واستبدال طرق المواجهة.
قامت الحكومة الأمريكية منذ عام ونصف تقريباً بعدة تغييرات على صعيد الوزارات الأمنية، وكان أبرز هذه التغييرات هو تعيين رئيس المخابرات الأمريكية ليون بانيتا وزيراً للدفاع خلفاً لروبرت جيتس، وتعيين قائد القوات الامريكية في أفغانستان (بيترايوس) رئيساً للمخابرات الأمريكية، وهو الذي كان من قَبل قائداً للقوات الأمريكية في العراق، ومن ثم تولى قيادة القوات الوسطى، ومن ثم أُضيفت له مَهمّة قيادة القوات الأمريكية في أفغانستان خلفاً لماكريستال، بعد أن قام الأخير بمعارضة سياسة أوباما علناً والتحدث ضده في واحدة من أشهر المجلات الأمريكية وهي مجلة رولنغ ستون. وهذا يُستدل منه عزم الإدارة الأمريكية باعتماد استراتيجيات بيترايوس التي شكلها من واقع خبرته في مواجهة التيارات الإسلامية المختلفة، ووضعها كعنوان رئيسي للولايات المتحدة في التعامل مع التيارات الإسلامية فيما بعد ثورات الربيع العربي التي ستفرزُ بلا شك ظهور إسلام سياسي كبديلٍ للأنظمة السابقة كما سيأتي توضيحه.
بدايةً: إن هذه التغييرات تتمحور حول الاستراتيجية الجديدة في مكافحة التمرد (Counter Insurgency) أو (COIN) اختصاراً، وهي الاستراتيجية التي وضعها الأمريكان لمقاومة المد الإسلامي في العالم بدلاً من المواجهات العسكرية المباشرة و ضرورة الخروج من عَقلية القوة المفرطة والحرب التقليدية التي كانوا يحلّون بها جميع المشاكل التي يواجهونها إلى عقلية جديدة تضع استراتيجية متعددة المحاور والجوانب، وتطبيقاتها هي ما يُسمى حرب العقول والقلوب.
1- تضمنت هذه الاستراتيجية اعتراف الأمريكان عدم قدرتهم على هزيمة التيار الإسلامي الحقيقي هزيمة نهائية وأن هذه الحرب تحتاج إلى أجيالٍ وأنها قد تستمر خمسين سنة أخرى.
2- لضمان نجاح ما سَبق يجب أولاً انتزاع زِمام المُبادرة من أتباع المشروع الإسلامي وإشغالهم بأنفسهم، وتحويلهم من موضع الهجوم إلى موضع الدفاع وهي ما اصطلحوا عليه بـ "تغيير اتجاه المد" (turning the tide). أي أن زمام المبادرة تنتزع من الإسلاميين وتدفعهم إلى حالة الدفاع المستمر؛ لتحقيق نجاح هذه الاستراتيجية يجب العمل على مُختلف الجوانب والصعد الإعلامية والمعلوماتية.
3- بدء الأمريكان بتطبيق هذه الاستراتيجية في العراق منذ نهاية عام 2005م، ولكن مَعالمها النهائية لم تتوضح إلاّ في منتصف سنة 2007م، حيث أنهم استغرقوا أكثر من سنتين في الإعداد والترتيب والعمل الدؤوب الذي أثمر في النهاية العديد من النجاحات لهذه الاستراتيجية الأمريكية. فقد قام الأمريكان بتنفيذ العديد من الخطط الخبيثة على مُختلف الصُعد والتي تبدو في الوهلة الأولى خططاً منفصلة، ولكن تبيّن أنها جميعها مدروسة وموضوعة بحيث تخدم هّذه الاستراتيجية الواحدة. ولعلي ألخص تفاصيلها في النقاط الآتية:
أولاً:
أدرك الأمريكان أن قوة المشروع الإسلامي الرئيسية تكمُن في الدعم الشعبي الهائل له، واصطفاف الناس الكبير خلفه، ولذا تَوجب عليهم معالجة هذا الأمر وسحب الدعم الشعبي منه وشنُّوا حرباً ضروساً لتحقيق هذا الأمر واصطلحوا على تسميتها بحرب القلوب العقول، ولعلَّ أبرز معالم هذه الحرب تتلخص في الآتي:
- شن الأمريكان حرباً إعلامية قذرة هدفت لتشوية صورة التيار الإسلامي وحذف صورة الطهورية والنقاء من عقول الناس؛ والتي تركزت في عقولهم بعد أن شاهدوها بأم أعينهم. ولتحقيق ذلك جنّدوا عشرات الفضائيات وآلاف الإعلاميين ( cbc < on tv Dream <والنهار ... الخ) وبدئوا ببث الإشاعات وخلق الأكاذيب، وبدأنا نسمع عن حُرمة وضع الخيار والطماطم مع بعضها، وأن على الرعاة أن يلبسوا الأغنام ملابس لتغطية عوراتها، وعن قطع أصابع المدخنين، وقتل الناس بعد اختطافهم من أجل الفدية وغيرها من الأباطيل التي كرروها ليلَ نهار، لعل التكرار يُضفي الصدقية على تلك الأكاذيب. وقد ساعدهم في هذا شدة أعداء الإسلام من اليساريين والليبراليين وبعض أصحاب الأديان الأُخرى وحتى أصحاب المناهج الهدامة والسذاجة من أبناء التيار نفسه، والإعلام الموالي للغرب ولأمريكا في بلادنا.
كل ما سَبق؛ لم يُحدث الأثر المطلوب، ولم يتخلى الناس ولم يَبتعد الناس عن فكرة المشروع الإسلامي، وكانت القشة التي قَصمَت ظهر البعير وجعلت الناس يُصابون ببعض من الإحباط هو الاختلاف الشديد داخل التيار نفسه، فهذا الاختلاف، الذي من المُؤكد أنه مخططٌ له، وأنه بَين بعض أتباع التيار السلفي من جِهة والقاعدة السلفية العريضة من جهة أُخرى؛ حيث أن هذا الاختلاف هو الذي ترتكز عليه الإدارة الأمريكية في هذا المخطط الجديد وهو أيضاً الذى دفع الناس للتخلي عن المُنادِين بتطبيق الشريعة الإسلامية والمُدافعين عنها بأنفسهم (المجاهدين) في مناطق كثيرة مثل العراق وافغانستان وأخيراً يتم تنفيذه في الصومال، وهو الذي تَوّج الجهود السابقة كلها للأمريكان وحقق نجاحات أكبر من المواجهة العسكرية العنيفة والتي لم ولن تجدي نفعاً مع أصحاب عقيدة المشروع الإسلامي والتي لخصتُها في النقاط السابقة.
ومما تقدم نستطيع ان نضع خلاصة هذه الدراسة للمشهد السياسي الحالي كالتالي وهذا على حسب الرؤية الأمريكية وليست رؤيتي
1- أن حركة الإخوان المسلمين هي الأقوى تنظيمياً، ويمكن التعامل معها والمشاركة معها ولكن بحذرٍ شديد ويكون الأسلوب هو سياسة الاحتواء وليس الصدام طبقاً لمتطلبات المرحلة.
2- تم النجاح في استدراج تيار الدعوة السلفية (المتصدرة المشهد) سياسياً ممثلة للتيار السلفي العريض من القسم الأول إلى القسم الثاني (طبقاً للتصنيف الأمريكي ولذلك يمكن التعامل معه بنفس الطريقة السابقة ولكن بصورة غير مباشرة).
3- دعم الإسلام الليبرالي (والليبراليين الجُدد) دعماً مطلقاً، ومُحاولة عقد الصفقات بينَه و باقي الفصائل الأُخرى والتي تُمثّل الأيدولوجيات المصنوعة أمريكياُ والمَدعومة بشدة من النظام العالمي الجديد.
4- ضمانات مُطلقة من المجلس العسكري في هذه الفترة؛ لضمان عدم عرقلة إعادة التشكيل وانفلات الأوضاع وأيضاً ضمان أمن إسرائيل؛ حتى نقل السلطة بالكيفية المطلوبة وبالشكل المرضي لمُستوى صلاحيات أصحاب المشروع الإسلامي إلى مُستوى صلاحيات مُمثليّ النظام العالمي الجُدد -الذي سيعلن عن أسمائهم في المرحلة المقبلة- لتولي مناصب ذات صلاحيات معينة.
وأخيراً أُكرر أننا على ثقةٍ تامة في الرئيس المنتخب د / محمد مرسي وجميع معاونيه، ولكن المقصود هو التنبيه على عدم تكرارِ الخطأ الذي وقعنا فيه مِراراً وهو الثقة المفرطة، وحُسن الظن .. حتى مع من غُلفوا بغلاف الوطنية ودُفِعَ بهم بعد ثورة 25 يناير فجأة.
م / خالد غريب
المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية والمعلومات
- التصنيف: