تأملات شرعية في ظل أحداث الربيع العربي

منذ 2012-08-10

فإن من أهم الأمور التي ينبغي الوقوف عندها في خضم هذه الأحداث أن يؤمن المسلم بأن ما يجري اليوم من أحداث ونوازل في الأمة إنما هو بعلم الله عز وجل وإرادته {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253].وإرادة الله تعالى ومشيئته ليست مشيئة مجردة، بل هي مشيئة صادرة عن حكمة بالغة...

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن من أهم الأمور التي ينبغي الوقوف عندها في خضم هذه الأحداث أن يؤمن المسلم بأن ما يجري اليوم من أحداث ونوازل في الأمة إنما هو بعلم الله عز وجل وإرادته {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253].

 

وإرادة الله تعالى ومشيئته ليست مشيئة مجردة، بل هي مشيئة صادرة عن حكمة بالغة، والعارفون بربهم عز وجل يعلمون ذلك ويوقنون به، ولذا فهم يحسنون الظن بربهم ويحمدونه على كل ما يقدره، ويوقنون بأن عاقبة هذه الأحداث التي يقدرها الله عز وجل هي خير ومصلحة ولطف بالموحدين إن شاء الله تعالى، ومع أنها مؤلمة إلا أننا نلمس لطف الله عز وجل وحكمته ورحمته في أعطافها.

 

وهذه وقفات خمس تجاه التغيرات التي تجري الآن في عدد من البلاد العربية:


الوقفة الأولى:                                                                                               

إن من حكمة الله البالغة في هذه الأحداث أن يعرفنا على سننه التي لا تتبدل ولا تتحول، ومن معرفة هذه السنن الإلهية يتضح الطريق المستقيم, ويهتدي المسلم ويوفق إلى الموقف الحق والمنهج الصائب، يقول الله عز وجل آمراً لنا بالنظر في سننه المطردة:{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137].

{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].

 

لذا وجب على المسلمين بعامة وعلى دعاة الحق والمجاهدين في سبيل الله عز وجل بخاصة أن يقفوا طويلاً مع كتاب الله عز وجل وما تضمن من الهدى والنور، ومن ذلك ما تضمنه من السنن الربانية؛ لأن في معرفتها والسير على هداها أخذاً بأسباب النصر والتمكين والفلاح، ونجاة مما وقع فيه من يجهل سنن الله تعالى في الأحداث؛ فليس لديه إلا الحيرة والخوف والقلق والتخبط والعناء.


إن من السنن التي ينبهنا الله عز وجل إليها في مثل هذه الأحداث هاتين السُـنّتين:
1- سنة الابتلاء والتمحيص والمدافعة:
قال الله تعالى {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]، ويقول عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، وقال في نفس السورة: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]، وقال الله عز وجل معقباً على غزوة أحد: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] وقال سبحانه في نفس الحدث: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:166].

 

وبالنظر إلى هذه الأحداث الضخمة المتسارعة في ضوء سنة الابتلاء والتمحيص نرى أن هذه السنة المطردة الثابتة تعمل الآن عملها بإذن ربها سبحانه وتعالى، لتؤتي أكلها الذي أراده الله عز وجل, ومن ذلك تمحيص عباده المؤمنين ولطفه بهم ورحمته، وتميز الصفوف حتى تتنقى من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة وينكشف أمرهم للناس، وحتى يتعرف المؤمنون أنفسهم على أنفسهم وما فيها من الثغرات والآفات التي تحول بينهم وبين التمكين والنصر فيتخلصوا منها ويغيروا ما بأنفسهم؛ لأن الله عز وجل لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].

 

2- سنة الإملاء والاستدراج للكفار:قال الله تعالى عن هذه السنة :{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178] وهذه السنة تعمل عملها في هذه الأوقات، وذلك في معسكر أهل الكفر والنفاق وبخاصة أولئك الذين بلغ بهم الكبر والطغيان مبلغاً عظيماً، ولا يزالون يزدادون ظلما وطغيانا، ومع ذلك نراهم ممكنين ولهم الغلبة الظاهرة، كما هو الحاصل الآن في كثير من بلدان المسلمين، وكما هو الحاصل من دولتي الكفر والطغيان أمريكا واليهود، حيث ظلموا وقالوا بلسان حالهم ومقالهم: من أشد منا قوة! وقد يحيك في قلوب بعض المسلمين شيء وهم يرون هؤلاء الطغاة يبغون ويظلمون ومع ذلك هم متروكون لم يأخذهم الله بعذاب من عنده!


ولكن المسلم الذي يفقه سنة الله عز وجل ويتأملها ويرى آثارها وعملها في الأمم السابقة لا يستغرب ما يرى؛ لأنه يرى في ضوء هذه السنة أن الظلمة اليوم يعيشون سنة الإملاء والاستدراج التي تقودهم إلى مزيد من الظلم والطغيان والغرور، وهذا بدوره يقودهم إلى نهايتهم المحتومة وهي الهلاك والقصم في الأجل الذي قد ضربه الله لهم، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59].

 

ففي الإملاء للظالمين وتركهم يتسلطون على المسلمين في مدة من الزمن ابتلاء وتمحيص للمؤمنين، حتى إذا آتت سنن الابتلاء أكلها وتميز الصف المؤمن الذي خرج من الابتلاء ممحصاً نظيفاً، عندئذ تكون سنة الإملاء هي الأخرى قد أشرفت على نهايتها؛ فيحق القول على الظالمين ويمحقهم الله كرامة ونصراً للمؤمنين الممحصين الذين يمكن الله لهم في الأرض ويستخلفهم فيها بعد محق الكافرين، قال الله عز وجل: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141]، فذكر الله سبحانه التمحيص قبل المحق. ولو محق الله عز وجل الكفار قبل تهيؤ المؤمنين الممحصين فمن يخلف الكفار بعد محقهم؟


ولله عز وجل الحكمة البالغة في وضع السُـنَّتين –سنة الابتلاء وسنة الإملاء- في آيتين متتاليتين في سورة آل عمران قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178] ثم قال بعدها {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179]، ولعل من الحكمة _والله أعلم_ أن يعلمنا الله عز وجل أن هاتين السنتين متلازمتان ومتزامنتان وأن إحداهما تهيئ للأخرى.

 

الوقفة الثانية:
اختلفت أراء المراقبين من فئات المسلمين لهذه الأحداث وتفسيرها ما بين ناظر إلى هذه الأحداث بأنه عفوية غير مخطط لها, وإنما جاءت لتراكمات وضغوط شديدة على الشعوب في تلك البلدان في دينها ومعيشتها وأعراضها. وبعد أن بلغ الظلم والكبت منتهاه إنفجرت تلك النفوس المكبوتة، لتعبر عن معاناتها في مظاهرات وثورات انتهت بأفول نجم الطواغيت في تلك البلدان.

 

وفي المقابل لهذا الرأي هناك من ينظر إلى هذه الأحداث بأنها نتيجة تخطيط وتواطئ أمريكي مع الفئات الليبرالية، ومن تراهم أمريكا من المعتدلين الإسلاميين في إسقاط تلك الأنظمة الديكتاتورية التي جثمت على صدور شعوبها ردحاً من الزمن، وأذاقتها الظلم والأمرين بعد أن استنفدت أغراضها وبلغت كراهية الشعوب لها مبلغاً لا يحتمل، وتسبب ذلك في كراهية أمريكا التي كانت تدعم هذه الأنظمة الظالمة،

 

فأرادت أمريكا أن تخفف من كراهية الشعوب الإسلامية لها، ولاسيما بعد غزوها للعراق وأفغانستان ودعمها الواضح الصريح لدولة اليهود في فلسطين، ولذا يرى أصحاب هذه النظرة أن الأصابع الأمريكية وراء هذه الأحداث، وأن أمريكا أرادت تغيير الوجه الحاكم في تلك البلدان بحيث تخف الوطأة وتخف الكراهية، بعد أن تأتي بخليط من الإسلاميين والليبراليين على نمط التجربة الإسلامية التركية (الإسلام الأمريكاني)، وحينها تمرر أمريكا ما تريد من أفكار وتغييرات في المنطقة بصورة غير استفزازية مقبولة من الشعوب دون إنكار لها.

وهناك رأي ثالث وسط بين الرأيين السابقين ولعله هو الأقرب إلى الصواب، وهو قول من يقول أن هذه الأحداث والثورات جاءت دون تخطيط مسبق لها من الخارج، وإنما هي تنفس المكبوت وثورة المظلوم على الظالمين، وهذا مقتضى ما أشير إليه في المقدمة من أنها من تقدير العزيز العليم اللطيف الخبير الحكيم، وأنها جاءت في وقتها الذي أراده الله عز وجل بحكمته ورحمته وعلمه ولطفه وعزته وسنته في الظالمين، وهي مقتضى أسمائه سبحانه الحسنى ومقتضى سنته التي لا تتبدل ولا تتحول.


ويرى أصحاب هذا الرأي أن هذه الأحداث وإن لم يخطط لها أعداء الإسلام من الخارج إلا أنهم بذلوا وسعهم في استثمارها، وركبوا موجتها ساعين إلى أن لا يقطف الثمرة من تسميهم بالإسلاميين الأصوليين، وأن يحولوا بينهم وبين استثمار هذه الفرص والفوز بها فسعوا جاهدين لدعم التيار الليبرالي ومن تسميهم بالمعتدلين الإسلاميين في قطف ثمرة هذه الثورات، والتي يضمن الغرب وأمريكا في بقاء الولاء لهم وبقاء هذه الأنظمة الجديدة تدور في الفلك الأمريكي، ولكن بصورة غير ظاهرة وغير استفزازية كما كانت في الأنظمة السابقة .


وهذا هو شأن السياسة الأمريكية فعندما تفشل في تحقيق هدف كبير لها فإنها ترضى بما دونه من الأهداف، ولو كان لا يعجبها فهي لما فشلت في القضاء على الإسلام والاطمئنان في دياره رضيت بما دون ذلك، ولو كان فيه ظهور وحرية جزئية للمسلمين ودعوتهم. وهذا شأن الشيطان الرجيم حيث أنه لا ييأس من إظهار الشر وإضلال الناس فهو يبدأ بإضلالهم وإيقاعهم في الكفر والشرك الأكبر، فإن فشل في ذلك رضي بإيقاعهم في البدع، فإن فشل في ذلك ذهب إلى إيقاعهم في الكبائر وهكذا؛ حتى إذا يأس من عصيانهم لله تعالى أشغلهم بالمباحات وتقديم المفضول على الفاضل وهكذا السياسة الأمريكية الشيطانية.


هذا ما يخطط البشر الجاهل الظالم، ولكن لا يبقى ولا يكون إلا ما يريده الله عز وجل ويدبره فهو سبحانه مدبر الأمور بعلمه وحكمته وعدله ولطفه ورحمته وعزته, والجميع في قبضته ونواصي الخلق بيده, ولا يأتي من ربنا عز وجل إلا الخير لعباده المؤمنين، ومن سنته سبحانه أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله.


الوقفة الثالثة:
اختلفت مواقف المحبِّين لهذا الدين إزاء النتائج التي تمخضت عن هذه الأحداث، وإزاء القائمين عليها والماسكين بزمام الأمور فيها، ونشأ من جراء ذلك ثلاثة مواقف: طرفان ووسط، وخير هذه المواقف أوسطها، والله أعلم.


الطرف الأول:
المُفرِطون في التفاؤل، الذين نظروا إلى هذه الأحداث وما تمخض عنها من تخفيف الوطأة على المسلمين والحرية في تطبيق بعض أحكام الإسلام بأن ذلك هو النصر المنشود للإسلام والمسلمين، وأن هذا العهد الجديد الذي خلف العهد البائد هو تمكين للإسلام في الأرض وعودة إلى الحكم بالشريعة بين الناس.


الطرف الثاني:
ويأتي مقابلاً للطرف الأول ومضادا له، وهم الذين أفرطوا في التشاؤم من هذه الأحداث ونتائجها، فشككوا في كل شيء، ولم يروا أن شيئاً قد تغير، ولم يعيروا إهتماماً الخير الذي ظهر من هذه الأحداث ولا الشر الذي خفت، ووقفوا خصوماً للقائمين عليها ومن تعاطف معهم.


الموقف الوسط:
وهم الذين استبشروا من هذه الأحداث خيراً, ففرحوا بما فتح الله فيها من أبواب الخير وارتفاع صوت الإسلام, وفرحوا بما أغلق بها من أبواب الشر والظلم وسقوط الظالمين، لكنهم لم يروا أن هذه الأحداث ونتائجها هو النصر المنشود للإسلام والمسلمين والتمكين لهم في الأرض، حيث لم تتوفر شروط ذلك بعد، بل إن في الواقع من الموانع ما يمنع ذلك، ولعل في التغييرات الجديدة من الأسباب ما يزيل بها سبحانه هذه الموانع حتى يتحقق نصر الله الموعود، فقد تكون هذه التغيرات والأحداث برزخاً بين عهدين: عهد الظلم البائد وما كان فيه من إقصاء الإسلام ومحاربة الدين وأهله، وبين عهد التمكين المنشود للإسلام.

وإن أحسن الدعاة إلى الله اغتنام هذه الأحداث واستعلوا على حظوظ النفس والدنيا وجمعوا كلمتهم ووحّدوا صفوفهم فإن نصر الله عزوجل لآت بإذنه سبحانه. وعندها تكون هذه الأحداث إرهاصاً للعودة الحقة للإسلام والحكم بشريعته، أما إن تخلفت أسباب وشروط النصر وتفرق الدعاة واختلفوا بينهم وضعف الإخلاص وقلّت المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم فإن نصر الله عز وجل لا يأتي والحالة هذه، 

فسنة الله عز وجل لا تحابي أحداً. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد ومن معه من أصحابه الكرام قاسوا من آلام الهزيمة الشيء العظيم وليس في الأرض من يعبد الله سواهم ولكن لما تخلف شرط من شروط النصر تخلف النصر.
قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152]. وقد حذر الله عز وجل المؤمنين من أسباب الفشل فقال سبحانه {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].

 

الوقفة الرابعة:
وفي هذه الوقفة أوصي نفسي وإخواني الدعاة والمجاهدين أن لا نغفل عن القواعد والموازنات الشرعية المستنبطة من أدلة الأحكام الشرعية، ولاسيما في خضم هذه الأحداث المتسارعة والنوازل الكبيرة، حيث الحاجة كبيرة وماسة إلى فقه الموازنات، وذلك عند تعارض المفاسد والمصالح مع بعضها، أو عند تعارض المصالح والمفاسد، لأن في الغفلة عن هذه القواعد والموازنات خطراً كبيراً يؤدي إلى اختلاف الأمة وتفرقها وشماتة أعدائها بها.

 

ولكي تتضح هذه المسألة المهمة نُنَزِّلها على ما يدور الآن من الأحداث والثورات في بعض بلدان المسلمين:
فقد يرى بعض الدعاة أو المجاهدين كثيراً من الملاحظات على هذه الثورات والقائمين عليها فيقفون عندها دون النظر إلى ما فتح الله عز وجل بسببها من أبواب الخير وأغلق بها من أسباب الشر، وبناء على هذه النظرة عندهم يقفون منها موقف العداء والخصومة، ولو طبقوا قاعدة الموازنات التي منها: ارتكاب أخف الضررين عند التعارض، والأخذ بأكبر المصلحتين عند التعارض، والمحافظة على الأصل الذي هو الاجتماع والائتلاف وإن فات بسببه شيء من الفروع، فلو أنهم تنبهوا لهذه الموازنات وفكَّروا فيها بعمق لما كانت هذه المواقف العدائية من هذه الثورات.


ولا يعني هذا الكلام المجاملة في الحق وإقرار الباطل، بل يجب بيان الحق من الباطل، ومناصحة المخالفين للحق، لكن دون المنابذة والافتراق ما داموا في الجملة من أهل السنة الساعين في نصرة هذا الدين، وتتأكد هذه المواقف في مثل أحوال الأمة التي تمر بتغيرات كبيرة وهي لاتزال في ضعفها وتفرقها وبعدها عن دينها، ففي مثل هذه الأحوال تحتاج الأمة ولا سيما دعاتها إلى توحيد صفوفهم وإن اختلفوا في بعض المسائل تغليباً لمصلحة الاجتماع، واتقاءً لمفاسد الفرقة ولا سيما في مواجهة الكفر والطغيان والزندقة.


وقد روى الذهبي في السير أن بعض علماء السنة اتفقوا مع الخوارج على مواجهة الدولة العبيدية فقال: وعوتب بعض العلماء في الخروج مع أبي يزيد الخارجي فقال: وكيف لا أخرج وقد سمعت الكفر بإذني! وخرج أبو إسحاق الفقيه مع أبي يزيد الخارجي وقال: هم أهل قبلة وأولئك ليسوا أهل قبلة وهم بنو عدوالله، فان ظفرنا بهم لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد لأنه خارجي اهـ (سير أعلام النبلاء [15/154-155]).


وهذا شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى لما واجهت الأمة في بلاد الشام غزو التتار اجتمع مع أهل العلم في ذلك الزمان، وكان فيهم الأشعري والصوفي من غير الغلاة، وذهبوا إلى ملك التتار، ثم جيّش الأمة لقتالهم على اختلاف مشاربهم، وهذا من فقهه رحمه الله تعالى؛ إذ لو وقف مع الخلاف بين أهل المذاهب في وقته وانشغل بمخاصمتهم لاجتاح العدو بلدان المسلمين وأباد الجميع دون تفريق بين مذهب ومذهب، وهذا لا يعني تساهل ابن تيمية فيما عند الطوائف المبتدعة من باطل، بل كان هذا الموقف في ظرف معين، وإلا فلا يخفى بيانه للسنة ومجادلته لأهل البدع وبيان باطلهم في رسائله وكتبة ومناظراته لهم.

ونظراً لأهمية هذه المسألة وخطورتها أسوق كلاماً نفيساً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يتحدث في صميم المسألة، ويبين فيها أهمية فقه الموازنات وقواعد الترجيح عند التعارض فيقول:
فالتعارض إما:
1- بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما؛ فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح.
2- وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما؛ فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما.
3- وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما؛ بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة؛ وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة؛ فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة.

فالأول: كالواجب والمستحب; وكفرض العين وفرض الكفاية; مثل تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع، وكتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين، وتقديم نفقة الوالدين عليه، كما في الحديث الصحيح: «أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على مواقيتها. قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله» (صحيح البخاري؛ برقم: [2782]، صحيح مسلم؛ برقم: [85])، وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسنة...

 

والثاني: كتقديم المرأة المهاجرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب، كما فعلت أم كلثوم التي أنزل الله فيها آية الامتحان  {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} [الممتحنة من الآية:10]، وكتقديم قتل النفس على الكفر، كما قال تعالى: {والفتنة أكبر من القتل} [البقرة من الآية:217]، فتقتل النفوس التي تحصل بها الفتنة عن الإيمان؛ لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس.

 

وأما الثالث: فمثل أكل الميتة عند المخمصة; فإن الأكل حسنة واجبة لا يمكن إلا بهذه السيئة، ومصلحتها راجحة، وعكسه الدواء الخبيث; فإن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج؛ لقيام غيره مقامه; ولأن البرء لا يتيقن به وكذلك شرب الخمر للدواء.

 

فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين:
دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها.

وتحصيل ما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها.

 

والحسنة تترك في موضعين:                                                                                

-إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها.                                                                           

-أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة.

 

هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية... (وهو) مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه وإن اختلفت في أعيانه، بل ذلك ثابت في العقل كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، وهذا ثابت في سائر الأمور.


ويرجحون وجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان، كما قال بعض العقلاء: "ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة واحدة بلا سلطان". ثم السلطان يؤاخذ على ما يفعله من العدوان ويفرط فيه من الحقوق مع التمكن.بل لو كانت الولاية غير واجبة وهي مشتملة على ظلم، ومن تولاها أقام الظلم، حتى تولاها شخص قصده بذلك تخفيف الظلم فيها, ودفع أكثره باحتمال أيسره، كان ذلك حسناً مع هذه النية وكان فعله لما يفعله من السيئة بنية دفع ما هو أشد منها جيدا.


وهذا باب يختلف باختلاف النيات والمقاصد، فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه مالا فتوسط رجل بينهما ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم وأخذ منه وأعطى الظالم، مع اختياره أن لا يظلم ودفعه ذلك لو أمكن: كان محسنا، ولو توسط إعانةً للظالم كان مسيئا.


وإنما الغالب في هذه الأشياء فساد النية والعمل، أما النية فبقصده السلطان والمال, وأما العمل فبفعل المحرمات وبترك الواجبات لا لأجل التعارض ولا لقصد الأنفع والأصلح.

فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة.


وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة.


وهذا باب التعارض، باب واسع جداً، لاسيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم, فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، 

 

والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات; لكون الأهواء قارنت الآراء؛ ولهذا جاء في الحديث«إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات» (شرح حديث جبريل لابن تيمية: ص[426]، خلاصة حكم المحدث: مرسل). 


من هذا الكلام النفيس والفقه العميق يتبين لنا أهمية العلم بفقه الموازنات وخطورة الجهل به أو إغفاله، وبالنظر في ضوء هذا الفقه إلى ما يحدث اليوم من النوازل والفتن في بلدان المسلمين يتبين لنا خطأ من يجعل نفسه –من بعض الدعاة والمجاهدين- خصماً ومناوئاً لمن يقود هذه الأحداث والثورات وفيها كثير من الإسلاميين وذلك لما صدر عنهم من بعض المواقف والتصريحات الخاطئة، فيحدث من جراء ذلك فرقة وفتنة بين الساعين لنصرة هذا الدين مما ينشأ عنها الفشل والهزيمة لهم, ومما يهيئ لأنصار الباطل والظلمة وأهل الزندقة والكفر والعلمنة المناخ الملائم لقطف ثمرة هذه الأحداث وخطف النصر والتمكين لصالحهم.

فالوصية لأنصار هذا الدين أن يجتمعوا أمام أهل الزندقة والكفر، وأن يُعملوا فقه الموازنات وقواعد الترجيح الشرعية فيما يحقق الخير والصلاح للأمة، ولو كان في هذا الخير شيء من الدخن والمفاسد، والعبرة بارتكاب أخف الضررين وتحقيق أعلى المصلحتين عند التعارض، ولا شك أن تولي المنتسبين لهذا الدين والحكم بشريعته أصلح وأعظم خيراً وأقل فساداً من تولي أعداء هذا الدين الكارهين لشريعته، 

 

ولقد أفتى بعض أهل العلم بأنه لوكان في بلد من بلدان الكفر رجلان كافران يُطلب التصويت على أحدهما ليكون رئيساً لتلك الدولة، وكان أحدهما أخف ضرراً على المسلمين في تلك البلاد, وحرية المسلمين تكون في عهده أكثر من الآخر، لكان على المسلمين التصويت له والسعي في إسقاط الآخر، وهذا من الفقه الدقيق والعلم الراسخ.


الوقفة الخامسة:
لو قدّر الله عز وجل أن يُمكِّن لطائفة من المسلمين في بقعة من الأرض وبلد من البلدان ليحكموها بشرع الله عز وجل ويأمرون فيها بالمعروف وينهون عن المنكر فهل يجب على هؤلاء الممكَّنين المبادرةُ إلى تطبيق أحكام الإسلام كلها على الناس، وإقامة الحدود والعقوبات عليهم دفعة واحدة؟


هذه الوقفة فرع عن الوقفة السابقة، والجواب عنها يحكمه فقه الموازنات والنظر إلى المصالح الكبرى للإسلام والمسلمين، وتطبيق قواعد الترجيح الشرعية بارتكاب أعلى المصلحتين ولو ذهبت أدنهما وارتكاب أهون المفسدتين لتفويت أعظمهما.


فإذا كان في إقامة الحدود من أول يوم ومعاقبة المخالف لأحكام الإسلام مفسدة عامة ينفر بسببها الناس من الإسلام أو ينحازون إلى أعدائه بسبب جهلهم أو عدم قدرتهم على أخذ أحكام الإسلام كلها وهْلة واحدة فإنه قد يكون من الحكمة والمصلحة الراجحة الرفق بالناس والتدرج معهم في تطبيق أحكام الشريعة حتى تذل نفوسهم لذلك وتنقاد.

وعندما يقال: التدرج في تطبيق بعض الأحكام فلا يعني ذلك التدرج في بيانها، فبيان دين الله عز وجل وحدود شريعته وأحكامها ينبغي أن يكون من أول يوم يتمكن فيه أنصار الله عز وجل, وإنما المقصود: تأجيل الإلزام بها ومؤاخذة الناس على مخالفتها.


وقد جاء في سيرة الابن الصالح عبدالملك بن الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز رحمهم الله أنه قال لأبيه: يا أمير المؤمنين، ما أنت قائل لربك غدا إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تمتها أو سنة لم تحيها؟ فقال له أبوه: رحمك الله وجزاك من ولد خيرا، فوالله إني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير، يا بني! إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا علي فتقا تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون علي من أن يهراق في سببي محجمة من دم، أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيى فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين؟.

ولابن القيم رحمه الله إشارة جميلة إلى أثر الإخلال بهذا الأصل، فقد (وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به; فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها; فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث; فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل; فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها. ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه.. بأمثلة صحيحة، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى أن تقطع الأيدي في الغزو » (رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع: [7397])، فهذا حد من حدود الله تعالى ، وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبا...) (إعلام الموقعين: [3/5-8] باختصار).


ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هنا كلام متين، بيّن فيه أنه قد يكون الواجب في بعض الأحوال ترك الأمر ببعض الطاعات، أو ترك النهي عن بعض المنكرات، كما إذا في الأمر بالطاعة فعل معصية أكبر منها، فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية، (مثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات ترك لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات, فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر).


ويوضح رحمه الله أن ترك الأمر وترك النهي في هذه الحالة لا يعني إسقاط الواجب، ولا تحليل المحرم، وإنما هو سكوت فقط عن الأمر والنهي لمصلحة راجحة، (فالعالم تارة يأمر وتارة ينهى وتارة يبيح وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة.


فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: إما لجهله وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه... كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر.


فالعالم في البيان والبلاغ كذلك; قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيانها، يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15], والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به.


وإذا انقطع العلم ببعض الدين, أو حصل العجز عن بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه .


فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع؛ فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها،

 

وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه.


ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع .

ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم, فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل والله أعلم) اهـ (مجموع الفتاوى: [20/ 58-60])


أسأل الله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يولي على المسلمين خيارهم، والحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه والتابعين

 

الشيخ عبدالعزيز بن ناصر الجليل