افتراق الناس في النبي صلى الله عليه وسلم

منذ 2012-09-25

تلك البعثة المُحمدية كانت كغيث أصاب أرضًا جدباء فارتوى تُرابها واخضر نباتها وأنبتت من كل زوجٍ بهيج، ومع هذا كله فقد تباينت آراء الناس في ورودهم إليها وصدورهم عنها.


إن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور الكُبرى التي غيرت مجرى تاريخ البشرية وأحدثت فيها تحولات عظيمة، زالت دول وقامت دول، تغيرت اعتقادات وعادات وأصبحت في عِداد الخيال.

شاهد المقال: أن تلك البعثة المُحمدية كانت كغيث أصاب أرضًا جدباء فارتوى تُرابها واخضر نباتها وأنبتت من كل زوجٍ بهيج، ومع هذا كله فقد تباينت آراء الناس في ورودهم إليها وصدورهم عنها.

فقسم من البشر أنكر تلك الرسالة بالكلية وكَذّب كل أدلتها اليقينية القطعية؛ شأنه في ذلك شأن من أنكر جميع النبوات فناقض اليقين والفطرة والعقل والحس.

وقسم ثانٍ من الناس صدقوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول من رب العالمين لكن هؤلاء زعموا أن رسالته للعرب خاصة وليست عامة، وهذا مخالف لليقين بل مخالف لما جاء في بعض كتب دياناتهم من نصوص سَلِمَت من التحريف من عموم رسالة محمد صلى لله عليه وسلم للعالمين.

وقسم ثالث زعموا أن رسالته عامة لغير اليهود والنصارى، وهؤلاء كسابقيهم في ما يلزمهم من الدلائل مما يترتب عليه بطلان قولهم نقلًا وعقلًا.

والقسم الرابع هو الذي آمن بأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة للعالمين كلهم وهؤلاء هم أهل الصواب في أمر رسالته صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]، وقال: {وما أرسلناك إلا كافةً للناس} [سبأ: 28]، وقال صلى الله عليه وسلم: «وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة».


الاختلاف في رعاية مقام النبوة:

وإذا كان الحق في أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة للثَقَلين فإن أصحاب هذا القول الحق قد تفرقوا في رعاية مقام النبي صلى الله عليه وسلم والقيام بحقه كما أمر؛ فطائفة غَلوا في مقامه صلى الله عليه وسلم ووقعوا في ما حذر منه صلى الله عليه وسلم من قوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم» [رواه البخاري]، فأطروه كما أطرت النصارى ابن مريم وأسبغوا عليه من صفات الألوهية والربوبية؛ فزعموا أنه يعلم حال أمته وأنه حقيق بأن يدعى من دون الله، وهو حَرِي أن يجيب من دعاه فيكشف عنه ضرًا أو يجلب له نفعًا، وزعموا أنه يعلم كل ما جرى ويجري به القلم، وأن الدنيا والآخرة من جوده كما قال بعضهم:
 

وإنّ من جودك الدنيا وضرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلم.



وطائفة أخرى غَلَت في بعض أصحابه ورفعتهم إلى مرتبة الألوهية بل زعمت أن الرسالة كانت لعلي فأخطأ جبريل وأعطاها محمد صلى الله عليه وسلم تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.

وطائفة ثالثة حَكَمَت عقولها في كلامه صلى الله عليه وسلم فجعلت كلامه خاضعًا لمفاهيمها وآرائها؛ فحَرَفوا النصوص العقدية بحسب قواعدهم فضلوا وأضلوا كثيرًا عن سواء السبيل.


ضلال من قال: "إن التدين لا يكون إلا بالقرآن".
وطائفة زعمت أن التدين لا يكون إلا بنصوص القرآن واستغنوا عن السنة بل ردوها زاعمين أن أدلتها لا تنهض بثبوتها إلى درجة الاحتجاج، فاكتفوا بالقرآن وحده، وهذا من أعظم الضلال، قال بعض أهل العلم: "من قال أنا لا أومن وأعمل إلا بالقرآن فهو بمثابة من يقول إنه يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يشهد أن محمدًا رسول الله".
ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الطائفة بعينها؛ فعن المقدام بن معدي يكرب رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحِلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحَرِموه، ألا وإن ما حَرَم رسول الله كما حَرَم الله»" [أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة].

وقال رجل لعمران بن حصين رضي الله عنهما: "إن أُريد أن أقتصر على القرآن دون السنة"، فقال له عمران رضي الله عنه: "إنك امرؤ أحمق، أتجد في القرآن أن الظُهر أربع ركعات لا يَجَهَرْ فيها بالقراءة حتى عد عليه الصلاة والزكاة ونحوها، ثم قال: كتاب الله أبهم أشياء كثيرة والسنة تفسر ذلك" [أخرجه عبد الرزاق في مصنفه].


أسعد الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم:
وأما أسعد الناس به صلى الله عليه وسلم فهم من أطاعه فيما أمر واجتنب ما نهى عن وزجر، ولم يعبد الله إلا بما شرع بأمر ربه، عظموه صلى الله عليه وسلم التعظيم اللائق به بلا إفراط ولا تفريط فجانبوا بذلك طرق أهل الضلال الذين حذر من إطرائهم وغلوهم في صحيح وصريح ما نقل عنه صلى لله عليه وسلم تلكم الطائفة هم أتباعه بحق وبصيرة في الدنيا وهم أسعد الناس بشفاعته في الآخرة.

قال شارح الطحاوية:
"فالواجب كمال التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن نعارضه بخيال باطل نسميه معقولاً أو نُحَمِله شبهة أو شكًا أو نقدم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم، فنوحِده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان كما نُوِحِد المرسل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل".