ترسيخ مفهوم التوحيد في الحج

منذ 2012-10-03

إن دخول الحجاج مكة ومكثهم فيها أياماً معدودة، ثم قضاءهم فيها تلك المشاعر في مناسك الحج، ثم رجوعهم إلى أوطانهم لمظهر عجيب، تذرف لعظمته العيون، وتحزن لفراقه القلوب.


الحمد لله الكريم المنان، الرحيم الرحمن، ذي العزة والسلطان، الذي قهر بقوته وجبروته رؤوس الطغيان، وأعوان الشيطان، الآخر الذي يبقى بعد فناء الإنس والملائكة والجان، القائل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي تفرد بالجلال والكمال، والمستحق للتقدير والتقديس والتوحيد على مدى الأزمان:

أحمده سبحانه، وأشكره، ومن مساوي عملي أستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي العدنان، من ذكر في التوراة والإنجيل والقرآن، المرشد العظيم، والقائد الحكيم، والملهم الكريم، صاحب اللواء المعقود، والحوض المورود، والصراط الممدود، الذي طهر بيت الله من رجس الأصنام، وسفَّه أحلام الطغام، الذين عبدوا غير الله بالظن والأوهام، فهم وما يفكرون كالأنعام، والذي رسخ مفهوم التوحيد في حياته كلها، وكان أعظم المواقف في ذلك أيام حج بيت الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثير.

أما بعد:
فإن من أعظم ما يزيد العظمة في قلب المؤمن مشاهدته لذلك الموقف الرهيب والأمر العجيب، أمر الحجاج في بيت الله وما يتنسكون به أيام حجهم وتقربهم إلى ربهم، ومضيهم في تلك المناسك منتظمين، لا يحل لأحدهم أن يتقدم عن أمر الله أو يتأخر، فكلهم جاء إلى تلك المشاعر المقدسة يرجو ثواب الله ويخاف عقابه، بقلوب منكسرة يملؤها العظمة للموقف، وما يحيط به من ذكريات تاريخية مرت عليها عصور ودهور وأمم قد خلت، يتذكر العبد المؤمن ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تلك البلدة الطاهرة، وكأنه يرى تلك المشاهد التي ربما سمعها من خطيب أو قرأها من كتاب يراها جهاراً نهاراً، ولقد سمعت عن بعض من حج البيت في زماننا أنه لما بدت له الكعبة ورآها مات من شدة الفرح! أي عظمة أكبر من أن يعظم الله شيئاً قد اصطفاه هو لنفسه! وأي هيبة لبلدة اختارها الله مكاناً للطهارة والقداسة والرفعة! أي أمة كنا يوم كانت مكة مجمعاً للتوحيد لا يدخلها إلا مؤمن! وأي كيان كنا يوم كانت مكة محروسة بحراسة جنود الله من عباده الصالحين، يتجلى في هذه المشاعر العظيمة عظمة الواحد الأحد، ويظهر في ذلك أن الناس لو اجتمعوا في صعيد واحد ثم سألوا الله شيئاً فأعطى كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملك الكريم العظيم!

قال الله لإبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]، وقال عن حكمة الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:27]، وقال: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37]، ليشهدوا منافع لهم: أي من مكاسب وتجارة وغيرها، والهدف الأعظم: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}.


إن ذكر الله وتوحيده وإجلاله وامتثال أمره في الحج من أعظم مقاصد الحج. إن التوحيد يتجلى في مشاعر الحج المختلفة وهذا بيانه:

فمن أن يخرج المسلم من بيته، قاصداً بيت الله مريداً لحرم الإسلام والمسلمين، ملتزماً بأمر الله في تجهيز لباس الإحرام وخلع الملابس المعتادة، والتجهيز بالعدد والعدة للحج، هذا توحيد القصد والحب لله، وما أن يودع المؤمن أهله ويقول: (أستودعكم الله) يعتبر توحيداً لله، وتفويض أمره إلى من لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء، فهو الوكيل وهو الحسيب سبحانه، وما أن يركب راحلته ويقول باسم الله، توحيد لله وإفراد لله، وما أن يصل إلى الميقات خالعاً اللباس المعتاد ولابساً لباس الإحرام والإعظام ويقول: (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك..) كله توحيد، وأي توحيد أعظم من أن يعلن الإنسان أمام الملأ والعالم: لبيك لا شرك لك لبيك، ثم يكرر ذلك في آخر التلبية، لا شريك لك، وما أن يدخل الإنسان الحرم فيرى بيت الله وخاصة الذي لم يره من قبل فإن مشاعر العاطفة الجياشة ستذرف الدموع تعظيماً للبيت، ولمن حفظ البيت أزمنة مديدة وأعواماً عديدة، ويقول المؤمن: يا الله سبحانك ما أعظم شأنك.

عباد الله: هكذا يظهر ويتجلى مفهوم التوحيد في حج بيت الله الحرام، وهكذا فلتكن الأمة المحمدية معظمة لربها عزيزة بمبدئها، لا تخنع ولا تخضع إلا لرب البيت الواحد الأحد، القوي الغالب على أمره، أي عظمة للعظيم يوم أن يأتي عبده إلى أقدس بقعة في الأرض ليطوف بالبيت طواف القدوم وهو يقول: لبيك اللهم لبيك؟! لا إله إلا الله، ما أعظم الموقف، يوم أن يقف الصغير والكبير، والغني والفقير، والعزيز والحقير، والعامي والمثقف النحرير، أمام عظمة العلي الكبير! أي توحيد للواحد الأحد يوم أن يأتي الناس من كل بقاع الأرض ليقولوا: "لبيك اللهم لبيك".

كلهم في صعيد واحد بجوار بيته، كلهم يعظمونه، ووجوهم كلها إليه، سبحان من خضعت له رقاب الجبابرة، وذلت لعظمته جباه الأكاسرة، فهو المتفرد بالجلال والكمال، وإليه تتجه القلوب مهما شردت عنه؛ لأن داعي الفطرة يدعوها: (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا) الله أكبر ما اجتمعت الأمة المحمدية من بقاع الأرض، الله أكبر ما انتشروا بعد الحج في الطول والعرض، سبحان من وحد الناس في ذلك الموقف العجيب، يوم أن يكون الناس كلهم في لباس واحد، وموقف واحد، إن المسلم ليشد انتباهه وهو يرى ذلك المشهد العظيم، يوم أن يطوف الناس حول الكعبة مهللين وملبين موحدين الواحد الأحد.


إن توحيد الملبس، وتوحيد المتجه، وتوحيد المشاعر، لتشعر بأن لهؤلاء الناس ملكاً عظيماً يستحق العبادة وحده لا شريك له.

ويظهر مفهوم التوحيد في الحج حينما يتذكر المسلمون ما كان قبل نبيهم صلى الله عليه وسلم من جاهلية عمياء، تعبد الأصنام، وتسجد للأحجار والأشجار، وكان حول تلك الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فهدمها بيده الشريفة وهو يتلو قوله تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:82]، وطهر البلد الحرام من رجس تلك العقائد البالية التي لم تعرف النور قط، إن تذكر مثل تلك المواقف يجعل المسلم يشعر بعظمة الله ووحدانيته في الربوبية والعبودية، ويتجلى مفهوم التوحيد في السعي بين الصفا والمروة حيث يعبد الناس في ذلك رباً واحداً، ويمتثلون أمر الله في وجوب السعي والدعاء في ذلك الحين والابتهال لله تعالى.

ويترسخ مفهوم التوحيد في عدة مواقف منها: الوقوف بعرفة حيث يقف الناس بمكان واحد يعبدون الله ربهم، ويدعونه، وقد وحد كلمتهم وصفهم وموقفهم، فلم يجعل لغني على فقير في ذلك المقام مزية إلا بالتقوى، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].

عباد الله: هذه هي شعيرة الحج وما ترمي إليه من أهداف عظمى، أكبرها ترسيخ مفهوم التوحيد، وكيف يعيش الناس أمة واحدة، يتبعون نبيهم، ويعبدون ربهم الواحد الأحد جل في علاه، نسأل الله إيماناً صادقاً وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وتوحيداً خالصاً، استغفروا الله عباد الله وتوبوا إليه.

الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل حج بيته الحرام، من أجل شعائر الإسلام، وكرم هذه الأمة عن غيرها من الأمم فنعم المكرم ونعم الإكرام، والصلاة والسلام على نبينا محمد خير من وحد وصلى وزكى وحج وصام، وعلى آله الكرام، وصحابته العظام، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

عباد الله:

ذكرت معالم في الحج يترسخ فيها مفهوم التوحيد الذي أراده الله من العباد، ومن تلك المعالم: ما يقوم به الحجاج يوم النحر يوم الحج الأكبرمن نسك امتثالاً لأمر الله، فالإفاضة من عرفات إلى الكعبة بما فيها من ذكر وتهليل اتباعاً لقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} [البقرة:198]، فيها توحيد لله وإفراد له بالتحميد والتسبيح، ثم التكبير بعد رمي جمرة العقبة الكبرى، وأثناء الرمي يشعر العبد بأن عمله ذلك يأتي عملاً بأمر الله واتباعاً لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء عرف الحكمة من ذلك الرمي أم لم يعرف فهو مستسلم للواحد الأحد في أمره ونهيه، وتحديد عدد الجمرات اللاتي يرمي بهن يقوده إلى نفس الشعور والتفكير، وهكذا عندما يأتي الناس لطواف الإفاضة مكبرين يوم العيد وقائلين في تكبيرهم: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد) ففي هذه العبارة إفراد لله في الألوهية، واعتراف بأنه لا معبود في الكون بحق إلا الله، إنه شيء يسلب العقول لمن تفكر في ذلك وتدبر.

وفيما يفعله الحجاج أثناء الحلق لرؤوسهم والذبح لهديهم وقرابينهم دليل عظيم على أن الذبح لا يجوز إلا الله قرباناً وتوحيداً له لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].

وكذا ما يفعله الحجاج أيام التشريق من مبيت بمنى ورمي للجمرات، ولا يحق لأحد أن ينصرف قبل يومين من الثلاثة الأيام؛ لأنها من واجبات الحج ومهماته، وفي ذلك تمام الانقياد والتسليم وترك الأهواء والفوضى رغبة في ثواب الله وخوفاً من عقابه.


إن دخول الحجاج مكة ومكثهم فيها أياماً معدودة، ثم قضاءهم فيها تلك المشاعر في مناسك الحج، ثم رجوعهم إلى أوطانهم لمظهر عجيب، تذرف لعظمته العيون، وتحزن لفراقه القلوب.

وكل هذه المشاعر المقدسة تربط العبد بربه؛ ليعلم أنه هو المتفرد بالجلال والكمال والإكرام، وليرجع المسلم بقلب موحد طاهر، قد محيت عنه بإذن الله كل الأوزار والخطايا.

فاللهم يا حميد يا مجيد اقبل توبتنا، واستر عيوبنا، وعافنا واعف عنا اللهم تقبل من الحجاج حجهم، ومن المخلصين إخلاصهم، اللهم ارزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم، يا رب العالمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .