يسر الإسلام في الحج
إن تتبع رحمته في حجته يصعب، لأن ذلك يتطلب منا أن يتناول الحجة بكاملها، فقد كانت كلها رحمة، وهذا ليس مستغربًا مع كون الحج مشقة، لأن الله ما كلَّف أمرًا إلا ووضع في الإنسان من الطاقة والقدرة ما يمكِّنه من فعله..
إن محمدًا خير من أتى بشريعة [1].
اعتبرت اليهودية القديمة أن الحج إلى هيكل النبي سليمان في القدس لمرة واحدة على الأقل في العام فرضًا واجبًا على كل بالغ، مع وجوب تقديمه للقرابين وإشعال النيران وقراءة أجزاء من الكتاب المقدس [2]. هذا حالهم ولكن الإسلام شيء آخر!!
لا شك أن مَن حَجَّ أو اعتمر شعر بشيء من المشقة يتفاوت من إنسان إلى إنسان، ومن ظروف إلى أخرى، ولكنه على كل حال مشقة، بل جعل رسول الله الحج كالجهاد بالنسبة للمرأة، للجهد العظيم الذي يُبذَل فيه، قالت عائشة رضي الله عنها: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ» [3]. ولأجل هذه المشقة فقد عظَّم الله أجر الحج والعمرة، ووعد عليه أعظم الثواب، قال رسول الله: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ» [4].
ومع ذلك فكما ذكرنا في العبادات السابقة ليس الغرض من هذه الفروض تعذيبًا للمسلم، أو إحراجًا له، إنما هو اختبار، والله ييسره حتى يتحمله غالب المسلمين إلا من عُذِرَ بأعذار خاصة، وهؤلاء يسقط عنهم فرض الحج، لأن الله جعله للمستطيع فقط.. قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97]. ولأجل التيسير أيضًا فإن الله فرض الحج مرة واحدة في العمر كله، وهذا تيسير عظيم، ورحمة كبيرة، وتقدير لظروف عموم الناس.. ومع هذا التيسير الكبير إلا أن رسول الله كان يتعامل مع الأمر برحمته المعهودة، وبرفقه العظيم، فزاد الأمرَ تيسيرًا ورفقًا..
لقد وقف يومًا يخطب في الناس فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاثًا؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ؛ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ» [5]. لا شك أن رسول الله كان قادرًا على الحج كل عام، بل من المؤكد أنه كان يشتاق لمثل هذه العبادة الجليلة، لكنه لا يريد أن يقيس الأمر على نفسه، بل يريد أن يقيس الأمر على عموم المسلمين، وذلك بمن فيهم من الضعفاء والكبار والنساء بل والمشغولين أو غير المشتاقين إلى هذه العبادة؛ والرجل يسأل ويكرر: أفي كل عام يا رسول الله؟ والرسول لن يجيب بنعم إلا إذا أراد الله، ولكنه يعلم أن الأمة -كما ذكرنا قبل ذلك- إذا شدَّدت على نفسها شدَّد الله عليها، ولذلك ذكَّرهم رسول الله بما حدث مع الأمم السابقة التي كانت تُكْثِر من الأسئلة دون احتياج، والرسول يريد أن يرحم هذه الأمة، وينقذها من أي هَلَكَة.. ثم إن رسول الله فعل أمرًا عظيمًا، وشيئًا جليلاً أَعُدُّه من رحمته الواسعة، وهو أنه حج مرة واحدة في حياته!
ولو راجعت السيرة النبوية لوجدت أن مكة قد فُتِحَت في رمضان من السنة الثامنة من الهجرة، وكانت أمامه فرصة الحج في السنة الثامنة ثم التاسعة، لكنه اكتفى بالحج في السنة العاشرة، ومهما قيل من أن السبب في عدم حجه هو وجود مظاهر شركية في العامين الثامن والتاسع من حج المشركين، وطواف بعضهم عرايا إلا أن هذا لا يكفي لتبرير اقتصاره على حجة واحدة في العام العاشر، فقد كان من الممكن -والقوة معه- أن يمنع هذه المظاهر الشركية، ويُتمَّ حجه مرتين أو ثلاثة، لكنه لم يفعل.
إن المبرر الواضح الذي يبدو لي هو أنه أراد أن يكون القدوة لأمته في الحج مرة واحدة في العُمْر..، نعم لا حرج من الحج أكثر من مرة، بل إن هناك نصوصًا تدل على فضل تتابع الحج والعمرة، إلا أنه أراد أن يرفع الحرج عن عموم المسلمين، وذلك رحمةً بهم؛ فلو حَجَّ مرتين مثلاً لأراد المسلمين أن يقتدوا به في عدد مرات حجه، وبالتالي يصبح هذا مشقة عليهم، وهو ما ترفضه رحمته؛ ومن ثَمَّ اختار أن يحج مرة واحدة مع شوقه إليه!!
وفي حجته الوحيدة ظهرت آيات رحمته تَتْرَى!! فمن دلائل رحمته بالحجاج في هذه الحجة أنه كان يعلم أن مناسك الحج غير مشهورة بين الناس كمناسك الصلاة والصيام، وذلك لأن الحج لا يتكرر إلا قليلاً، وقد لا يتكرر أبدًا في حياة الإنسان، ولذلك كان يقبل بتغييرات في ترتيب المناسك، ولا يلوم أبدًا فاعليها..
من ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما من أن رسول الله وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَطَفِقَ نَاسٌ يَسْأَلُونَهُ فَيَقُولُ الْقَائِلُ مِنْهُمْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أَكُنْ أَشْعُرُ أَنَّ الرَّمْيَ قَبْلَ النَّحْرِ فَنَحَرْتُ قَبْلَ الرَّمْيِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: فَارْمِ وَلا حَرَجَ، قَالَ: وَطَفِقَ آخَرُ يَقُولُ: إِنِّي لَمْ أَشْعُرْ أَنَّ النَّحْرَ قَبْلَ الْحَلْقِ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، فَيَقُولُ: انْحَرْ وَلا حَرَجَ، قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يُسْأَلُ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَمْرٍ مِمَّا يَنْسَى الْمَرْءُ وَيَجْهَلُ مِنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ الأُمُورِ قَبْلَ بَعْضٍ وَأَشْبَاهِهَا إِلا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: افْعَلُوا ذَلِكَ وَلا حَرَجَ» [6].
ومن دلائل رحمته أيضًا بالحجاج أنه نام في المزدلفة من بعد وصوله وصلاته للمغرب والعشاء جمعًا، وذلك إلى صلاة الفجر [7]، ولم يَرِدْ عنه أنه صلى هذه الليلة قيامًا ولا صلى وترًا، وهذا من رحمته بالمسلمين، فهو يعلم مدى المشقة التي كانت في يوم عرفة والدفع من عرفة إلى المزدلفة، فأراد أن تكون سُنَّته التي يقلده فيها مَن في المزدلفة هي النوم الهادئ المريح غير المقطوع باستيقاظ أو صلاة!!
ومن دلائل رحمته أيضًا أنه أَذِنَ للضعفاء أن يتركوا المزدلفة ليلاً قبل الفجر لكي يدركوا الجمرات قبل الازدحام، تقول عائشة رضي الله عنها: «نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ فَاسْتَأْذَنَتْ النَّبِيَّ سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَكَانَتْ امْرَأَةً بَطِيئَةً فَأَذِنَ لَهَا، فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ فَلأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ» [8].
ومن رحمته أنه رمى الجمرات بحصى مثل حصى الخذف [9]، وهو حصى صغير في حجم حبة الباقلاَّ كما يقول الإمام النووي [10]، وهذا الحجم الصغير حتى لا يؤذي إنسانًا بطريق الخطأ..
إن تتبع رحمته في حجته يصعب، لأن ذلك يتطلب منا أن يتناول الحجة بكاملها، فقد كانت كلها رحمة، وهذا ليس مستغربًا مع كون الحج مشقة، لأن الله ما كلَّف أمرًا إلا ووضع في الإنسان من الطاقة والقدرة ما يمكِّنه من فعله، فإذا كان المُطَبِّق والمُعَلِّم مثل رسول الله في رحمته ورأفته صار الأمر ميسورًا وسهلاً إن شاء الله، وصلَّ اللهُمَّ على الذي قُلْتَ في حقه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
د. راغب السرجاني
--------------------------------------------------------------------------------
[1] دي سلان ماك غوين (مستشرق فرنسي): مقدمة الترجمة الفرنسية لمقدمة ابن خلدون.
[2] د. أسامة القفاش: الحج دراسة في علم الأديان المقارن، المنشور على موقعة الشخصي، الشبكة العنكبوتية.
[3] البخاري: كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور (1448)، وأبو يعلى (4717)، والبيهقي في السنن الكبرى (17583).
[4] البخاري: أبواب العمرة، باب وجوب العمرة وفضلها (1683)، ومسلم: كتاب الحج، باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349)، والترمذي (933)، والنسائي (2629)، وابن ماجة (2888)، ومالك برواية يحيى الليثي (767)، وابن خزيمة (2513)، وابن حبان (3696).
[5] مسلم: كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العُمْرِ (1377)، وأحمد (10615)، والبيهقي في سننه الكبرى (8398).
[6] البخاري: كتاب العلم، باب الفُتيا وهو واقف على الدابة وغيرها (83)، ومسلم كتاب الحج، باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي (1306)واللفظ له، والترمذي (916)، وأبو داود (2014)، وأحمد (6484)، والدارمي (1907)، وابن حبان (3877).
[7] مسلم: كتاب الحج، باب حجة النبي(1218).
[8] البخاري: كتاب الحج، باب من قدم ضَعَفَةَ أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون ويقدم إذا غاب القمر (1597)، ومسلم كتاب الحج، باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة إلى مِنَى (1290)، وأحمد (25061)، والدارمي (1886).
[9] مسلم: كتاب الحج، باب استحباب كون عصى الجمار بقدر حصى الخذف، وباب بيان وقت استحباب الرمي (1299)، والترمذي (897)، والنسائي (3020)، وأبو داود (1966)، وابن ماجة (3028)، وأحمد (1896)، والدارمي (1898)، وابن خزيمة (2873)، وابن حبان (3872).
[10] النووي: شرح صحيح مسلم 9/47.
راغب السرجاني
أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.
- التصنيف:
- المصدر: