الحج توحيد على التوحيد
والله ما أعظمه من مشهد يبين سبيل الوحدة الإسلامية، ويوضح كيف كان على توحيد رب البرية، فانظر إلى جيل التوحيد وتمثل ما قاله الأول: أناسٌ مِن التّوحيدِ صِيغَتْ نُفوسُهُم *** فأنت ترى التّوحيدَ شَخصاً مُرَكبا
الحمد الله القائل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56-57]، والصلاة والسلام على إمام الموحدين، وقائد المفردين، نبينا محمد وعلى آله أجمعين، وبعد:
إن مما أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم قوله سبحانه : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام : 162-163]. ولا شك أن من أول ما يدخل في قول الله تعالى: {وَنُسُكِي} سائر أعمال الحج، من الإحرام الذي هو نية الدخول في النسك، مروراً بالتلبية، إلى ذبح الهدي إلى طواف الوداع.
ولقد صح عند مسلم وغيره من حديث جابر في الحج: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى في المسجد بذي الحليفة ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء قال جابر: «نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهل بالتوحيد؛ لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».
والله ما أعظمه من مشهد يبين سبيل الوحدة الإسلامية، ويوضح كيف كان على توحيد رب البرية، فانظر إلى جيل التوحيد وتمثل ما قاله الأول:
فقد خلفت من بعد أولئك خلوف فتبدل الحال، فبينما يهل النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد ويهل أصحابه به، يهل اليوم من يزعم حبه بنحو إهلال المشركين الأوائل الذين كانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك. وإلى هنا كان إهلالهم بالنسك صحيحا، غير أنهم لا يقفون فيخلطونها بغيرها ويستثنون فيقولون: (إلاّ) وقف عند هذا الاستثناء، وتأمل لتر أن القوم كانوا يعبدون الله يحجون ويعجون ويثجون، يطوفون ويسعون ويقفون، إلاّ أنهم يستثنون؛ (إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك)، فهم يستثنون شِركاً يصرفون له شيئاً من العبادة؛ و لك أن تقول شيئاً من الدعاء أو النذر أو الذبح أو الاستغاثة وكلها عبادة، فيصرفون شيئاً منها له وهي حق الله المحض، لا لأنهم يعتقدون أن للشريك من الملك شيء، بل هم يعتقدون أن هذا المدعو لا يملك شيئاً (تملكه و ما ملك)، ولكن ليقربهم حبهم له ودعاؤهم وذبحهم (وغيرها من أضرب عبادتهم له) إلى الله زلفى، كما قال الله تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3].
واليوم يلبي بعض الحجيج ويهلون بالتوحيد ثم يخلطون ما خلطه الأوائل، فبعد أن يقول أحدهم: لبيك الله لبيك لبيك لاشريك لك لبيك إلى أن يبح صوته، تسمعه وفي عرفات يقول بعدها ما حاصله: (إلاّ شريكاً هو لك)، فواحد يقول منشداً:
وآخر يردد:
فإن من جودك الدنيا وضرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلم
ما سامني الدهر ضيماً واستجرت به *** إلا ونلت جواراً منه لم يُضَم
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من *** لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
أقسمت بالقمر المنشق إن له *** من قلبه نسبة مبرورة القسم
فقارن أخا التوحيد هذا الذي يقولون، بقول المشركين: (إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك). وأشد من هذا الشرك ما ينشده بعضهم في علي وفي الحسن والحسين رضي الله عنهم جميعاً. وكل ذلك على حساب الدعاء والتهليل والتلبية التي شرعها الله تعالى.
كَم أَبطَلوا سُنَنَ النَبِيِّ وَعَطَّلوا *** مِن حِليَةِ التَوحيدِ أرض المنحر
إنه لحق على من رأى أمثال هؤلاء وشهد البون بينهم وبين نبيهم صلى الله عليه وسلم وصحبه من بعده أن يسكب دمعة على الوحدة الإسلامية التي مزقت يوم مزق سببها؛ التوحيد. وحري بكل مصلح أن يسعى لاستنقاذ تلك الوحدة بتعظيم جناب التوحيد في النفوس، والدعوة إلى الاستقامة عليه، فإن استقام الناس عليه فحق لهم أن يجتمعوا بعدها على كلمة سواء. وإلاّ فليعلم الدعاة أنه لاجتماع بين من يقول: إن الله سبحانه وتعالى رب واحد، وإله واحد، وبين من يعتقد في عض البشر -وإن عظموا- بعض أوصاف الربوبية، أو يصرف لهم -وإن جلوا- شيئاً من حقوق الإلهية. ولا يغرنك أخا الإسلام جهد رجل في الطاعة والعبادة إذا علمت أنه يصرف بعضاً منها ولو نذراً يسيراً لغير الله سبحانه وتقدس، فقد قال الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
أسأل الله أن يجمعنا والمسلمين على كلمة التوحيد، وأن يؤلف بين قلوب الموحدين، وأن يرزقنا وإياهم تجاوز الشقاق بتحقيق التوحيد وتكميله، كما أشار ربنا جل شأنه في قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، فعقب بذكر التوحيد لما ذكر وحدة الأمة، ونحوه قوله سبحانه: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52].
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ناصر بن سليمان العمر
أستاذ التفسير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سابقا
- التصنيف:
- المصدر: