التفجير وتداعياته
منذ 2005-05-08
{ <span style="color: #800000">فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ</span> }
1- تسامع الجميع بالتفجيرات؛ التي حدثت في الرياض, ليلة الثلاثاء
الموافق 12/3/1424هـ؛ والتي استهدفت مجمعات سكنية؛ يفترض أنه يقيم
فيها أجانب, وراح ضحيتها عشرات القتلى, ومئات المصابين, من الأمريكان,
والسعوديين, وغيرهم! وأي معالجة للحدث يجب أن تكون منطلقة من إدانة
صريحة واضحة, لا لبس فيها لهذا العمل الشائن المحرّم !
فالشريعة جاءت بحفظ الأمن { وَآمَنَهُم مِّنْ خوْفٍ }، { وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً }، { رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنا }، { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْف }؛ وحفظ الدماء { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } ، { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } ؛ وحفظ العهود { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ }، { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً }، { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّم }.
ومدار الشريعة على تحقيق المصالح وتكميلها, ودرء المفاسد وتعطيلها، ومثل هذه الأعمال تشكل الشرارة الأولى لإثارة الفتنة, والاحتراب الداخلي الذي يدمّر الطاقات, ويشتت الجهود ويهدر المكتسبات, ويعيق التنمية في مجالاتها المختلفة, ويؤخر مسيرة الإصلاح والدعوة ويفتح الباب أمام الطموحات الكامنة, والتناقضات المذهبية, والقبلية, والإقليمية, والفقهية التي لا يخلو منها مجتمع. وربما شكل فرصة مناسبة للتدخلات الخارجية؛ التي تتذرع بملاحقة الإرهاب, كما تسمّيه, أو بالمحافظة على المصالح الاقتصادية, أو بتحرير الشعوب إلى آخر المعزوفة المعروفة !
إن الموقف المبدئي الشرعي الصريح يجب أن يكون قدراً مشتركاً لدى جميع المؤمنين وجميع العقلاء برفض هذا العمل وتحريمه, وإدانته شرعاً؛ وبإدراك الآثار السلبية الناجمة عنه محلياً, وإقليمياً.
2- وهذه الإدانة يجب ألا تكون محاولة لتبرئة النفس من الاتهام, وكأن المتحدث يريد أن يبعد التهمة عن شخصه فحسب ! إن المسؤولية أعظم من ذلك, ونحن جميعاً في خندق واحد, وسفينة واحدة, والخرق فيها يفضي إلى غرق الجميع, ويجرنا إلى دوامة من العنف لا يعلم نهايتها إلا الله ! وانفلات الأمن أسهل بكثير من إمكانية ضبطه وإعادته، وهذا الإحساس الجاد بالمسؤولية هو الذي يحمل المرء على رفض هذه الأعمال أياً كانت مبرراتها.
لقد دأبت بعض وسائل الإعلام على توسيع دوائر الاتهام, ومحاولة جرِّ أطراف عديدة إلى الميدان؛ لتصفية حسابات شخصية, أو حزبية, أو ما شابه.. وهذا يجب أن يتوقف, ولا يجوز أن نعيد إنتاج التهم الأمريكية؛ التي أدانت الإسلام والعرب والسعودية؛ واعتبرت المجتمع بمؤسساته العلمية والسياسية والتربوية مسؤولاً عما يحدث.
والإحساس بالمسؤولية الشرعية, بل والوطنية؛ يقتضي عزل الحادث في أضيق نطاق, وعدم توسيع دائرة التهمة؛ لأننا بهذا التوسيع نصنع تعاطفاً معه, ومع منفذيه لدى شرائح جديدة في المجتمع.
لقد فتحتُ حواراً موضوعياً -بعيداً عن التكلّف والتصنع والمجاملة- مع شرائح من طلاب الدراسات الشرعية, ومن طلابي في الحلقة العلمية؛ فوجدت إطباقاً على رفض العمل الذي وقع وتحريمه، وإن كان الناس يختلفون في الجهة المسؤولة عنه, أو في الحديث عن أسبابه, وهذا من حقهم أن يختلفوا فيه. إن السعي للوصول إلى مكاسب شخصية, أو فئوية لطرف ما بتوظيف هذا الحدث؛ هو استثمار خاطئ لأزمة حقيقية, لن تستثنى أحداً من تبعاتها وآثارها !
3- إن من أعظم المخاطر أن تتسع شقة الانشطار, والانشقاق في المجتمع, وأن يجد الناس أنفسهم في مواقف متقابلة يتداخل فيها الشرعي بالقبلي بالمنطقي بالشخصي، وهذه هي الفتنة بعينها: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } .
وقد تكون الشرارة الأولى عملاً فردياً؛ يفتح الباب أمام الطموحات المتناقضة, ويتم توظيفه من الأطراف المختلفة, كل حسب رؤيته الخاصة، وهذا يُحتّم على المسؤولين في هذه البلاد أن يتعاملوا بمنتهى الشفافية مع الحدث وتداعياته, وأن يقطعوا الطريق على المزايدات التي تصب الزيت على النار.
يجب العدل في التعامل مع المتهمين, وعدم استخدام أساليب الترهيب النفسي معهم, أو مع أسرهم وذويهم, أو التعذيب, أو التجاوز؛ لأن هذا ليس من الإسلام, ولا يزيد الحقد إلا تأججاً، والعقل والحكمة تقتضي إلجام الغضب, والعدل أساس الملك { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
4- الموقف من الإدارة الأمريكية, ورفض سياساتها التعسفية الاستعلائية الانفرادية؛ ليس حكراً على بلد متدين كالسعودية, ولا على دول عربية ولا إسلامية؛ فالكراهية لتلك السياسات الفاسدة تتنامى في سائر أنحاء أوروبا, وأمريكا الجنوبية, والصين, وغيرها.
وثمّة عامل إضافي يخص العالم الإسلامي وهو أنه المستهدف الأول بدينه وثقافته وأرضه وخيراته ومنهج حياته, كما هو مشاهد للعيان.
والعربي والمسلم بطبيعته يرفض الذل, ولولا قيد الدين وأثره في منع الناس من الاندفاع, لكان الأمر أشد وأعظم وأنكى! وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « الإيمان قيد الفتك؛ لا يفتك مؤمن ».
لقد تجاوز الأمريكيون الحد في الاستخفاف بالشعوب, وتجاهل إرادتها! ومع هذا؛ فإن من الحكمة القول: بأن الإدارة الأمريكية, أو بعض متطرّفيها قد يطيب لهم اضطراب الأمن في أي بلد إسلامي؛ لأنه قد يمنحهم ذريعة حاضرة, أو مستقبلية في التدخل بحجة المتابعة الأمنية, أو الحفاظ على المصالح, أو إغلاق هذه المؤسسة أو تلك، وقد تتطور الأمور بشكل لا يمكن التحكم فيه.
وعلينا أن ننفذ غضبنا على هؤلاء المتطرفين, من خلال آلية عملية واقعية؛ كالمقاطعة الاقتصادية على مستوى الأفراد, والشركات, ورجال الأعمال والحكومات. ومثل ذلك المواقف السياسية الناضجة, وتهيئة البدائل في العلاقات, والاتفاقيات. ومثله الدعوة في الولايات المتحدة, وتدعيمها, وبناء المؤسسة الجادة؛ التي تدافع عن قضايا العرب والمسلمين في أمريكا وأوروبا.
ومن ذلك الإعداد لتطوير بلادنا, وتقويتها, وتعزيز روح الشورى, والمشاركة والتعاون, والوقوف أمام التجاوزات بصراحة وحزم , ولكن بشكل سلمي, لا يعتمد العنف وسيلة للتغيير.
5- يجب صناعة الجو والمناخ الصالح؛ الذي تشيع فيه روح العدالة والإنصاف, وتحفظ فيه حقوق الناس كافة؛ ويتمتع الفرد فيه بذات الفرصة التي يتمتع فيها أخوه الآخر، ويملك الفرد أن يعبِّر عن رأيه ووجهة نظره؛ بالكتابة, أو الخطابة, أو أي صورة من صور التعبير الرشيد؛ ويتحمّل مسؤولية هذه الكلمة وتبعتها في الدنيا والآخرة, ويحاسب كل من أخل بمبدأ, أو تجاوز حداً, أو تعدّى على مقدّس, أو أساء إلى أحد, ضمن المعايير الشرعية التي يتّفق عليها الجميع. وضمن هذا الإطار تأتي شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي يجب دعمها, وتنظيمها, وتطوير آلياتها, ومجالات عملها.
إن المجتمع العادل -الذي يتمتع بالحقوق والحريات المضبوطة بضابط الشرع فحسب- هو مجتمع محروس بعناية الله, محفوظ من الانسياق وراء الاعتبارات الخاصة, والرؤى الضيّقة, وهو الذي يشعر كل فرد فيه بمسؤولياته تجاه القضايا والقرارات الصغيرة والكبيرة.
والمعروف أن أساليب التعبير العنيفة -ومنها القتل, والتفجير, والاغتيالات- تأتي عادة في ظل انسداد السبل الطبيعية, وعدم قدرة الناس, أو فئة منهم على التعبير والحوار الحرِّ؛ ويعمقها الشعور بالغبن, والحيف, والظلم, والتهميش !
ومثل هذا الحدث -مهما يكن مؤلماً- يجب أن يكون منطلقاً لحركة تصحيحية إصلاحية جادة داخل مؤسسات الدولة.
والإطار المبدئي الذي يمكن الانطلاق منه لهذا الإصلاح؛ هو مبدأ الحوار النزيه, المحتكم إلى مسلمات الشريعة ومقرراتها { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }.
ومن حق كل إنسان أن يشارك ويقدم ما لديه؛ فالبلد بلده, والمصلحة له ولمن بعده, ولا يُستبعد من هذا الحوار صاحب فكر بحجة الغلو أو غيره؛ فالفكر يعالج ويصحح بالفكر, والحوار, والحجة, والبرهان. وأفضل الفرص لنشوء وانتشار الفكر المنحرف؛ هي الأجواء المغلقة الخانقة !
المهم هو عدم الاحتكام إلى السلاح والقوة في حل الإشكاليات, أو تحقيق المطالب.
6- إن أوضاع الشباب في السعودية تحتاج إلى معالجة شاملة؛ لتوسيع مشاركتهم في العمل الاجتماعي, وإعطائهم الفرص المناسبة للحياة الكريمة, وتشغيلهم, وتأهيلهم عبر مؤسسات رسمية وخيرية, وملء فراغهم بالمفيد النافع, والأخذ بأيديهم إلى الجادة المعتدلة, وتعزيز التيار المتوازن الملتزم بالقيم, وعزل الأطراف الموغلة؛ بالتساهل, أو التشدد. وهذه مسؤولية الحكومة بالدرجة الأولى ثم رجال الأعمال ورجال التربية.
إن أكثر من0 6% من الشعب السعودي؛ هم من الشباب دون سن العشرين. وهؤلاء يكادون أن يكونوا محرومين من الفرص التي يستحقها أمثالهم؛ من الناحية المادية والوظيفية التي تحقق احتياجاتهم, وتمنحهم الخبرة والتجربة. إن الشباب قنبلة موقوتة, مرشحة للانفجار في أي اتجاه! وعلينا ألا ننتظر لكي تقع المشكلة حتى نعالجها؛ بل أن نمتلك رؤية مستقبلية ناضجة؛ تستطيع أن تقرأ أثر المتغيرات, وأن ترسم الحل, وأن تنفذه.
ونحن بحمد الله دولة نفطية؛ لديها إمكانيات مادية هائلة, وخبرات بشرية جيدة, ومساحات متسعة من الأرض, ومستقبل واعد -بإذن الله- إذا توفرت الإرادة للإصلاح؛ كما قال سبحانه { إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً }.
إن الحدث ناقوسُ خطرٍ يعلن عما وراءه، وعلينا أن نفهم الرسالة جيداً, ونتعامل معها بمسؤولية وتقوى على مستوى الحاكم والمحكوم، وعلى مستوى المرسل والمتلقي.
والله أعلم
سلمان بن فهد العودة
14/3/1424 هـ
فالشريعة جاءت بحفظ الأمن { وَآمَنَهُم مِّنْ خوْفٍ }، { وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً }، { رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنا }، { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْف }؛ وحفظ الدماء { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } ، { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } ؛ وحفظ العهود { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ }، { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً }، { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّم }.
ومدار الشريعة على تحقيق المصالح وتكميلها, ودرء المفاسد وتعطيلها، ومثل هذه الأعمال تشكل الشرارة الأولى لإثارة الفتنة, والاحتراب الداخلي الذي يدمّر الطاقات, ويشتت الجهود ويهدر المكتسبات, ويعيق التنمية في مجالاتها المختلفة, ويؤخر مسيرة الإصلاح والدعوة ويفتح الباب أمام الطموحات الكامنة, والتناقضات المذهبية, والقبلية, والإقليمية, والفقهية التي لا يخلو منها مجتمع. وربما شكل فرصة مناسبة للتدخلات الخارجية؛ التي تتذرع بملاحقة الإرهاب, كما تسمّيه, أو بالمحافظة على المصالح الاقتصادية, أو بتحرير الشعوب إلى آخر المعزوفة المعروفة !
إن الموقف المبدئي الشرعي الصريح يجب أن يكون قدراً مشتركاً لدى جميع المؤمنين وجميع العقلاء برفض هذا العمل وتحريمه, وإدانته شرعاً؛ وبإدراك الآثار السلبية الناجمة عنه محلياً, وإقليمياً.
2- وهذه الإدانة يجب ألا تكون محاولة لتبرئة النفس من الاتهام, وكأن المتحدث يريد أن يبعد التهمة عن شخصه فحسب ! إن المسؤولية أعظم من ذلك, ونحن جميعاً في خندق واحد, وسفينة واحدة, والخرق فيها يفضي إلى غرق الجميع, ويجرنا إلى دوامة من العنف لا يعلم نهايتها إلا الله ! وانفلات الأمن أسهل بكثير من إمكانية ضبطه وإعادته، وهذا الإحساس الجاد بالمسؤولية هو الذي يحمل المرء على رفض هذه الأعمال أياً كانت مبرراتها.
لقد دأبت بعض وسائل الإعلام على توسيع دوائر الاتهام, ومحاولة جرِّ أطراف عديدة إلى الميدان؛ لتصفية حسابات شخصية, أو حزبية, أو ما شابه.. وهذا يجب أن يتوقف, ولا يجوز أن نعيد إنتاج التهم الأمريكية؛ التي أدانت الإسلام والعرب والسعودية؛ واعتبرت المجتمع بمؤسساته العلمية والسياسية والتربوية مسؤولاً عما يحدث.
والإحساس بالمسؤولية الشرعية, بل والوطنية؛ يقتضي عزل الحادث في أضيق نطاق, وعدم توسيع دائرة التهمة؛ لأننا بهذا التوسيع نصنع تعاطفاً معه, ومع منفذيه لدى شرائح جديدة في المجتمع.
لقد فتحتُ حواراً موضوعياً -بعيداً عن التكلّف والتصنع والمجاملة- مع شرائح من طلاب الدراسات الشرعية, ومن طلابي في الحلقة العلمية؛ فوجدت إطباقاً على رفض العمل الذي وقع وتحريمه، وإن كان الناس يختلفون في الجهة المسؤولة عنه, أو في الحديث عن أسبابه, وهذا من حقهم أن يختلفوا فيه. إن السعي للوصول إلى مكاسب شخصية, أو فئوية لطرف ما بتوظيف هذا الحدث؛ هو استثمار خاطئ لأزمة حقيقية, لن تستثنى أحداً من تبعاتها وآثارها !
3- إن من أعظم المخاطر أن تتسع شقة الانشطار, والانشقاق في المجتمع, وأن يجد الناس أنفسهم في مواقف متقابلة يتداخل فيها الشرعي بالقبلي بالمنطقي بالشخصي، وهذه هي الفتنة بعينها: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } .
وقد تكون الشرارة الأولى عملاً فردياً؛ يفتح الباب أمام الطموحات المتناقضة, ويتم توظيفه من الأطراف المختلفة, كل حسب رؤيته الخاصة، وهذا يُحتّم على المسؤولين في هذه البلاد أن يتعاملوا بمنتهى الشفافية مع الحدث وتداعياته, وأن يقطعوا الطريق على المزايدات التي تصب الزيت على النار.
يجب العدل في التعامل مع المتهمين, وعدم استخدام أساليب الترهيب النفسي معهم, أو مع أسرهم وذويهم, أو التعذيب, أو التجاوز؛ لأن هذا ليس من الإسلام, ولا يزيد الحقد إلا تأججاً، والعقل والحكمة تقتضي إلجام الغضب, والعدل أساس الملك { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
4- الموقف من الإدارة الأمريكية, ورفض سياساتها التعسفية الاستعلائية الانفرادية؛ ليس حكراً على بلد متدين كالسعودية, ولا على دول عربية ولا إسلامية؛ فالكراهية لتلك السياسات الفاسدة تتنامى في سائر أنحاء أوروبا, وأمريكا الجنوبية, والصين, وغيرها.
وثمّة عامل إضافي يخص العالم الإسلامي وهو أنه المستهدف الأول بدينه وثقافته وأرضه وخيراته ومنهج حياته, كما هو مشاهد للعيان.
والعربي والمسلم بطبيعته يرفض الذل, ولولا قيد الدين وأثره في منع الناس من الاندفاع, لكان الأمر أشد وأعظم وأنكى! وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « الإيمان قيد الفتك؛ لا يفتك مؤمن ».
لقد تجاوز الأمريكيون الحد في الاستخفاف بالشعوب, وتجاهل إرادتها! ومع هذا؛ فإن من الحكمة القول: بأن الإدارة الأمريكية, أو بعض متطرّفيها قد يطيب لهم اضطراب الأمن في أي بلد إسلامي؛ لأنه قد يمنحهم ذريعة حاضرة, أو مستقبلية في التدخل بحجة المتابعة الأمنية, أو الحفاظ على المصالح, أو إغلاق هذه المؤسسة أو تلك، وقد تتطور الأمور بشكل لا يمكن التحكم فيه.
وعلينا أن ننفذ غضبنا على هؤلاء المتطرفين, من خلال آلية عملية واقعية؛ كالمقاطعة الاقتصادية على مستوى الأفراد, والشركات, ورجال الأعمال والحكومات. ومثل ذلك المواقف السياسية الناضجة, وتهيئة البدائل في العلاقات, والاتفاقيات. ومثله الدعوة في الولايات المتحدة, وتدعيمها, وبناء المؤسسة الجادة؛ التي تدافع عن قضايا العرب والمسلمين في أمريكا وأوروبا.
ومن ذلك الإعداد لتطوير بلادنا, وتقويتها, وتعزيز روح الشورى, والمشاركة والتعاون, والوقوف أمام التجاوزات بصراحة وحزم , ولكن بشكل سلمي, لا يعتمد العنف وسيلة للتغيير.
5- يجب صناعة الجو والمناخ الصالح؛ الذي تشيع فيه روح العدالة والإنصاف, وتحفظ فيه حقوق الناس كافة؛ ويتمتع الفرد فيه بذات الفرصة التي يتمتع فيها أخوه الآخر، ويملك الفرد أن يعبِّر عن رأيه ووجهة نظره؛ بالكتابة, أو الخطابة, أو أي صورة من صور التعبير الرشيد؛ ويتحمّل مسؤولية هذه الكلمة وتبعتها في الدنيا والآخرة, ويحاسب كل من أخل بمبدأ, أو تجاوز حداً, أو تعدّى على مقدّس, أو أساء إلى أحد, ضمن المعايير الشرعية التي يتّفق عليها الجميع. وضمن هذا الإطار تأتي شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي يجب دعمها, وتنظيمها, وتطوير آلياتها, ومجالات عملها.
إن المجتمع العادل -الذي يتمتع بالحقوق والحريات المضبوطة بضابط الشرع فحسب- هو مجتمع محروس بعناية الله, محفوظ من الانسياق وراء الاعتبارات الخاصة, والرؤى الضيّقة, وهو الذي يشعر كل فرد فيه بمسؤولياته تجاه القضايا والقرارات الصغيرة والكبيرة.
والمعروف أن أساليب التعبير العنيفة -ومنها القتل, والتفجير, والاغتيالات- تأتي عادة في ظل انسداد السبل الطبيعية, وعدم قدرة الناس, أو فئة منهم على التعبير والحوار الحرِّ؛ ويعمقها الشعور بالغبن, والحيف, والظلم, والتهميش !
ومثل هذا الحدث -مهما يكن مؤلماً- يجب أن يكون منطلقاً لحركة تصحيحية إصلاحية جادة داخل مؤسسات الدولة.
والإطار المبدئي الذي يمكن الانطلاق منه لهذا الإصلاح؛ هو مبدأ الحوار النزيه, المحتكم إلى مسلمات الشريعة ومقرراتها { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }.
ومن حق كل إنسان أن يشارك ويقدم ما لديه؛ فالبلد بلده, والمصلحة له ولمن بعده, ولا يُستبعد من هذا الحوار صاحب فكر بحجة الغلو أو غيره؛ فالفكر يعالج ويصحح بالفكر, والحوار, والحجة, والبرهان. وأفضل الفرص لنشوء وانتشار الفكر المنحرف؛ هي الأجواء المغلقة الخانقة !
المهم هو عدم الاحتكام إلى السلاح والقوة في حل الإشكاليات, أو تحقيق المطالب.
6- إن أوضاع الشباب في السعودية تحتاج إلى معالجة شاملة؛ لتوسيع مشاركتهم في العمل الاجتماعي, وإعطائهم الفرص المناسبة للحياة الكريمة, وتشغيلهم, وتأهيلهم عبر مؤسسات رسمية وخيرية, وملء فراغهم بالمفيد النافع, والأخذ بأيديهم إلى الجادة المعتدلة, وتعزيز التيار المتوازن الملتزم بالقيم, وعزل الأطراف الموغلة؛ بالتساهل, أو التشدد. وهذه مسؤولية الحكومة بالدرجة الأولى ثم رجال الأعمال ورجال التربية.
إن أكثر من0 6% من الشعب السعودي؛ هم من الشباب دون سن العشرين. وهؤلاء يكادون أن يكونوا محرومين من الفرص التي يستحقها أمثالهم؛ من الناحية المادية والوظيفية التي تحقق احتياجاتهم, وتمنحهم الخبرة والتجربة. إن الشباب قنبلة موقوتة, مرشحة للانفجار في أي اتجاه! وعلينا ألا ننتظر لكي تقع المشكلة حتى نعالجها؛ بل أن نمتلك رؤية مستقبلية ناضجة؛ تستطيع أن تقرأ أثر المتغيرات, وأن ترسم الحل, وأن تنفذه.
ونحن بحمد الله دولة نفطية؛ لديها إمكانيات مادية هائلة, وخبرات بشرية جيدة, ومساحات متسعة من الأرض, ومستقبل واعد -بإذن الله- إذا توفرت الإرادة للإصلاح؛ كما قال سبحانه { إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً }.
إن الحدث ناقوسُ خطرٍ يعلن عما وراءه، وعلينا أن نفهم الرسالة جيداً, ونتعامل معها بمسؤولية وتقوى على مستوى الحاكم والمحكوم، وعلى مستوى المرسل والمتلقي.
والله أعلم
سلمان بن فهد العودة
14/3/1424 هـ
المصدر: موقع صيد الفوائد
سلمان بن فهد العودة
الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم -سابقًا-
- التصنيف: