الهجرة النبوية.. العقيدة فوق الوطن
الهجرة وما أدراك ما الهجرة.. الخروج من الحمى المبارك، ومفارقة خير أرض لله تعالى، والرحيل عن أحب أرض الله لله، في صفقة مبادلة العقيدة بالوطن، ونبل الغاية وسمو الهدف بالمكان وإن شرف..
الهجرة وما أدراك ما الهجرة.. الخروج من الحمى المبارك، ومفارقة خير أرض لله تعالى، والرحيل عن أحب أرض الله لله، في صفقة مبادلة العقيدة بالوطن، ونبل الغاية وسمو الهدف بالمكان وإن شرف.. عن عبد الله بن عدي ابن حمراء الزهري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على الْحَزْوَرَةِ، فقال: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» (صحيح: الترمذي في المناقب 3925)، والْحَزْوَرَةِ في اللغة الرابية الصغيرة، وكانت الْحَزْوَرَةِ سوق مكة، وقد دخلت في المسجد لما زيد فيه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: «ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك» (الترمذي في المناقب 3926).. لذلك لم تكن الهجرة هجرا لمكة وإنما هجرة منها ليعود إليها صلى الله عليه وسلم بعد ذلك منتصرا لدينه وعقيدته، حيث كانت الهجرة بحقٍّ فتحاً مبيناً ونصراً عزيزاً ورِفعة وتمكيناً وظهوراً لهذَا الدّين.
إن الهجرة النبوية إعلان تاريخي بأن العقيد هي أغلى ما تملك هذه الأمة المحمدية، وهي مصدر عزها ورشدها، ومنطلقها في الأمر كله، والتفريط فيها هو الذي أوقعها في فخ المحن والإحن، والتاريخ خير شاهد، وفيه عبرة لمن يعتبر.
فالهجرة تغيير وتعديل لأوضاع خاطئة وحياة راكدة.. إنها هجرة المسلم بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن الدعاء لغيره وسؤاله والخضوع والإخبات له والذل والاستكانة له.. إلى دعائه، وسؤاله والخضوع والإخبات له والذل له والاستكانة له عز وجل، وهذا معنى قوله تعالى: {فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ} [الذاريات: 50]، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت» (صحيح الجامع: 3388)، ويقول أيضا: «اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك..» (متفق عليه).
العقيدة فوق الوطن
العقيدة أشرف مبتغى وأسمى ما رسخه المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه.. فدونها تهون الأوطان، والأحباب والخلان، والأموال وسائر ما تحرص عليه نفس الإنسان، فحاجة العباد إليها فوق كل حاجة، وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة، لأنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبدوها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه.
العقيدة تحرر المؤمن من العبودية لغير الله تعالى فيشعر بالعزة والكرامة، فلا يستكين إلا لله وحده، ومنه وحده يلتمس النصر والتأييد والمعونة والتوفيق والرشاد والسداد، فإلى الله مفزعه، ومنه يستجلب العبد المدد، وهذا يلخصه ربعي بن عامر في كلمته الشهيرة لرستم: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
والعقيدة هي السياج المتين القادر على توحيد القلوب وتجميع الصفوف واتحاد الهدف، على مر العصور والأزمان، قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63]، ولهذا فمع خلل العقيدة ينفرط عقد هذه الأمة وتصلى نار التشتت والتشرذم، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106] والشرك ضياع وصوره كثر.. السحر والشعوذة وعلم الغيب (قراءة الطالع والكف) والتطير والتشاؤم والرقي والتمائم، والحلف بغير الله.. في صور لا تكاد تُحصر ولا تعد. فضلا عن الغلو في الصالحين، والتبرك بآثارهم، وطلب الغوث من المقبورين، والطواف حول الأضرحة، والدعاء عندها، وتعليق القناديل والسرج والستور، والذبح عندها ولها، والتمسح بها، ويتطور الحال حتى تتخذ أعياداً ومنسكاً، وإلى الله المشتكى.
ومن صور الخلل في التوحيد التي ابتليت بها فئات من المنتسبين إلى الإسلام في زماننا تزعم الثقافة والاستنارة والمعاصرة.. أنها لا ترضى بحكم الله تعالى ولا تسلم له، بل إن في قلوبها لحرجاً، وفي صدورها لغيظاً وضيقاً، إذا أقيم حدٌ من حدود الله ارتعدت فرائصهم، واشمأزت قلوبهم، قاموا وقعدوا، وأرغوا وأزبدوا، ولهم إخوان يمدونهم في الغي، يزعمون الحفاظ على حقوق الإنسان!!، وما ضاعت حقوق الإنسان وحقوق الأمم إلا بهم وبأمثالهم.
الشريعة الإسلامية برأيهم السقيم ظلم المرأة وهضم حقوقها، والحدود قسوة وبشاعة وتخلف، وحكم الردة تهديد لحرية الإبداع والفكر، وأحكام الشرع كلها عودة إلى عصور الظلام والتعصب والانغلاق، بل لقد أدخلوها في نفق الإرهاب المقيت، متناسين قول العلي القدير: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، ومن مقتضيات العقيدة الإسلامية وثمراتها: التربية والتنمية والبناء بكافة صوره، بدءا من الإنسان واشتمالا لكافة جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية الاقتصادية.
ولهذا لما صحت عقيدة السلف الصالح كان منهم ما يشبه الأعاجيب والأساطير، فلقد سطروا بصفاء عقيدتهم وجهدهم وعرقهم تاريخا ناصحا تشرف به الأجيال، وحضارة طاهرة كانت مثار إعجاب العقلاء على مر الأزمان.. حضارة خلت من الشذوذ والإدمان والعهر والعري وسائر الموبقات مما تعانيه الحضارات الغربية المعاصرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا المقام: "ولهذا لما كان يوسف -عليه الصلاة والسلام- محباً لله تعالى مخلصاً له الدين لم يُبْتَلَ بالعشق بل قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]. وأما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها، فلهذا ابتليت بالعشق، وما يبتلى بالعشق أحد إلا لنقص توحيده وإيمانه، وإلا فالقلب المنيب إلى الله تعالى يصرف عن العشق" (أمراض القلوب وشفاؤها: 1/26).
وقال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-: "من دخل الإيمان قلبه، وكان مخلصاً لله في جميع أموره فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه وصدق إخلاصه من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه لقوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24]".
يقول د. محمد أمين المصري: "إن خير وسيلة لتربية الغرائز وتعديلها تربية العقيدة تربية قوية، هنالك تظل الغريزة ولكنها تصبح مملوكة غير مالكة، تابعة غير متبوعة، خادمة غير مخدومة، هنالك في ظل العقيدة المثلى يلين قياد الغرائز جميعها وتصبح كلها جنودا طيعة للقيادة العليا. فغريزة الجمع لا تفقد قوتها ولا حدتها ولكن وجهتها بعد هيمنة العقيدة ليست إلى الترف والتفاخر والتكاثر بل إلى خدمة العقيدة، فالمال يجمع لينفق دفعة واحدة في سبيل العقيدة.
والغضب لا تزول شرته ولكن تتغير أسبابه ودوافعه، أما دافعه الفطري فهو دفع اعتداء على مال أو جاه أو أي شيء يخص ذاتية الفرد فإذا هيمنت العقيدة وكان الاعتداء على واحد مما ذكر لم يبال الفرد ولم يغضب. والخوف يزول لدى صاحب العقيدة ولكن أسبابه ودوافعه الأولى لا تزول، لقد كان يخشى الظالم ويرهب الجائر فلما وجدت العقيدة لم يخش الظلم ولا الجور ولكن خشى السكوت عن الحق وخشى الجبن عن الصدع بالحق، وهكذا يخشى الوعيد الذي جاء في الآية الكريمة: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
إن حفنة من رجال العقيدة يستطيعون أن يغيروا معالم التاريخ.. إن المنقذ الوحيد للعالم من النهاية الأليمة التي ترتقبه هو وجود نظام للتربية يقوم على التوفيق بين العقيدة والثقافة، بين قوة العاطفة والتهاب جذوة الإيمان، وبين العلم الواسع والفكر النير، ومعرفة أحدث ما وصلت إليه الأجيال البشرية من تجربة واكتشاف" (المسئولية، د. محمد أمين المصري، دار الأرقم- برمنجهام- بريطانيا، ص 42-43، ص124 بتصرف).
إن العقيدة كما يقول الفضلاء: صبغة الله تعالى الدينية، وفطرته التي أرادها للبشرية، وهي التي تستحق رضوانه ومحبته، ونعيمه وجنته، وهي التي تستحق نصره وتأييده على عدوها، وتستحق أن يعليها الله تعالى على الأمم لأنها أعلت كلمته ودينه، قال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، فلا نصر في الدنيا، ولا فوز في الآخرة، إلا بهذه العقيدة الحنيفية السمحة.
ولهذه الأهمية الفريدة للعقيدة نجد القرءان الكريم لا تخلو آية من آياته من صفة لله سبحانه وتعالى، أو اسم من أسمائه الحسنى، قال شيخ الإسلام أحمد بن تيميه رحمه الله تعالى: "والقرآن فيه من ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذكر الأكل والشرب والنكاح في الجنة، والآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظم قدرا من آيات المعاد، فأعظم آية القرآن الكريم المتضمنة لذلك، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي بن كعب: «أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟، قال: { اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، فضرب بيده في صدره وقال: لِيَهْنِكَ العلم أبا المنذر» (مسلم: 1921)، وثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن: «{قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن» (البخاري: 4726)، وبشر الذي كان يقرأها ويقول: إني لأحبها لأنها صفة الرحمن، بأن الله يحبه.
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: