تفجيرات لندن وأخواتها .. وقفات مع الفعل والأثر

منذ 2005-07-12

السبت 3 جمادى الآخر1426هـ - 9 يوليو 2005م


مفكرة الإسلام: عقب كل حادثة ذات شأن في العالم تمسّ المسلمين تجد حالة من الاستقطاب تسود العالم الإسلامي، سواء على مستوى الشعوب أو على مستوى المفكرين والمنظرين والمحللين السياسيين والإسلاميين أنفسهم.

ولا تخرج عن تلك الحالة العمليات التي تنسب إلى تنظيم القاعدة منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي ضربت الولايات المتحدة الأمريكية، وحتى تفجيرات لندن في السابع من شهر يوليو، مروراً بتفجيرات مدريد في 11 مارس 2004.

والخروج من حالة الاستقطاب هذه يفرض علينا القول في البداية إن تناول المواقف بالتحليل والخروج بنتيجة ما - إيجابية أو سلبية - لا تعني بالضرورة أنك مع أو ضد هذا الاتجاه, فالتحليل منصب على 'الفعل والأثر' وليس على فاعله.

ونحن نستطيع القول بأن التفجيرات التي ضربت العاصمة البريطانية لندن ليست بطبيعة الحال حادثاً منبتّا عما سبقه من حوادث مماثلة, فهي فيما يبدو منظومة واحدة قائمة على وجهة نظر معينة في التعاطي والتعامل مع الغرب برمته, لاسيما الدول التي تتخذ مواقف عدائية للمسلمين وقضاياهم.

وقفات مع الفعل

نحن في تأملنا لهذه الحادثة وأخواتها سنجد الآتي:

أولاً: أنها تعكس تفكيراً وتخطيطاً دقيقاً من قبل فاعليها, وأنهم لا يسيرون وراء ردود أفعال سريعة وغاضبة, وإنما يعدّون لضربتهم على مهل وفي تؤده وسرية مذهلة, وأن عامل النجاح في تلك العمليات هو العنصر الأهم والأبرز, ويظهر ذلك جلياً في تنوع الضربات وكثرتها في مدى زمني قصير وهو ما يصعب إلى حد كبير محاولة إجهاضها, واكتشافها.

ثانياً: يتم اختيار التوقيت بعناية فائقة بحيث تعطي العملية أثرها وبعدها على كافة المجالات السياسية والأمنية.
فمثلاً اختيار هذا التوقيت في تفجيرات لندن تزامن مع فاعليات قمة الدول الصناعية حيث تتركز اهتمامات رجال الأمن, وتكون المنظومة الأمنية أقل إحكاماً في غير مكان الانعقاد.
ووقوعها في ذلك البلد المستضيف رسالة كذلك إلى 'الكبار' بأنهم ليسوا بمنأى عن الضربات.

ثالثاً: أنها تسير برؤية واحدة قائمة على خلخلة منظومة الأمن القومي الغربي, وإسقاط الحكومات وإظهارها بمظهر العاجز والفاشل عن تحقيق ما يتوعد به من أمن, وهي الحالة التي تعتقد تلك الشعوب أنها ضحت بجزء من حريتها في مقابل تحقيقها.

بمعنى آخر, فإن تلك الهجمات تهدف إلى تعرية الأنظمة وكشفها أمام شعوبها, وهو ما يصب في اتجاه تحفيز تلك الشعوب على معارضة الأنظمة وإسقاطها. كما أنها إلى جانب خلخلة الجانب الأمني وتداعيات هذا الفعل على مجمل الأوضاع السياسية, فإنها تستنزف اقتصادياً - إلى حد ما - تلك الدول, فلم تمضي لحظات على وقوع التفجيرات حتى اضطربت أسواق المال الأوروبية, وهبط مؤشر'الفوتسي100' اللندني أكثر من 200 نقطة, وفقد الجنيه الإسترليني نحو 1.74 سنت أمام الدولار الأمريكي.

رابعاً: أن تلك الأحداث تحدث نوعا من التوازن والشعور بالكرامة لدى قطاع غير قليل من العالم الإسلامي, وأن من بني جلتهم من يستطيع أن 'يغزو' الغرب في عقر داره وأن يلحق به خسائر بشرية ومادية, ويذيقه بعض ما يذيق المسلمين، وهذا بلا شك يوازن الانهزام النفسي الذي يتسلل إلى فئات من كثيرة من المسلمين جراء الإهانات التي يوجهها الغرب والتي لا يبدو أن آخرها إهانة المصحف في سجون جوانتانامو.

خامساً: لا شك أن هذه الأعمال تترك أثرا في الدول الغربية وعند الساسة ومتخذي القرار في تلك الدول يشير إلى أن الإفراط في الإساءة إلى العالم الإسلامي سيكون له ردة فعل في الداخل الغربي ذاته, وأن التعرض للمسلمين ومقدساتهم ليس أمرا يمر مرور الكرام, وأن إعراضهم وحرماتهم ليست كلأً مستباحاً, وهو ما قد يحجم تلك الدول وساستها عن التمادي إلى النهاية القصوى في غيها وباطلها.

سادساً: الآلة الإعلامية لمرتكبي هذه الحوادث تستغل ما يجرى في العراق وأفغانستان وفلسطين من انتهاكات مروعة لترويج وتبرير أعمالها, وهي في ذلك تستغل أحداث هي بحق مؤثرة في القطاع الأكبر من العالم الإسلامي مما يضفي على أعمالها نوعا من القبول عند قطاع من المسلمين.

سابعاً: هذه الضربات الموجعة للعواصم الغربية تؤكد صدقية رسالة زعيم القاعدة أسامة بن لادن والتي عرض فيها على الدول الأوروبية الدخول في هدنة, وأنه قادر على أن يشكّل تهديداً حقيقياً لتلك الدول, وأن السخرية التي قوبلت بها رسالته لم تكن في محلّها, وأن الغرب لم يقدر بعد قوة الخصم القادر على إحداث النكاية فيه.

ثامناً: أثبتت تلك العمليات أن الإجراءات التي تتبعها الدول الغربية حتى الآن في شل فاعلية تنظيم القاعدة ومكافحة 'الإرهاب' على العموم غير فاعلة بالدرجة الكافية, وأن كل ما تروّج له عن قدرة أجهزتها الأمنية على إحباط المخططات ما هي إلا مزاعم لا تصمد أمام ضربات القاعدة.


وقفات مع الأثر

وإذا جاز لنا أن نحصي على تفجيرات لندن وأخواتها ما سبق, فإن لنا مع الأثر من تلك الأفعال وقفات نسوقها كالتالي:

أولاً: هذه المواقف والاجتهادات تتم بمعزل عن قطاع عريض من علماء الأمة ومفكريها, ويأخذ تنظيم واحد على عاتقه القيام بها، رغم أنها تترك أثراً على عموم الأمة.
وهنا نرى خللاً حادثاً وبقوة, فلماذا تحمل الأمة كلها والصحوة الإسلامية برمتها باجتهادات طائفة أو فصيل. فالأحداث المؤثرة على الأمة برمّتها لابد وأن يكون للأمة فيها من خلال علمائها الربانيين كلمتها التي من المفترض أن تكون مسموعة من قبل كل الفصائل, وليس من المصلحة تجاهل توجهات وفتاوى العلماء الذين تتلقى الأمة نصائحهم بالقبول والعناية ليس إلا لأنهم يعبرون عن نبضها ورغباتها.

ثانياً: قد يكون صحيحاً أن الغرب والعالم المسيحي قد وقف مُستنفرا لمواجهة ما اصطلح على تسميته بالخطر الإسلامي منذ أن وضع عالم السياسية الأمريكي صموئيل هنجتون كتابه 'صدام الحضارات', ولكن ما يحتاج إلى تأمل ونظر هل من المصلحة الاستمرار في الصدام مع الغرب وبوتقته وصهره جميعاً في بوتقة واحدة ضد المسلمين؟

فقد صرح فرانكو فراتيني مفوض العدل والأمن في الاتحاد الأوروبي أن المفوضية الأوروبية ستسرع جهودها لتكوين شبكة مخابرات واسعة تضم دول الاتحاد بعد تفجيرات لندن. وقال فراتيني أنه خلال الاجتماع الذي تعقده المفوضية يوم 13 يوليو ستطلب من الحكومات العمل بسرعة ومعا لإقامة شبكة استخبارية أوروبية تعمل من خلال الكمبيوتر. وقال فراتيني إن التقدم الذي أحرز بشأن إقامة شبكة معلومات للمخابرات لإقرار الأمن كان بطيئاً نظراً لرفض وكالات المخابرات الوطنية تبادل المعلومات عن المصادر وأساليب التجسس لكن التحدي الإرهابي يجبرنا على اقتسام كل ما هو ممكن.

ثالثاً: سؤال آخر يطرح نفسه هل المقصود من تلك الأحداث وفقط إحداث ردة فعل على شعوب العالم الغربي للتأثير على قادته وساسته لتبنى سياسات أكثر عدلا تجاه المسلمين؟
فإذا كان الرهان على ذلك نستطيع أن نقول إنه غير مضمون, وذلك لعدة أسباب منها الآتي:

1ـ الرئيس الأمريكي جورج بوش أعيد انتخابه للمرة الثانية رغم كونه الركن الأبرز في الحرب على المسلمين, وهو الذي دشن حرباً ضد المسلمين تحت مسمى الحرب على الإرهاب.

2ـ ما حدث مع بوش تكرر حدوثه مع رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني, والبريطاني توني بلير رغم إصرارهما على بقاء قواتهما في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد العراق.

3ـ بعد أحداث 11 سبتمبر وتفجيرات مدريد زادت نسبة الاضطهاد للمسلمين ومقدساتهم في الدول الغربية.

وقد يكون صحيحاً أن رئيس الوزراء الأسباني خوسيه أزنار قد ساهمت ضربات القاعدة التي تزامنت والانتخابات في إسقاطه, ولكن تبقى حادثة واحدة لا تجد ما يؤيدها ويدعنها كي تبنى عليه استراتيجية بعيدة الأمد خطيرة الأثر.

رابعاً: نرى أن تلك الحوادث تغفل كذلك عن أثرين هامين:
الأول : أنها تكرس لمزيد من التشدد تجاه الإسلاميين في الدول العربية والإسلامية, وتعطي مبرراً قوياً لإجهاض الحركات الإسلامية ومكافحتها, ولا شك أن مد البصر في محيط العالم العربي والإسلامي سيدعم تلك الجزئية بقوة.

الثاني: أنه يخندق المسلمين في الغرب في خندق المدافعة أمام سيل الاتهامات التي تلصق بهم عقب كل حادثة, وربما تنقطع جذورهم بالعالم الإسلامي ويجنحون أكثر نحو القيم الغربية في محاولة للتخلص من تلك الاتهامات.

ومما يدلل على ذلك أن 'اتحاد المنظمات الإسلامية في أوربا' وصف الهجمات بأنها صدمة عميقة لكل 'الضمائر الحية', وأن المسلمين في كافة أرجاء أوربا يقفون صفاً واحداً مع إخوانهم المواطنين في كل بلد أوروبي، من أجل تحقيق المصالح العليا لمجتمعاتهم الأوربية.
المصدر: موقع مفكرة الإسلام