نجحت الثورات.. هل حان وقت الحوار حول دولة الأمة الإسلامية؟
الحقبة الماضية من عمر الأمة شهدت قيام نظم للحكم شيدت سياستها المعلنة على إعلاء الفكرة العربية على الفكرة الإسلامية في رسم السياسات الخارجية لمعظم الدول العربية، ولم تنتهِ بالحالة العربية إلى أي تقدم، بل كانت نتائجها مدمرة، وفاتحة الطريق لحالة انهيار شامل للوضع العربي بإجماليته. وفي المقابل نشطت الفكرة الإسلامية في داخل المجتمعات على حساب الفكرة القومية، لكن مع وجود تحديات كبيرة دولية وشعبية.
نجحت الثورات..
نجحت الثورات العربية في إطاحة نظم الحكم القديمة (المستبدة)، وصارت تؤسّس لنظم حكم بمفاهيم جديدة على صعيد السياسات الداخلية في كل بلد -ضمن حالة تطورية- بما صار يطرح آفاقاً متغيرة للسياسات الخارجية لتلك الدول، ويطرح التساؤلات حول ما ستتمكن من تغييره في واقع الحالة الرسمية العربية والإسلامية الراهنة، إذ كل تغيير في نظم الحكم والسياسات الداخلية لأي بلد لا بد أن يطرح تغييرات في مضامين السياسات الخارجية، خاصة في منطقة هي قلب العالم جغرافياً وإستراتيجياً وعلى صعيد الثروات الأساس في بناء الحضارة التكنولوجية الإنسانية الحديثة.
وإذ تأتي الثورات العربية في ظل وضع دولي مكثف التغييرات حتى درجة الاضطراب، وبحكم أنها في قلب (إعادة) تغيير التوازنات الإقليمية والدولية، وكذا لأن العالم يسير نحو بناء تكتلات على حساب دور وفكرة الدولة الوطنية (الاتحاد الأوروبي مثالاً)؛ فالسؤال المحوري الآن هو: ماذا عن التغيير الذي تطرحه تلك الثورات على صعيد علاقات الدول العربية والإسلامية مع بعضها بعضاً، وعلى صعيد دورها الدولي؟ إذ لم تأتِ تلك الثورات العربية إعلاناً بفشل الأطر والنظم والسياسات الداخلية فقط، بل جاءت على أنقاض فشل مشروعات وأطروحات ومنظمات أقامتها النظم القديمة تحت شعارات الوحدة والتضامن العربي والإسلامي.
وبالنظر بتأنٍ إلى ما يمكن أن تحدثه تلك الثورات من تغيير في علاقاتها الخارجية؛ تبدو الفكرة الإسلامية هي موضع الحوار لا الفكرة القومية.. لقد انتهت الفكرة القومية إلى فشل كبير، والأهم أن كل ثورات الربيع العربي جاءت مترافقة مع فكرة وحالة وصول تيارات إسلامية إلى سدة الحكم، كما أن تلك الحالة الجديدة في العالم العربي تأتي تالية لتطورات سبقت فيها دول إسلامية الوضع العربي على نحو مؤثر وكبير، حتى إن بعض الثورات العربية وأطروحاتها ونموذجها تبدو في بعض الأوجه تابعاً -لا تالياً فقط- للتغيير في العالم الإسلامي.
وبطريقة أخرى: فإن التغيير الذي حدث في العالم العربي ووصول حركات إسلامية إلى صدارة الحكم، صار يطرح إشكالية التغيير على صعيد حالة الأمة الإسلامية بأكثر مما يطرح من تغييرات على الصعيد العربي -بشأن التغيير للسياسات الخارجية ومضامينها- سواء على صعيد تشكيل حالة إسلامية ناهضة، حيث بات مطلوباً أن تسهم في تغيير خريطة العالم التي يجري رسمها الآن -بالانتقال من العالم أحادي القطبية إلى عالم متعدد الأقطاب- أو على صعيد تشكيل مواقف مشتركة لمواجهة التحديات الحالة من أزمات الدول التي لا تزال تشهد حالة تغيير حالياً، أو على صعيد الأمة في مواجهة تحديات الإسلاموفوبيا التي صنعتها الدوائر الصهيو - غربية، أو في مواجهة حالات الاضطهاد التي تعيشها أقليات إسلامية -كما هو الحال في ميانمار والصين وأوروبا وغيرها-، أو بشأن حالة مذهبة الصراعات السياسية وتحويلها من خلافات حول أسس الحكم إلى صراعات وفتن مذهبية؛ وقبل كل ذلك وبعده، تأتي أهمية بناء كتلة إسلامية قادرة على إعادة بناء نهضة الأمة، على اعتبار أن ثورات الربيع العربي تنشد النهضة.
الحالة العربية:
واقع الحال أن الحقبة الماضية من عمر الأمة شهدت قيام نظم للحكم شيدت سياستها المعلنة على إعلاء الفكرة العربية على الفكرة الإسلامية في رسم السياسات الخارجية لمعظم الدول العربية، فكانت مشروعات الوحدة العربية التي فشلت جميعها -على أساس الفكر القومي-، وكان تشكيل الجامعة العربية كإطار رسمي يجمع الدول، وقد توقف دورها على جمع حاصل الخلافات دون أن تحقق لا وحدة الرؤية ولا الموقف الموحد. والنتيجة الفعلية أنه لم تنجح أي مشروعات للوحدة، بل ساد الانقسام، وجرى تعميق دور الدولة الوطنية على حساب الفكرة القومية في المرحلة الأولى ما بعد الاستقلال، وانتهى الأمر من بعد -الآن- إلى حالة تبعثر للهويات القبلية والعرقية والمذهبية والثقافية، ليس على حساب الوحدة والفكرة القومية فقط، بل على حساب الفكرة والدولة الوطنية.
وقد جرت أعمال نقدية لكل تلك التجارب بحثت فيها وفي أسباب فشلها من كل الجوانب الواحدة تلو الأخرى، وبغض النظر عن أن أغلب تلك المحاولات لم يكن جاداً أو مصقولاً، فالأمر الأهم أنها لم تنتهِ بالحالة العربية إلى أي تقدم، بل كانت نتائجها مدمرة، وفاتحة الطريق لحالة انهيار شامل للوضع العربي بإجماليته، حتى وصلنا إلى مرحلة صار يجري فيها تفلت المكونات العرقية والمذهبية في داخل معظم الدول، بما يعني فشلاً لمشروعات الوحدة، وإضعافاً وتفكيكاً للوحدة الأساس في بناء النظام العربي (والدولي) -أي الدولة القطرية- بحكم تحول كثير من تلك الدول من وحدة بناء الوطن إلى التقسيم والتفتت الواضح، واللاحق تحت الرماد.
وفي المقابل يلاحظ المتابع تطوراً في العمل الإسلامي خلال المرحلة الأخيرة، وسعياً على أساس تلك الرؤية لملء فراغ التشرذم وتقطع الأوصال في النظام العربي. لقد نشطت الفكرة الإسلامية في داخل المجتمعات على حساب الفكرة القومية، كما دخلت أعمال نقدية على خط الفكرة القومية وصار بعدها التعصب أقل عند بعض الاتجاهات، كما جرى حوار فكري حول المحتوى الإسلامي لتشكل الفكرة العربية ذاتها، والأهم أن كل الجماعات والأحزاب والروابط والتجمعات أصبحت إسلامية الرؤية والنشاط والدور.
أصبحنا أمام فشلٍ لتجارب الوحدة (على أساس قومي)، وتهديدٍ للفكرة الوطنية (على أساس قطري)، وتصاعدٍ بالمقابل في المد الإسلامي حتى وصل الكثير من التيارات إلى سلطة ومركز إدارة الحكم، ما طرح التساؤل حول تأثير المد الإسلامي على بقية الهياكل التي بنيت وظلت قائمة خلال الحالة العروبية أو القومية -والبعض يجد خلافاً بين المصطلحين- سواء بناء الدولة الوطنية (القطرية) أو الجامعة العربية، والأهم طرح التساؤل حول المضمون الإسلامي لحركة السياسة الخارجية لدول الربيع خلال المرحلة المقبلة.
الحالة الإسلامية:
الحالة الإسلامية الراهنة تكاد تذكّر -على نحو ما- بحالة النهضة الأوروبية، فهناك شمولية واندفاع للظاهرة الإسلامية على كل الصعد والمستويات الفكرية والسياسية والاجتماعية والجماهيرية، وهناك أن الظاهرة الإسلامية صارت شاملة للدول العربية والإسلامية على حد سواء وفق طرق مختلفة، لكنها تجري في اتجاه واحد، فهناك أن حركات المقاومة الناهضة بالسلاح في مواجهة الاحتلال الأجنبي صارت إسلامية -في فلسطين والعراق وأفغانستان- كما هو الحال على صعيد الخيار الانتخابي لجمهور المواطنين في كل الدول الإسلامية، إذ حين يعرض الإسلاميون أنفسهم للصراع الانتخابي يختارهم الناس، وهو ما ظهر جلياً في دول الثورات العربية، وهناك أن الدول الناهضة في العالم الإسلامي هي دول لم تنهض إلا تحت قيادة الفكرة والحركة الإسلامية، إذ عدّت تركيا وماليزيا نموذجاً للنهضة الإسلامية.
لم نعد أمام حركة إسلامية معارضة، بل أصبحنا أمام حركات إسلامية حاكمة تثير آمالاً حقيقية في دورها النهضوي، بما يعني دخول الأمة الإسلامية مرحلة جديدة مختلفة عن تلك المرحلة التي انتهت إليها الحركات والتيارات الوطنية والقومية، وذلك ما يجعل التساؤل طبيعياً حول (النموذج) الذي سيعتمد خلال المرحلة القادمة في مجال السياسات الخارجية في مواجهة بعضها بعضاً وفي مواجهة الوضع والتكتلات العالمية.
النموذج الإسلامي:
منذ بداية المد الإسلامي -وظاهرة الصحوة- وكل القوى السياسية في الداخل والدول الكبرى والإقليمية منشغلة بالوضعية الكلية للعالم الإسلامي، جراء تلك الصحوة. لقد جرت حملة مبكرة على فكرة الخلافة الإسلامية في الداخل والخارج، حتى إن الرئيس الأمريكي تحدث بعدوانية حول الأمر، رابطاً حملته ضد الإرهاب بفكرة قطع الطريق على وحدة العالم الإسلامي تحت الخلافة. وإذا كانت القوى الداخلية الرافضة للفكرة الإسلامية قد شنت حملاتها ضد الفكرة -وكان الأمر مخوفاً لدول الخارج- إلا أن الملاحظ في المقابل أن القوى الإسلامية لم تقدم مشروعاً عملياً واضحاً للحالة الإسلامية الجديدة في مجال السياسة الخارجية لكل منها بشكل برنامجي أو خططي، وظلت تميل إلى طرح النوايا والطموح لا البرامج والخطط ولا الدراسات المتعلقة بالأمر.
الأمر مطروح إذن، والأهم أن قدراً معقولاً من الأسس الموضوعية والفعلية تجعل دراسته والتفكير العملي بشأنه أمراً حالاً الآن، سواء من زاوية البيئة الداخلية أو الأوضاع والحالة الدولية، فكلاهما تتوافر فيهما عناصر إيجابية بشأن دراسة وإمكانية تطبيق نموذج توحيدي إسلامي تجري هندسته وفق حدود الواقع وتطوراته.
فعلى صعيد اتجاهات وديناميكيات حركة الوضع الدولي، فهناك تنامي حالة الانتقاص الجارية حالياً في مقومات السيادة للدولة التجزيئية (القومية أو الوطنية) في العالم العربي والإسلامي، هذا الأمر يقلل من (المقاومة والعقبات الداخلية للذهاب باتجاه بناء تكتل إسلامي).
الدولة الوطنية صارت معرّضة لحالة تفكك تشمل المجتمعات أيضاً بعد أن تحولت عملية انتقاص السيادة التي يقودها الغرب من حالة تجري خارج (القوانين الدولية) إلى ما يشبه الأساس في نظام دولي جديد -في ظل العولمة-، كما أن عملية إنقاص السيادة الوطنية صارت حالة صدامية تشمل تغيير الهوية وتغيير الثوابت السياسية والاقتصادية والعسكرية لكل الدول، وجعلها جزراً منعزلة داخل فضاء السيطرة الغربية، ما يشكل دافعاً لحالة إيجابية ونقطة انطلاق لتوفير مساحات أوسع للحركة من أجل بناء الكيانات فوق الوطنية بديلاً للكيانات الصغيرة، التي لم تعد قادرة على الاستمرار.
الحالة الراهنة يمكن أن تصبح نقطة انطلاق باتجاه كيان جامع للأمة مرة أخرى، أو للبناء وفق أسس أخرى، توحيدية متناقضة مع الأهداف الغربية، أي إلى حالة مضادة (إيجابية) باتجاه إعادة بناء «دولة» الأمة الجامعة مرة أخرى وَفق أسس ونظم جديدة متنوعة. هذا التفكيك للدول والمجتمعات يجري للدول العربية والإسلامية وبقية الدول والمجتمعات الفقيرة والضعيفة من غير المسلمين، في الوقت الذي يجري فيه تعميق ومضاعفة ملامح السيادة بالنسبة (للدولة) الأمريكية والروسية والصينية وغيرها من الدول التي تمتلك معالم القوة العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية... وغيرها، كما يجري التخلي عن بعض معالم السيادة في دول القارة الأوروبية باتجاه تشكيل «دولة» أكبر، هي الاتحاد الأوروبي (دستور، جيش، كيان اقتصادي، وحدود خارجية واحدة، إلخ..) وذلك درس إستراتيجي ضاغط على دول الأمة الإسلامية في تكويناتها الراهنة.
وعلى الصعيد الإقليمي، فقد تصاعدت عوامل قوة دول ذات مطامع عدوانية في الإقليم، ولم يعد بإمكان الكثير من الدول القائمة الاعتماد على قدراتها وحدها لمواجهة محاولة ابتلاعها على أسس مذهبية أو من خلال مشاريع تفكيك وبسبب وجود قوى تسعى للسيطرة على مواردها أو تغيير نظم الحكم القائمة فيها.
وعلى صعيد الأوضاع الداخلية الدافعة باتجاه التفكير الخططي والعملي بشأن حالة جديدة في العلاقات بين الدول الإسلامية؛ فهناك أن الحركة الإسلامية تشهد نهضة بمختلف أنماطها المقاومة والسلمية وملامح نهضتها وتطور قدراتها، وفي زخمها الشعبي وعلى صعيد تبلور برامجها السياسية إلى مستوى لم يحدث منذ قرون وبشكل خاص منذ الهجمة الاستعمارية الحديثة في أعقاب النهضة الأوروبية؛ تلك الحركة الإسلامية (على المستوى الوطني) تنمو وفق أشكال تنظيمية جامعة على الصعيد الإسلامي، إذ إن وحدة الأمة هي أمر عقائدي بالنسبة لكل الحركات الإسلامية وليست حاجة سياسية أو اقتصادية أو إستراتيجية فقط.
وهناك أن حالة الدولة القطرية التجزيئية هي حالة طارئة -بعمر الزمن- على وضع الأمة الإسلامية، إذ عاشت الأمة في ظلال دولة تشكلت على أساس البناء العقيدي لأمة مترامية الأطراف هي الأمة الإسلامية، وعلى أسس إدارية واضحة، كما امتلكت تلك الدولة كل مقومات تداول الحكم وفق قواعد محددة في انتقالاتها بين مراكز الخلافة، وكان لها (جيش) وأجهزة دول مختلفة، كما هي استندت إلى قواعد تشريعية واضحة المعالم مدونة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم وفي المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وفي كل ذلك مثلت النمط الأرقى للحكم في تاريخ البشرية؛ لاستنادها إلى مرجعية قرآنية ثابتة ولإنتاجها الفقهي الذي شمل كل معالم الحياة البشرية التي تواصل دورها لقرون في ظرف تاريخي لم تكن فيه أمة أخرى أو دول أخرى على المستوى نفسه الذي حققته في نظم الحكم والإدارة والتقدم العلمي، وهذا الوضع يشكل أساساً تاريخياً للعودة إلى فكرة دولة الأمة الواحدة.
تحديات في الطريق:
تلك المقومات الإيجابية ليست وحدها التي تشكل المشهد الراهن، بل هناك تحديات كبرى في طريق أي مشروع لبناء دولة الأمة الإسلامية وَفق صيغ كاملة أو متدرجة، وهو ما يطرح على كتّاب البحوث والدراسات الإسلامية ضرورة تقديم تصورات أولية لإستراتيجية تطوير الوضع الراهن تتناول التحديات وتبحث في الأسس والقواعد والهياكل السياسية والاقتصادية والإدارية التطورية وفق حالة مدققة، إذ مثل هذا التطور يتواجه مع حالة استمرت لنحو 100 عام من الفرقة، وبحكم التداخل بين بناء هذا الكيان الجامع وتعقيدات ارتباط كل دولة من الدول التجزيئية بنظم داخلية مختلفة عن الأخرى وبعيدة عن مفاهيم البناء الجديد، وبحكم الارتباط بين كل دولة ودول العالم الخارجي بمعاهدات واتفاقيات تتناقض مع انضمامها لكتل أو تكوينات أخرى، وكذا بالنظر إلى ما يواجه تشكيل كيان للأمة الإسلامية من حالة دولية ربما تصل إلى درجة إعلان تحالف بين الدول (الكبرى) لمنع قيامها.
ونوجز هنا بعض التحديات ذات الأولوية، التي تتطلب الدراسة والحوار: أولاً: تحدي مواجهة الوضع الدولي:
إن بناء الدولة الإسلامية الموحدة -عبر أي شكل من أشكال التنظيم والصيغ التدرجية كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي- هو أمر لن يجري بالاعتماد على أسس القانون الدولي، بل عبر صراع معها أو بالاعتماد على القوانين التي تحكم نشاط الدولة التجزيئية، وفي تلك الحالة واستناداً إلى تجارب تاريخية عديدة، فإن القوى الدولية الأكبر أو المهيمنة على الوضع الدولي؛ ستجد في ظهور مثل هذا القطب الدولي إخلالاً شديداً بالتوازنات التي تحقق لها مصالحها وهيمنتها على القرار الدولي بشكل عملي وفي أطره القانونية على مستوى النظام الدولي، الذي تشكّل منذ سنوات طويلة وعبر حروب عالمية وإقليمية قامت جميعها إما على تقسيم دولة الأمة الإسلامية فيما سمي تركة الرجل المريض -أي الخلافة الإسلامية في تركيا-، أو على استبعادها كقطب دولي واستبعاد تمثيلها الفاعل في تشكيل توازنات الوضع الدولي.
وبمعنى آخر: فإن تطوير العمل بين الدول الإسلامية وصولاً إلى تشكيل كيان حقيقي جامع للأمة الإسلامية، سيجري من خلال أوضاع تدرجية على الأقل في مرحلة الإستراتيجية الأولى أو بالدقة خلال مراحل الإستراتيجية في التأسيس، بما يطرح على القوى والحركات الإسلامية ضرورة التحرك بهذا الاتجاه دون تصور إنجاز المشروع المتكامل دفعة واحدة بما يوفر فرصة للإفلات من قيود الوضع الدولي؛ ذلك هو الخط الإستراتيجي للبناء.
ثانياً: تحدي المواجهة مع الدولة التجزيئية:
وفقاً لأنماط مواقف الدولة التجزيئية من انتقاص السيادة، وبسبب الاستجابات المتعددة لها لحالات الاختراق، ونظراً لضعف قدرات تلك الدولة على المواجهة بحكم طبيعة تشكلها وعوامل قدرتها وطبيعة المواجهة؛ فإن تحدياً «داخلياً» خطيراً يواجه تشكيل دولة الأمة الإسلامية من داخل تشكيلة الدولة التجزيئية، لا كقرار سياسي فقط، بل على صعيد النخب الحاكمة التي ترفض مثل هذا التطور بحكم طبيعة تشكيلها العقدي والفكري والسياسي، وباعتبار أن أبنيتها المؤسسية تقوم بالأساس على النظرة التجزيئية لا التوحيدية، كما هي في الوقت ذاته خاضعة للإملاءات والتوازنات الخارجية وبحكم وجودها داخل إطار مؤسسي دولي يكرس الانقسام كالتمثيل في المنظمات الدولية والإقليمية والخضوع إلى القانون الدولي. ذلك يتطلب وجود خطة إستراتيجية -أو خطط إستراتيجية- للتعامل الدقيق مع الحالة الراهنة، حيث إن كل إضعاف لقدرات الدولة التجزيئية وفق الخطط الاستعمارية، إنما هو مساندة لتلك الخطط، كما أن كل مساهمة في دعم الدولة التجزيئية دون الحصول منها على تنازلات باتجاه الخطة الإستراتيجية لبناء الدولة الإسلامية؛ إنما يسهم في بقاء هذه الدولة في أسوأ مراحلها.
ثالثاً: تحدي التاريخ المتكلس شعبياً حول الفكرة الوطنية والقومية:
مما لا شك فيه أن الحياة بشكل مجزأ ومنفصل ومتباعد وفي بعض الأحيان متعادٍ بين الدول التجزيئية؛ تركت آثاراً، ليس فقط على مستوى هياكل الدول، وإنما أيضاً على صعيد مختلف أنماط النخب، وعلى ثقافات الشعوب ومواقفها نتيجة الصراعات بين الحكومات، وهو أمر لا يستهان بتأثيراته وتحدياته التي يطرحها، خاصة في ظل غياب الصوت الشعبي المنفصل عن مواقف الحكومات وتأثيراتها في كثير من الدول.
كما أن جانباً مهماً من التأثيرات المتعلقة بطبيعة الثروات المتراكمة في بعض البلدان مقابل الفقر الشديد في بعضها الآخر، والمستوى المعيشي المتفاوت بين المجتمعات؛ كلها تمثل عوامل ممانعة أو تتطلب قدراً عالياً من الوضع في الحسبان. كما يجب الوضع في الحسبان أيضاً أن مفاهيم خطيرة قد تسلّلت إلى عقول الشعوب من خلال المفاهيم الاستعمارية والأسس التي تحقق على أساسها بناء الدولة التجزيئية، كما هو القول مثلاً بالاحتلال العثماني للمنطقة العربية، أو مفاهيم الأمن القومي والأمن الوطني التي تأسّست عليها أجهزة الدول وصارت ثقافة لدى قطاعات من المواطنين... إلخ، وذلك يتطلب إستراتيجيات وخططاً سياسية وإعلامية تعيد ترتيب الأولويات لدى الرأي العام في الدول الإسلامية.
رابعاً: تحدي تطوير الجماعات من فكرة الجماعة إلى فكرة الأمة:
ولا شك في أن أحد التحديات المهمة التي تتعلق بالجماعات العاملة في الحقل الإسلامي ذاته، والتي تأخذ من المنطلقات العقدية لخلافاتها التقليدية نفسها فقهياً، ولاختلاف الوسائل التي تعتمدها لتحقيق أهدافها، ولصراعاتها التاريخية بينها؛ يتطلب حواراً ذا صبغة شاملة ما زال غائباً ومهملاً حتى الآن.
- التصنيف: