التفكير الغيبي والفكر التغييبي

من بين شعث ما ينثره، وعبث ما ينشره (خالد البري)، ويسكبه يوميًا في مساحة من صحيفة تستكتبه، ومساحة من عقول تتعاطاه، ومساحة بين الإيمان والكفر يُراد لها أن تُعمر، يأتي ما كتبه تحت عنوان: (تحضر الغيبيات تغيب الحضارات) هو الأفصح في التعبير عنه، وهو ما ترجمته أننا إذا ما استحضرنا الغيبيات إلى واقعنا كان هذا إيذانًا بأن تغيب الحضارة، فهما كما يرى ضدان لا يجتمعان إلا كما يجتمع الماء والنار، ولعلنا نصل بعد سطور ما بين تقريع وتفزيع، إلى ما يعنيه بـ(الغيبيات) فيوضح:

"التفكير الغيبي ليس مرادفا لـ(الإيمان بالغيبيات)، التفكير الغيبي نمط في تفسير الأمور وتحليلها، لا يرتكز على معطيات واقعية، إنما يرجع الأمر دائما إلى قوة تتجاوز إدراكنا الحسي."، ثم يضرب لهذا مثلاً بقول: "ربنا عايز كده"! وهو تعبير غير جائز في حق الله جل في علاه، فسبحانه لا يعتريه العوز ولا يليق به، حتى يصارحك بوضوح إنه: "التفكير الديني الغيبي هو مكمن الداء -فيما يعتقد!- لأنه يناقض ويناهض التفكير العلمي"، ثم متوجهًا نحو هدفه بشكل أكثر وضوحًا فيستنكر سؤالاً افتراضيًا: "وهل نهى الإسلام عن العلم؟ لقد أمرنا بتقصي العلم"، فيجيب: "من الصعب جدا على أي دعوة إلهية أو بشرية أن تحقر العلم، والإسلام ليس استثناء، فأين المشكلة إذا؟!".

ثم شارحًا وموضحًا لماذا الإسلام استثناءً: "المشكلة تأتي من نشر نمط تفكير لا علمي هو أمر حتمي بالنسبة إلى الإنسان الذي يتخيل نفسه محاطًا في كل وقت بملائكة وشياطين وجن، يسلم على هذا وهو داخل إلى بيته، ويستعيذ من أولئك وهو يجامع زوجته، ويسمِّي لكي يحرم هؤلاء من مشاركته طعامه".

وهكذا يفرق الكاتب بين أن تؤمن بالغيبيات، وبين أن تؤمن بإمتلاكها لقوة خارج حدود إدراكك الحسي، تمكنها من أن تؤثر داخل هذه الحدود سلبًا أو إيجابًا! إنه اعتراف وجود -إذا أبيت إلا ذلك- دونما اعتراف بأثر لهذا الوجود، بعيدًا عن صحة هذا الإيمان المجتزأ الذي يؤمن بوجود الغيبيات، ولا يؤمن بصفاتها! فما كنت لأعرض كلامه على أحكام الإيمان، وإنما على (التفكير العلمي) الذي يدعيه، فهل النظر في تاريخ الحضارات يُدعم وجهة نظر صاحب المقال، ويقطع بنبذها للتفكير الديني الغيبي؟

منذ بدأ الإنسان يدون أخباره على صفحة التاريخ، ويدون آثاره على صفحة الأرض، وهو يرسم بهذا خطين متوازيين للتفكير الغيبي والحضارة لم يتعارضا، بل تعانقا في أغلب الأحوال، ربما يتجلى هذا العناق ممثلاً في الأهرامات، التي يتصدر أكبرها قائمة (عجائب الدنيا السبع)، -والذي يُعد رسوخه بها مستوحِشًا، ومستعصيًا على ممحاة الزمن التي أخلتها إلا منه، أحد العجائب في ذاته-، فالهرم في بناءه يجمع بين كونه يأتي امتثالاً لعقيدة دينية غيبية، وتمثيلاً لحالة من التفوق العلمي الفريد، ودونه من الآثار المنثورة حول العالم التي في مفردها أكثر خفوتًا وتواضعًا في إبهارها، ولكنها في مجموعها تؤكد على حضور التفكير الديني الغيبي في سائر الحضارات.

ليس غريبًا على الإنسان القادم من الغيب والراحل إلى الغيب، والذي يحيا في رحلته هذه بطاقة غيبية لا يعرف كنهها، أن يؤمن بأنه يخضع لقوة غيبية تملك عليه أمره، الغريب حقًا ألا يفعل! لهذا كان التفكير الديني الغيبي حاضرًا في كل المجتمعات والحضارات، بينما الكاتب إذ يخص المسلم بتعبيره المُغرض "يتخيل" بدلاً من (يعتقد) أو (يؤمن) والفارق في المعنى بمساحة الفارق بين شخص سوي وآخر يعاني من هلاوس سمعية وبصرية، يتجاهل حقيقة أن الإسلام بالفعل استثناء، ففي سائر الحضارات قد عَبَرت عقائدها بالغيبيات حدود التخيل الذي يدعيه الكاتب إلى عالم الشهادة، وحضّارتها (من الحضور ومن الحضارة) فألبستها أجسادًا حية: بالحلول والتناسخ، أو جمادات: كالأوثان والصور.

الحضارة الفرعونية التي تُعد أُمًا للحضارات، والتي تمتد بطول خمسة آلاف عام على خارطة الزمن، وتتفرد عن استحقاق بعلم يختص بدراستها وينتسب إليها (علم المصريات)، ما زالت تثير شغف الباحثين والعلماء، وما زالت تُثار حولها الأساطير والخُرافات، ويمتزج فيها العلم بالسحر ويختلطا فلا تكاد تفصل بينهما أحيانًا.

أتصفح الشرق الأوسط اللندنية، أطالع مقالاً قديمًا للدكتور (زاهي حواس) يسجل شهادته عن السحر لدى الفراعنة (1)، ويتدفق إلى خاطري كيف تفوق الفراعنة في علم الفلك حتى أقاموا أول مرصد فلكي في التاريخ، وابتدعوا تقويمًا زمنيًا عرفوا به عدد السنين والحساب، وأبدعوا في العمارة التي تحدت الزمن، وبحسابات هندسية وفلكية مدهشة، عندها تبرق في ذهني صورة الشمس وهي تطبع قُبلتها على وجه الملك رمسيس الثاني في معبده بأبي سمبل في يومي ميلاده وتتويجه من كل عام، أنظر إلى النهر أتذكر (إيزيس وأوزوريس) الأسطورة، و(حابي) إله النيل، وأذكر كيف ابتكروا الآلات الزراعية، ووضعوا نظم الزراعة والري، فأقاموا السدود على النهر المقدس، ونصبوا مقياسًا للنيل.

أجول بخاطري بعيدًا.. إلى الهند بلاد الأساطير والسحر، واليوجا والبقرة المقدسة، التي تأتي في صدارة الدول المصنعة للبرمجيات، وتمتلك السلاح النووي، وإلى الشرق الأسيوي اليابان والصين ودول النمور حيث تنتشر البوذية والكونفوشيوسية، حيث البوذيون يحتفلون بأعياد (أولامبانا) الأكثر شعبية في الصين واليابان، يُعِدون القرابين ويرقبون زيارة الأقرباء من الموتى في موعدهم من كل عام عندما تُفتح أبواب العالم الآخر ويُسمح لهم بالعبور، وفي احتفالية (بيريت) يتلون نصوصًا مختارة لبوذا، من أجل طرد الأرواح الشريرة وشفاء المرضى!
أما أتباع الديانة الكونفوشيوسية فيعتقدون بالإله الأعظم (إله السماء، وإله الأرض)، كما يعتقدون في الشمس والقمر، والكواكب، والسحاب، والجبال.. والملائكة، وأرواح الأجداد الراحلين ايضًا.. لكلٍ عبادته والقرابين التي تُقدم إليه، وفي كل بيت معبد لأرواح الأموات ولآلهة المنزل.

وما تقدم لم يكن عائقًا أمام تقدم هذه البلاد كقوة عالمية منافسة للقوى العظمى، كما لم يحمي الإلحاد الدولة السوفيتية العظمى (سابقًا) من الانهيار والانحلال والتفكك، وسؤال على غرار ما طرح الكاتب: أين المشكلة إذا؟!

تُعيدني الإجابة إلى النيل مرة أخرى، وعلى مجراه (القناطر الخيرية)، أحد المشروعات التي أسهم في الإشراف عليها الأب (أنفانتان -بروسبير انفانتان-) القادم من بلاد النور على رأس جماعة من التنويريين قوامها خمسة وخمسين رجلاً، عبرت المتوسط على متن سفينتين انطلقتا من ميناء مرسيليا، ووصلتا إلى الأسكندرية في أكتوبر ونوفمبر من عام 1833، ترفعان شعار (سان سيمون).

جماعة التنويريين (السيمونيين) الذين فاضوا بنورهم على بلادنا، وما زالت النخبة في بلادنا تقتبس من نورهم، ولا يعدو مقال الكاتب التنويري إلا غيض من هذا الفيض، جاءوا يبشرون بـ(المسيحية الجديدة) كما وصفها سان سيمون، والتي بها الدين مرحلة مضت من طفولة إنسانية تجاوزناها، وتجاوزنا معها مرحلة التفكير الديني الغيبي، بينما آن للعلم ان يحل محل الدين، وأن تكون نظرتنا للكون من خلال العلم وحده، دون الاعتداد بأي تفسير ديني غيبي!

هذا هو (دين العلم) دعوة (سان سيمون) التي نجد صداها في مقالات الكاتب، يُعبأ قلمه من مدادها فتنضح من بين السطور، ولكن هل يجرؤ الكاتب الساخر من خِفاف العقول أصحاب التفكير الغيبي أن ينبئنا كيف بدأت؟ وكيف قَدَمَ لها رسول الإنسانية وروج؟

في مستهل دعوته يُعلن سان سيمون أنه قد تلقى الوحي من الله! (2)، وأنه يأتيه الخبر من السماء! الرب إذ يبثه شكواه من رجال الدين الذين لم يعوا تعاليمه على نحو صحيح، فيخبره أنه قد قرر استبدالهم، واستعمال (نيوتن) كي يساعده ويكون إلى جواره! يترأس مجلسًا من الحكماء لإدارة هذا العالم فيمثلونه على الأرض! إلى آخر ما سطره في رسالة جنيف (3).

هل نسمعه يتشفع بقول: "ربنا عايز كده"، التعبير الذي يستنكره الكاتب، ويتردد بوضوح في سطور الرسالة، ويصك أُذُن المتنورين! كيف لنا أن نصف ونصنف المفكر الفرنسي الكبير؟ هل نصفه بالدجال، أم بمن يعاني من هلاوس سمعية وبصرية؟ وأيًا ما كان وصف الرجل، فماذا عمن اتبعه؟! ألم يتوقف أحد المؤمنين المتبتلين في محراب العلم ليسأل كيف؟! وما الدليل؟! ألم يشعر أحدهم بامتهان للعلم الذي يتشفع بالهلاوس فيمتطيها كي يصل إلى الناس؟! هل تستقيم في العقل دعوة استشهدت بما تُنكره هي؟!

على خطى سان سيمون سار تلميذه (بروسبير أنفانتان)، حتى نَحَا نحوه، وأعلن أنه مُختار من قبل الرب! (4)، ولا حرج فـ(ربنا عايز كده)، يقولها انفانتان من قبل أن يولي وجهه شطر الشرق في مهمته الجديدة.

العبث لا ينحصر فيما طرحه هؤلاء الدعاة، ولكنه يمتد ويتمدد بحدود ما بلغته دعاويهم، والمفارقة عندما نعلم أن أنفانتان كان عضوًا في جماعة (كاربوناري) التي أصدر رأس الفاتيكان (بيوس السابع) مرسومًا بإدانتها كجمعية سرية ماسونية، وبكُفر أعضائها، في الثالث عشر من سبتمبر عام 1821 (5)، وهو الذي قُضي عليه لاحقًا بالسجن بعد إدانته بقيادة جمعية سرية أخرى، ودعوته إلى ممارسات تهدد الأخلاق العامة (6).

الأمر يصبح أكثر وضوحًا عندما يُصرح به المركيز (دي روسانبو) في جلسة مجلس النواب الفرنسي التي جرت أحداثها في الأول من يوليو عام 1904 قائلاً: "إن الماسونية قد عملت بطريقة مستترة ولكنها ثابتة من أجل الإعداد للثورة، نحن على اتفاق تام بأن الماسونية هي المؤلف الوحيد للثورة، والتصفيق الذي أتلقاه من جهة اليسار، والذي لم أعتاده بما يكفي، يثبت أيها السادة أنكم تقرون بأن الماسونية هي التي صنعت الثورة الفرنسية" (7).

مستترة ولكنها ثابتة!

استطاعت الماسونية أن تنخر عمد الكاثولكية لعدة أسباب:

1- عقيدة استعصت على الفهم، وأفصحت نصوصها عن ودٍ مفقود بينها وبين العقل.. "(19) لأنه مكتوب سأُبيد حكمة الحكماء وأرفض فهم الفهماء، (20) أين الحكيم؟ أين الكاتب؟ أين مُبَاحثُ هذا الدهر؟ ألم يُجَهِّلِ الله حكمة هذا العالم؟ (21) لأنه إذا كان العَالَم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يُخَلّص المؤمنين بجهالة الكِرازة، (22) لأن اليهود يسآلون آية واليونانيين يطلبون حكمة، (23) ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا لليهود عثرة ولليونانيين جَهَالة" (رسالة كورنثوس الأولى - الإصحاح الأول).

2- نصوص تعارضت مع العلم.. مثال: المزمور 104: 5 "المؤسس الأرض على قواعدها فلا تتزعزع إلى الدهر والأبد".

3- سلطة دينية لرجال الدين: متى 16: 19 "وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السموات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات". سوغت لهم حرق وقتل واضطهاد العلماء الذين قالوا بما يعارض الكتاب المقدس، ويناقد النص المقدس.

فإذا كانت الكاثوليكية الرجل المريض الذي قد كابد آلام المرض طويلاً، فسعت الماسونية في دهاء بتقديم البتر كعلاج ينهي الآلام من جذورها، فما بال رجلنا الصحيح الذي لا يُعاني مرضًا؟! كيف لها أن تقنعه أنه مريض؟ وإنه يحتاج إلى البتر فورًا!

مستترة ولكنها ثابتة!

عندما تكتشف أن (ربنا عايز كده) ليست حكرًا على خِفاف العقول، وأنها تتردد في العالم المتحضر كثيرًا، يقولها زعيم القوى العظمى (جورج بوش) الابن، يقول: "إن الرب قد اختاره لكي يقود أمته" (8)، ثم يكررها أخرى: "إن الرب أمره بالذهاب إلى أفغانستان، ثم إلى العراق" وهو يفعل ما يُؤمر! (9)، عندما تتذكر أنه على الحدود وتحت ذات العنوان (ربنا عايز كده) أُقيمت دولة متحضرة فوق أرض الميعاد! عندها يجب عليك أن تدرك أن التفكير الديني الغيبي هو ما يُدير العالم من حولك، بينما المُراد هو وقوعك أنت أسيرًا لفكر تغييبي، تتحول معه إلى حجر على رُقعة شطرنج تمتد بحدود هذه العالم، تُحركها أيدي تعتنق تفكير غيبي، امتدت إليك أولا بكأس من الفكر التغييبي.

___________________________________

(1) مقال "السحر والفراعنة" للدكتور زاهي حواس بجريدة (الشرق الأوسط). اللندنيةhttp://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=455481&issueno=10649
(2) Socialist Tradition: Moses to Lenin - page 141
(3) Henri Saint-Simon (1760-1825) - page 78
(4) Barthelemy P. Enfantin - Life Eternal: Past, Present, Future
(5) المرسوم الكنسي الخاص بجماعة (كاربوناري).


(6) The New Encyclopedia Britannica,E.B.inc.,London,1973-74V.3 P844
(7) Philip Gardine - Secret Societies: Gardiner's Forbidden Knowledge : Revelations About the Freemasons, Templars, Illuminati, Nazis, and the Serpent Cults . - page: 127
(8) الجارديان: بوش يقول: "أن الرب اختاره ليقود أمته".



نور عبد الرحمن