عندما زرتك يا دكتور ..
منذ 2005-12-04
سعادة الدكتور العزيز / عبد الرحمن السميط سلّمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فاسمح لي أن أسرد على كريم علمك جزءاً من فصول الجمال والإبداع، ومشهداً من مشاهد الحب والوفاء التي أنت فيها المعدّ والمقدم والمنتج والمخرج وذلك فضل الله عليك..
إنها قصة زيارتنا لكم في مدغشقر لتصوير برنامج ( القارة المنسية ). فبعد عزم فريق العمل السفر إلى القارة كانت المخذلات كثيرة بينما المحفزات واحدة.. المخذلات أكثر من أذكرها حتى لايتشبث بها قارئ فأكون السبب في ثني عزمه عن المسير.. أما المحفزات فهي أن الدكتور / عبد الرحمن السميط الذي هو في سن آبائنا ترك حياة الراحة والدعة وأقام في بيت متواضع في قرية مناكارا بجوار قبائل ( الأنتيمور )، وقطع على نفسه العهد أن يمضي بقية عمره في الدعوة إلى الله هناك.. ألا يكفي هذا أن يحفزنا؟ ألا يكون هذا درساً من دروس احتقار النفس أمام أمثال الدكتور حفظه الله؟ بلى والله، فلقد عزمنا على السفر لتحقيق أمور عديدة سائلين الله تعالى التوفيق والإخلاص.
حطّت بنا ركاب السفر في العاصمة ( أنتنانا ديقو ) ليقول لنا الأخوة هناك: إن خط سيركم سيكون عبر طريق وعر تقطعونه في أكثر من ثلاث عشرة ساعة، أو عبر طائرة صغيرة لا تقلع إلا أحياناً، وبعدد لا يتجاوز العشرة أشخاص، وهي أشبه بالباص ( المكسر ).. وهنا سألنا الإخوة: كيف يتنقل الدكتور؟ فقالوا: الدكتور كثيرا ما يتنقل براً، وقد سافر بالقطار في أكثر من أربعين ساعة بفتات الخبز! فقلنا لأنفسنا هذا الاختبار الأول رسبنا فيه جزماً؛ حيث طلبنا السفر بالطائرة؟! وعندما وصلنا إلى ( مناكارا )، استقبلنا الدكتور / عبد الرحمن بوجه مشرق، ونفس راضية تحمل بين جنباتها همّاً عظيماً هو هذا الدين.. ليقول لنا: متى تريدون أن نبدأ العمل ونزور القبائل لتروا بأنفسكم أن الإسلام كان هنا ولكنه اندرس؟ لقد تعلمت في أول ساعة معكم يا دكتور أن العمل المتواصل والبذل الدائم هو طريق النجاح..
إن الأمثلة المحفوظة والأشعار المنثورة ليست في قاموسي بشيء، لأنها كانت مادة جافة أرددها دائماً عن العزم والعمل والجهد والمثابرة.. لكنها أفلست مني، أو أنا أفلست منها عند أول درس عملي من الدكتور!
أعلم يا دكتور إني سأوقف قلمي قليلاً لأن الخطوط الحمراء التي لن ترض بخروجها، والأعمال الكثيرة التي لا تقبل أن يعلم بها أحد لن أبوح بها، ولكني كتبتها بقلم الذاكرة وحبر الزمن في مجلدات الوفاء.. إن لم استطع قولها للناس تحقيقاً للأمر النبوي الكريم بذم المديح، وحفظ حق الإخوان في عمل السر، فإني سأقولها لهم بدموع تنهمر بعد عودتي.. وعبارات أتنهد بها عندما يسألني أحد عن هذه الجهود ؟!!
ماذا عساني أن أكتب لكم عن رحلة استمرت قرابة الشهر في إفريقيا لتصوير البرنامج، كان نصيب الأسد فيها للأسد السميط.. لقد تعلمنا منك أن الحياة شباب وإن كنت كبير السن، وهذه الحياة واحة فريدة في صحراء العمر.. ولست أعني الشباب الغض الناعم، الذي ترق عنده الحياة، فتسحره بالنظرات المغرية، وتجمع له لذائذ الدنيا، في لحظة مسكرة، أو شبهة عارضة، الشباب الذي يعيش للهوى وأحلام اليقظة، فيبدأ تاريخ حياته بالحاء فلا يلبث أن ينتهي بالباء. ديدن حياته يقوم على هذين الحرفين في غير مكانها الصحيح، بالطبع لست أعني هذا الشباب، وإنما أعني شبابك يا دكتور مع بياض شعرك وصعوبة حركتك، وتثاقل أقدامك إنه الشباب الحي العامل، الذي وضع له غاية في العيش أبعد من مجرد العيش.. فهو في جهاد مع وقته ونفسه والهوى والشيطان.
وإذا كانت النفوس كباراً |
تعبت في مرادها الأجسام |
تعلمت يا دكتور أن المال الصالح في يد العبد الصالح سلاح مضاء، وعدة عتيدة وقوة مكينة لا يمكن معها التقاعس أو الكسل.. فهمت منك أن الأثرياء في الأمة كثيرون، ولكن النافع منهم قليل.. أولئك الذين ضعف عندهم الخُلُق والدين، استخفوا بقواعد الإيمان ومبادئ الإسلام، يأكلون كما تأكل الأنعام دون أن يؤدوا واجباً لدينهم أو مجتمعهم.. بل إنهم أصبحوا حرباً على أمتهم؛ يسخّرون أموالهم في العفن والفن والفجور، يؤصّلون للرذيلة، ويقيمون لها المؤسسات والأندية.. لا يتوانى الواحد منهم أن يقدم المال لكسر فضيلة، أو قتل خلق فاضل، بينما يستثقل أحدهم أن يبذل لعمل الخير..
{ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ } لا يليق بالرجل القادر أن يرضى لنفسه أن يكون حملاً على كاهل المجتمع، ثقيلاً مرذولاً، وأن يقعد فارغاً من غير شغل، أو أن يشتغل بما لا يعنيه، إن هذا لمن سفه الرأي، وسذاجة العقل، والجهل بآداب الإسلام.
تعلمت يا دكتور: أن يكون همّ الدعوة إلى الله شغلي الشاغل حتى في اللقمة التي آكلها.. أتذكر تلك الزيارات التي نقطع فيها الساعات بين طرق وعرة وغابات مظلمة مخيفة وأنهار موحشة في قوارب صغيرة ومستنقعات منتنة.. فإذا وصلنا إلى القرية، واجتمع أهلها قال لهم الدكتور: ربي الله الواحد الأحد الذي خلقني ورزقني، وهو الذي يميتني ويحييني.. كلمات يسيرة يدخل بها أعداد منهم إلى الإسلام.. !
أتذكر تلك الملابس التي تحملها معك. لماذا يا دكتور ؟ إنها هدية لملوك القرى تأليفاً لقلوبهم إلى الإسلام ! لماذا هذه الحلوى؟ لأطفال القرى من أجل إدخال السرور على نفوسهم.
ماذا عساي أن أقول؟ وبأي درس يمكن أن أتحدث؟ هل يمكن أن أسطر رحلة تعلمت فيها، رغم قصر مدتها، بقدر ما تعلمته من سنيّ عمري الماضية؟ لقد نسيت معاناة السفر ومشقة الحياة، وشظف العيش قهراً لنفسي؛ لأني أرى شيخاً كبيراً مصاباً بالسكر، وبه آلام في قدمه وظهره.. يكسر كل حدود الترف والتأفف أمام ميدان الدعوة إلى الله !
ألا يستحي الشباب مثلي وهم هناك من أن يتذمروا لعدم وجود الماء الصالح للشرب والاستحمام؟ أو عدم الحصول على المناديل المعطرة؟ أو النوم أحياناً دون عشاء؟ إيه أيتها النفس.. كم أنت مترفة.. ومنعمة.. وبعيدة عن ميدان العمل الحقيقي..
لقد تعلمت من لسع البعوض في تلك القرى دروساً في الصبر.. وتعلمت من شح الماء دروساً في اليقين، وتعلمت من انقطاع الكهرباء أياماً دروساً في الطمأنينة..
يا دكتور.. لقد منحتني شهادة عليا في هذه الرحلة لم تستطع جامعات الدنيا أن تمنحني إياها.. لقد حصلت على الدكتوراه في احتقار النفس أمام العظماء.. وتجاوزت الماجستير في العمل الحقيقي الذي كنا نعتقد أنفسنا من رواده، وبكالوريوس بامتياز في معرفة رجال الأمة الحقيقيين الذين يستحقون شهادات التقدير وجوائز الشكر.. لكنهم مع ذلك يقولون كما كنت تقول لي: يا أخي نحن لا ننتظر شهادات من أحد.. نحن عملنا في الميدان.. وننتظر من الله فقط أن يتقبل منا؟
لا زلت يا دكتور أتذكر تلك القرية التي أعلن أهلها إسلامهم وكيف كانت فرحتك العارمة، كأننا خرجنا بأموال الدنيا.. كنا نحن ننتظر مشاهد التصوير ونحسب إنجازنا بعدد ساعات التصوير، كانت هذه ساحة سعينا، وميدان بصرنا.. بينما كنت تسبح هناك.. وتنظر هناك..
وتتأمل هناك.. الآخرة.. !
فلله درك أيها العظيم..
كنت أتعجب منك وأنت تحاسب من يعمل معك بكل دقة، وتقف بنفسك حتى على طعام الأيتام.. وأقول في نفسي "هو جهد زائد ينبغي أن يدفعه لغيره".. لكني فهمت متأخراً عندما قلت لي: أموال الناس التي دفعوها لعمل الخير لا يمكن أن أفرط في ريال واحد منها.
أتدري يا دكتور أن هذا البرنامج كتب سيناريو حلقاته وصمم فكرته وأخرج أطرافه عملكم المتوقّد وسعيكم الدائب.. أتدري أني قرأت كل ما كتبته في مجلتكم ( الكوثر ) قبل أن أصل إليك لأجد ما كتبته عن جهود العمل ( غيض من فيض ) وعندها تذكرت قول الحبيب صلى الله عليه وسلم:
« ليس راء كمن سمع » وأكدت لنفسي ( من شاهد الحقائق ضمن الوثائق )، كنت أتنقل معك بصحبة فريق البرنامج بين القرى والقبائل لنجد منكم شخصاً ملماً بحياتهم وعاداتهم وتقاليدهم.. وهذا درس من دروس، فالداعية الحق هو الذي يعرف طبيعة من يدعوهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل لما أرسله لليمن « إنك تأتي قوماً أهل كتاب » إنها معلومة مهمة يراد من ورائها رسم منهج للدعوة.. فليس كل داعية يصلح للدعوة في كل مكان.. بل لابد من مواصفات معينة يسبقها العلم التام بطبيعة المدعوين وأحوالهم.
دكتور: أسعد الله مساءك بكل خير أينما كنت.. تذكرت ذلك المساء الحالم.. عندما أرخى علينا الليل سدوله بعد أن صلينا المغرب وانكمش المنعّمون مثلنا من آثار البرد.. فوقفت على تلك الحلقة المستديرة التي تجمع فيها أبناؤكم الأيتام يقرأون القرآن.. وأنت تنتقل من حلقة إلى أخرى.. تطمئن على حفظهم للقرآن الكريم، وتبتسم في وجوهم كل لحظة.. تذكرت خروجك بعد العشاء لتطمئن عليهم هل ناموا؟ هل استقروا جميعاً في مهاجعهم؟
تذكرت سائقك الخاص وأنت تعامله بلطف ومحبة حتى أعلن إسلامه.. تذكرت أولئك الدعاة وهم يجيبون على سؤالي في كل لقاء: من أي مدرسة تخرجتم في الدعوة؟ فقالوا: من مدرسة
عبد الرحمن السميط الدعوية !
تذكرت تلك الليلة الشاتية عندما عمدنا إلى جذوع الشجر لنوقد النار للتدفئة، فجلست وقد أحطنا بك من كل ناحية، تحكي لنا حكايات رائعة .. ليست عن حب وغزل، ولا عن شعر وزجل.. بل عن دعوة وإغاثة، عن إسلام وراحة، عن أقوام كانوا في ضلال فأنقذهم الله بالإسلام { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 142]
أيها الفاضل / اسمح لي أن أزجي سراً.. هذه الصور المذكورة من الجهد المتواصل ليست حكراً عليك فقط .. بل هي ديدن أسرتكم الكريمة من زوجة وأبناء حفظكم الله بحفظه..
لا أريد أن أحرق البرنامج على مشاهدينا الكرام.. فهو برنامج أسبوعي في قناة المجد بعنوان ( القارة المنسية ) فيه الغرائب والعجائب والأفراح والأتراح.. والفقر والغنى..
فيه صورة إسلام منسية.. وكتاب مقدّس عند أهله اسمه ( السواربي )، ومقابر لا يتم الدخول إليها إلا بدعاء يتضمن سورة الفاتحة.. برنامج أظن أن غرائبه وعجائبه ستحمله إلى المشاهدين فلن أتحدث عنه مكتوباً.
شكر الله لك أيها الدكتور الفاضل.. ورفع قدرك، وجزاك عنا خير الجزاء، وكثّر الله في الأمة من أمثالك إنه جواد كريم.. وإلى اللقاء على طريق الخير والمحبة...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ابنكم
فهد بن عبد العزيز السنيدي
مذيع إذاعة القرآن الكريم
وقناة المجد الفضائية
المشرف العام على موقع المجلة الإسلامية
- التصنيف: