ما هي خصائص الدولة الإسلامية؟
مستوى الحوار الفكري الذي دار عند كتابة الدستور جعلني أدرك أن هناك خلطا كبيرا بين خصائص الدولة الإسلامية والخصائص الخاصة بنمط الدولة القطرية. وأن هناك ربطا خاطئا بين بعض آليات العمل السياسي مثل (الفصل بين السلطات)، و(آلية الانتخاب)، وهي نتاج تجارب بشرية في إقامة أنظمة سياسية..
مستوى الحوار الفكري الذي دار عند كتابة الدستور جعلني أدرك أن هناك خلطا كبيرا بين خصائص الدولة الإسلامية والخصائص الخاصة بنمط الدولة القطرية. وأن هناك ربطا خاطئا بين بعض آليات العمل السياسي مثل (الفصل بين السلطات)، و(آلية الانتخاب)، وهي نتاج تجارب بشرية في إقامة أنظمة سياسية لا يوجد مانع من الاستفادة منها، وبين خصائص الدولة القومية. ومن العدل عندما نحدث الناس أننا نريد دستورا إسلاميا ونتلو عليهم عبارات مثل: (ليس المطلوب أن تكون الشريعة مصدرا للتشريع حسب الدستور، بل المطلوب أن تكون الشريعة هي مصدر الدستور)، أن نوضح لهم خصائص الأمة الإسلامية.
لذلك أردت أن أكتب في هذا الباب لأوضح بعض المفاهيم التي كادت أن تطمس، ولا أجد حرجا من أن يراجعني أحد، فرحم الله رجلا أهدى إلينا عيوبنا.
بداية: هناك نظرية شهيرة تتحدث عن نموالأمم وانحدارها، حيث تقسم دورة حياة الأمة إلى أربعة مراحل لكل منها ملامح سلوكية حادة.
فثمة أولا مرحلة (النشأة أوالطفولة) وفيها تنفق الدولة الجديدة كل اهتمامها في ترتيب البيت من الداخل، أي في تأمين حدودها والدفاع عنها، ووضع الأسس الفكرية التي سيقوم عليها بناء الدولة اقتصاديا واجتماعيا وعسكريا وفي كل المجالات الممكنة، أي بناء أمة مستقلة عن غيرها. في هذه المرحلة يتم تحاشي الحروب الخارجية ما أمكن إلا من خلال الهدف الواضح من تأمين الحدود ومقدرات الأمة.
ثم تأتي مرحلة (الشباب) وهي مرحلة التوسع بالضرورة تنطلق فيها بعد أن اشتد عودها داخليا إلى توسيع رقعتها ونفوذها في الخارج.
ومع تحقيق هذه الأهداف واتساع الرقعة تزداد الأموال فتتجه الشعوب إلى الترف والترف مهلكة الشعوب.
فهنا تصبح الخاصية الأساسية للدولة الحفاظ على المكتسبات ورفاهية الوضع الراهن ما أمكن، وتضحي ببعض مبادئها من أجل رفاهيتها.
وهي تسمى بمرحلة (السلامة والاستقرار)، ودعني أطلق عليها مرحلة (استعباد الرفاهية) فتعس عبد الدنيا.
ثم بعد الركون إلى الدنيا تأتي بالضرورة مرحلة (الشيخوخة)، فتأتي أجيال لا تريد العمل ولا تريد الجهاد، ولكن تريد الترف والاستمتاع وليس لديها أي استعداد للتضحية.
هذه الأجيال تصبح وبالا على الدولة، فلا بد من العمل من أجل الانتاج والتطوير ولا بد من الجهاد من أجل القوة والعزة، فتكون النتيجة المحتومة انهيار الدولة.
هذه النظرية طبقها على دول مثل فرنسا وبريطانيا في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وطبقها على الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحالي، ستجد أن النتيجة ستكون واحدة مع اختلاف في سنوات كل مرحلة بحسب كل حالة. هذا مع العلم أن أهدافهم كانت دائما وأبدا مجرد أطماع واستعلاء مثل (ألمانيا فوق الجميع)، والإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس.
أي أنك باختصار وبدلا من ذلك التعقيد والنظريات يمكنك أن تقول أنه طالما كانت الدولة حاملة رسالة ساعية من أجل تحقيقها فإنها تكتسب قوة وتظل في مرحلة شبابها وحيويتها بإذن الله، وإن ابتعدت عن حمل رسالتها إلى الترف تأتي النهاية الحتمية.
هنا تفهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الفقر أخشى عليكم من بعدي، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها الذين من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم» (صحيح الترمذي:2462).
وتتدبر بوضوح معنى قوله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة}ِ [البقرة:192]، فترك الجهاد وحمل الرسالة هوبداية التهلكة الحتمية، وطريق العزة الوحيد هو حمل الرسالة التي سيرافقها حتما جهادا على جميع الأصعدة الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
فنحن أمة ابتعثها الله لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
وتفهم أيضا أن بناء النظام السياسي على أساس الدولة القطرية القومية، التي تسعى لمصلحة جماعتها الوطنية، وتهدف لتحقيق أكبر قدر من المنافع والمتع والمصالح لها، والتي لا تعرف قيمة ولا خلقاً ولا مبدأ ولا عقيدة سوى ما تختاره أغلبية المصوتين، وبالتالي فلا مرجعية لها في التحليل والتحريم والإباحة والتجريم والمنح والمنع سوى تلك الأغلبية، هو بناء محكوم عليه بالهدم، إذ أن ما يسعى إليه من منافع دنيوية إلى زوال وانتهاء على يد أمة أخرى تأتي حاملة رسالة جديدة.
بل، وما قد يبدو لك من تمكين في الدنيا قد يكون وبالا على أصحابه، فعبد الدنيا هوأفقر الخلق إذ أنه قد بحث عن الكمال في غير موقعه.
مرة أخرى وحتى لا تختلط عليك الأمور، فإن أفكارا مثل: فصل السلطات، و(آليات الانتخاب) هي نتاج عمل بشري يمكن الاستفادة منه في تأسيس نظام سياسي يتيح حرية اختيار الحاكم والرقابة عليه وعزله في حالة فساده، أما خلطها بمفاهيم مثل إعطاء السيادة كاملة للشعب وحقه في التشريع بدون الخضوع لحاكمية الشريعة فهي أمور تناقض صريح الإسلام حيث السيادة لشرع الله وحده.
هذا الخلط يقع فيه غالبًا من يخلطون بين النظام الديمقراطي والنظام الإسلامي، بينما كل منهما ينشأ وينبع من عقيدة مختلفة عن عقيدة الآخر.
فالنظام الديمقراطي ينشأ من مبدأ حرية الإنسان في أن يفعل ما يشاء، ويحقق لنفسه ما يرجومن الملذات والمنافع، وله سابقة تاريخية طويلة مريرة في الصراع بين الشعوب المظلومة والملكيات الطاغية والكهنوت المنحرف.
وبالتالي فإن الحاكمية والمرجعية العليا في الديمقراطية هي للأغلبية أما النظام الإسلامي فينشأ من العبودية لله وحده، والتحرر من العبودية لكل أشكال السلطان سوى سلطانه، والحب التام والذل التام للمولى سبحانه، والتعالي عن كل قيود الخضوع لسلطات المخلوقين، وخلفية النظام الإسلامي التاريخية هي رسالة التوحيد الخاتمة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيم العدل والإخاء بين المؤمنين والشورى ومحاسبة الحكام، التي تجلت في زمن الخلافة الراشدة، ثم الفتوحات التي خاضها المسلمون لإخراج البشر من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. ولذلك فإن السيادة في النظام الإسلامي هي للشرع المترل وحده.
والتصور السياسي الغربي نشأ من موروث تاريخي شهد صراعًا بين الملوك الجبابرة المتسلطين وأتباعهم من الأمراء والإقطاعيين وبين الشعوب المظلومة المسحوقة، وشهد صراعاً آخر بين الكنيسة بكل ما تمثله من قيم لا يقبلها العقل، ونصوص لا ثبوت لها، وممارسات يشمئز منها الضمير البشري، وبين الأمم الغربية التي يطمح علماؤها وروادها إلى اكتشاف آفاق السموات والأرض وأسرارها وعلومها، التي تتعارض مع روايات الكنيسة عن الخلق والكون في نصوصها المقدسة، التي لا تمتلك سندًا تاريخياً، ومن هنا نشأ التمرد على طغيان الفرد وعلى طغيان كهنوت الكنيسة.
وفي المقابل نجد أن الأمة الإسلامية ترث تاريخاً مشرقاً من الدعوة للتوحيد، والجهاد لتحطيم الإمبراطوريات المتكبرة المتجبرة، ونشر الإسلام وشريعته، التي يقبلها العقل، ويسكن لها الفؤاد، والتي شجعت العلم والعلماء وأعلت من قدرهم. ولذا فإن الأمة المسلمة في حاضرها تحن حنيناً جارفاً لذلك الماضي التليد، وتسعى لإحيائه واسترجاعه في الوقت الذي يفر الغرب بجمهوره ومفكريه من تاريخهم، الذي يصفونه بعصور الظلام.
من هنا يتضح لك عدة فوارق جوهرية بين النظام السياسي الإسلامي، والنظام السياسي الغربي الذي استمدت منه أغلب دساتير العالم الإسلامي:
- التسلط في العالم الإسلامي كان تسلط حاكم مستبد وليس تسلط سلطة دينية تدعي العصمة كأوروبا، فلا كهنوت في الإسلام. ولربما كان يستعين الحاكم المستبد ببعض علماء السلاطين.
لكن بقيت دوما حركات ورموز إسلامية تناوىء الظالمين وتسعى لتقويض ملكهم الجبري. حتى وإن لم تنجح في مأربها، فيكفيها أنها قدمت صورة للمسلم الذي يقاوم الظلم ويرفض الخضوع للعباد، ولا يركع إلا لله.
- يمكننا الاستفادة من التجربة الغربية في الجزئيات التي تم تطويرها لمنع استبداد الحاكم مثل مجالس الشورى التي تراقب أداء الحاكم، ولها الجق في عزله بشروط معينه، ومثل آليات فصل السلطات، وآليات الانتخاب، فهي نتاج عمل بشري طالما لم تصطدم بالشرع المطهر.
- النظام السياسي الإسلامي هونظام ينبثق عن الخضوع لله سبحانه وتعالى ابتداءا، وحمل رسالته والدعوة إليها، ويقيم أنظمته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على أسس مستمدة من الشريعة الإسلامية. أما النظام السياسي الغربي فقام على فكرة علمانية لا تعترف بفوقية إلهية تتدخل في حياة البشر.
ولذلك فالنظام السياسي الإسلامي يتحرر من كل عبودية لغير الله، ويرفض تسلط أغلبية أو أقلية فالجميع يخضع لحاكمية الشريعة.
- الأمة الإسلامية تقيم دولتها على أساس التحاكم للشريعة المترلة، وتعبد ربها بإقامة العدل وبسط الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].
- الأمة الإسلامية تعلم أنه وإن كان العمل بالشريعة قد جعله الله سببا للبركة في الدنيا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96]، لأن الأمة المسلمة حين تقيم دولتها تقيمها لابتغاء رضا مولاها سبحانه وتعالى متعبدة بذلك، وهي تعلم أنها قد تجاهد في سبيل ذلك، فطريق التمكين لم يكن أبدا مفروشا بالورود.
- الأمة الإسلامية صاحبة رسالة فهي تقيم دولتها كوسيلة لإقامة الدين، وليس كغاية في حد ذاتها. وحملها للرسالة هو طريقها لتجديد شبابها، وبعث وتجديد أخلاقها، وحفظ علوها في الأرض.
أما الأنظمة القطرية المحدودة فرسالتها تحقيق الرفاهية، وهي رسالة تعني الغرق في الملذات والنهاية الحتمية لكل خلق ومعنى جميل.
- بالتالي فإن النظام السياسي الإسلامي ممثلاً في دولة الخلافة يقدم نموذجاً للبشرية يعلو فوق الانتماءات الوطنية والحدود الجغرافية، ويساوي بين المؤمنين جميعاً في أخوة واحدة: {وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون}ِ [المؤمنون:52]، ولا يفرق بين أبناءه على أساس جنسياتهم إن أكرمكم عند الله أتقاكم
- النظام السياسي الإسلامي يتحاكم إلى الشريعة المترلة وليس إلى أغلبية المصوتين، فالشريعة حاكمة حتى على البرلمان الذي تم اختياره، فلا يجوز تشريع شيء يخالف ما شرعه الله، ويجب على الجميع الانصياع لأحكام الشريعة.
- النظام الإسلامي لا يحتاج لليبرالية ليحفظ حقوق الأقليات، فقد تكفلت بها نصوص شرعية تحفظ عهدهم وذمتهم، وتاريخيا، لم يمسوا على أرض المسلمين طوال أربعة عشر قرنا، لكون الشريعة حاكمة فوق المسلمين، قارن معاملة اليهود في بلاد المسلمين وفي بلاد أوروبا الصليبية حتى أربعينيات القرن الماضي لتدرك عما أتحدث.
أخي: كن هذا المسلم الحر الذي يقاوم الظلم، ويدعوإلى التحاكم لمرجعية الإسلام، حتى وإن لم تنتمي لتيار إسلامي معين. فالإسلام ليس حكرا على تيارات إسلامية بعينها. احمل هم شريعتك وادع لها في كل موقع، وليكن لك في هدهد سليمان أسوة حسنة.
محمد نصر
الخميس 06/صفر/1434 هـ - الموافق 20/ديسمبر/2012 م
- التصنيف: