أسلمة الديمقراطية حقيقة أم وهم؟ (‏الجزء الأول)

منذ 2013-01-26

أن العمل الديمقراطي القائم على الأساس الفلسفي للديمقراطية يتناقض مع ‏المقررات الإسلامية، فإن جعل التشريع بيد الشعب هو إلغاء لشريعة الله تعالى ‏وهذا ما لا يقول به مسلم أو يقبله، ولعل في ظهور هذا العيب الواضح في الديمقراطية، ما ‏يدعونا إلى عدم الوقوف أمامه ويكفي فيه ما سوف يقدم، ويبقى الحديث عن التصور الذي ‏يتناول الديمقراطية بوصفها آليات، أو منهج عمل، من غير استناد إلى فكرة أو تصور ‏مذهبي أو فلسفي.


عقيب الانهيار المدوي للاتحاد السوفييتي وسقوط دولته، كان هذا إعلانًا بغياب القوة ‏الرئيسة المنافسة لليبرالية الغربية، وكان في الوقت نفسه إعلانًا بانتصار الليبرالية الغربية ‏وتربعها على القمة العالمية، ومن تلك اللحظات بدأت الدعوة إلى الديمقراطية على أنها ‏السند الشرعي لأي نظام تقوى وتنتشر، على أساس أن مرحلة الديمقراطية تمثل أفضل ‏نظام سياسي يمكن أن تتوصل إليه البشرية، وأن التاريخ قد توقف عند هذا الحد فيما ‏يعرف بـ"نهاية التاريخ" (كما يذكر فوكوياما).‏

‏ من هنا بدأت أغلبية الدول تسارع إلى هذا الخيار لعدم قدرتها على مناوأة الدولة ‏العظمى المتسيدة للنظام العالمي الجديد والداعية إلى تغليب نظرتها الديمقراطية، وذلك في ‏الوقت الذي فقدت فيه تلك الدول الحماية التي كانت تتمتع بها من الاتحاد السوفييتي ‏الزائل، ويظن كثير من الناس أن دعوة أمريكا إلى تبني النموذج الديمقراطي وفرضه على ‏العرب والمسلمين كان نتيجة مباشرة لما اشتهر بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد ‏أظهرت أمريكا بعد هذا الحدث رغبة عارمة في نشر الديمقراطية في بلاد العرب والمسلمين ‏على أنها العلاج الأكيد والناجع -من جهة مصلحتها- لهمجية العرب والمسلمين -بزعمها.‏

فوجئت أمريكا في تلك الأحداث بهجمات عنيفة دامية، حيث هوجمت قلاعها ‏الاقتصادية والعسكرية، مما دعاها لإعلان حربها العالمية على الإرهاب، والتي كان منها ‏الدعوة لنشر الديمقراطية حسب ما جاء في مشروع الشرق الأوسط الكبير وتبنيها لدعاوى ‏الإصلاح، وقد فرح بذلك الكثير من الإسلاميين ورأوا فيها الفرصة الكاملة للوصول إلى ‏الحكم لتنفيذ مشروعهم السياسي، على أساس أن نشر الديمقراطية صار مطلبًا أمريكيًا ‏يخدم مصلحة أمنها القومي ولذلك فهي تدعم ذلك التوجه وتعززه، وبذلك زاد زخم ‏الحديث عن الديمقراطية، وعن توافقها مع الإسلام، وأن الإسلام قد سبق الديمقراطية وقرر ‏أهم خصائصها، وإذا كان هذا الحديث ليس بالجديد كلية إلا أن زخمه قد زاد بعد الحملة ‏الأمريكية ووجد له أنصارًا كثيرين. ‏

موقف بعض الإسلاميين من الديمقراطية:‏

الطور الأول من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) يزعم أن جوهر الديمقراطية موجود ‏في الإسلام، وأن الإسلام قد سبق بما أتت به الديمقراطية، أو أنه يمكن أن تتوافق ‏الديمقراطية مع الإسلام، وأن ما يُرى بينهما من اختلاف من الممكن إزالته، يقول خالد ‏محمد خالد بعدما ادعى أنه يوجد لحكام وقادة غير مسلمين لكنهم ديمقراطيون شواهد ‏قريبة من سلوك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: "من أجل هذا قلنا وسنظل نقول إن ‏الديمقراطية إسلام"، ويقول: "كان عرضنا هذه المشاهد -وهي قليل من كثير- تبيانا ‏لديمقراطية الحكم في الإسلام، واكتشافا للتخوم الواسعة المشتركة بين الإسلام كدين وبين ‏الديمقراطية كمنهج ونظام"‏، ويقول الشيخ يوسف القرضاوي: "الواقع أن الذي يتأمل ‏جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام"‏، وكلام كثير جدًا من مثل هذا.‏

‏ وأما في وقتنا الحاضر بعد ظهور اعتراضات كثيرة من الناحية العقدية على ‏الديمقراطية وهي واضحة وقوية، فقد نحا الطور الثاني من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) إلى ‏الفصل بين الفكر التنظيري الديمقراطي، وبين آليات الديمقراطية، فابتعد عن القبول ‏بالأسس النظرية التي تقوم عليها الديمقراطية، لما تشتمل عليه من مصادمة صريحة للمقررات ‏العقدية الإسلامية، بينما قبل الآليات الديمقراطية، على أساس أن الآليات هي مجرد وسائل ‏عملية لا تنطوي على فكر أو عقيدة، بل هي آليات محايدة يستخدمها المسلم كما ‏يستخدمها الكافر، كالسيارة التي يستخدمها المسلم في الذهاب إلى المسجد ويستخدمها ‏النصراني في الذهاب إلى الكنيسة، وهكذا، من أجل هذا رغبتُ في كتابة هذا المقال لبيان ‏حقيقة الديمقراطية وهل حقًا أتى بها الإسلام، أو أنه من الممكن إزالة ما بينهما من تعارض ‏مع احتفاظ كل منهما بخصائصه المميزة، أو أنه يمكن التخلص من الأساس النظري لها ‏وعدم التقيد به والاستفادة مما فيها من آليات مجردة عن أصولها المذهبية، وهذا أوان ‏الشروع في المقصود:‏

ماذا تعني كلمة الديمقراطية؟ ‏
الديمقراطية كلمة لاتينية وهي مكونة من شقين: الشق الأول ‏demos‏ وتعني ‏الشعب، والشق الثاني ‏cratie‏ وتعني حكم أو سلطة، فاللفظ على ذلك يعني حكم ‏الشعب، أو الحكم للشعب، "وإذا كان للديمقراطية مصطلحات عديدة... إلا أن لها ‏مدلولًا سياسيًا والذي شاع استعماله في كل الأدبيات والفلسفات القديمة والحديثة وأنها ‏مذهب سياسي محض تقوم على أساس تمكين الشعب من ممارسة السلطة السياسية في ‏الدولة"‏؛ فالكلمة العليا والمرجعية النهائية إنما هي للشعب ولا شيء يعلو فوقه، فهي "تعني ‏أن يضع الشعب قوانينه بنفسه، وأن يحكم نفسه بنفسه، ولنفسه"‏، والحكومة التي تقبلها ‏النظرية الديمقراطية "هي الحكومة التي تقر سيادة الشعب وتكفل الحرية والمساواة السياسية ‏بين الناس وتخضع فيها السلطة صاحبة السلطان لرقابة رأي عام حر له من الوسائل ‏القانونية ما يكفل خضوعها لنفوذه"‏، وقد تبلورت هذا الفكرة فيما بعد تحت مصطلح ‏السيادة.

وقد عُرِّفت السيادة: بأنها سلطة عليا مطلقة لا شريك لها ولا ند متفردة بالتشريع ‏الملزم، فيما يتعلق بتنظيم شؤون الدولة أو المجتمع، فلها حق الأمر والنهي والتشريع والإلزام ‏بذلك، لا يحد من إرادتها شيء خارج عنها، ولا تعلوها أو تدانيها سلطة أخرى، ‏والسيادة في الفكر الديمقراطي إنما هي للشعب.

‏ وتتمثل ممارسة الشعب للسيادة في ثلاثة جوانب رئيسة:
1- إصدار التشريعات ‏العامة الملزمة للجماعة التي يجب على الجميع الالتزام بها وعدم الخروج عليها، وهذه ‏تمارسها السلطة التشريعية.
2- المحافظة على النظام العام في ظل تلك التشريعات، وهذه ‏تمارسها السلطة التنفيذية.
3- حل المنازعات سلميًا بين المواطنين انطلاقًا من هذه ‏التشريعات، وهذه تمارسها السلطة القضائية، ويتبين من ذلك أن السلطة التشريعية هي أم ‏السلطات الثلاث. ‏

تطور الديمقراطية باختلاف الأزمان والبيئات:‏
وليس من شك في أن الديمقراطية تطورت مع الزمن تطورًا كبيرًا ولم تبق على ‏شكلها الأول الذي ظهرت به أول مرة في أثينا، فقد كان الشعب الذين يحق لهم الحكم ‏في بداية الفكرة قليلًا بالنسبة للعدد الفعلي، فقد أخرج منه الأرقاء كما أخرج منه النساء، ‏كما اشترط لذلك بعض الشروط كامتلاك نصاب مالي معين، والتمتع بكفاءة أو وجاهة ‏في المجتمع، وبمرور الزمن تغير كثير من كل ذلك، إلى أن وصل إلى حق الاقتراع العام.‏

‏ كما اختلفت الصورة التي تمارس بها الديمقراطية فبعد أن كانت الديمقراطية تباشر ‏من قبل الشعب بلا واسطة فيما عرف بالديمقراطية المباشرة، احتاجوا مع تطور الأوضاع، ‏والانتقال من دولة المدينة -صغيرة المساحة قليلة العدد،إلى الدولة القومية -ممتدة المساحة ‏كبيرة العدد، وقيام عوائق في سبيل العمل بالديمقراطية المباشرة، إلى تغيير الصورة من ‏الديمقراطية المباشرة إلى الديمقراطية غير المباشرة (النيابية)، التي ينوب فيها عن الشعب أفراد ‏يختارهم الشعب ليحكموا بدلا عنه، كما ظهر التزاوج لاحقًا بين الصورتين فيما سُمي ‏بالديمقراطية شبه المباشرة، وذلك للتغلب على بعض السلبيات من إلغاء الديمقراطية المباشرة ‏كليًا، حيث تكون هناك موضوعات يحكم فيها الشعب حكما مباشرا، وموضوعات ‏أخري يحكم فيها الشعب حكمًا نيابيًا.‏

‏ كما تعددت أشكال الحكومات فهناك النظام الرئاسي (حيث تتركز السلطة في يد ‏رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب، وهو الذي يعين الوزارة، ويكون هناك فصل شبه ‏حاد بين السلطة التنفيذية "رئيس الجمهورية" وبين السلطة التشريعية "البرلمان)، وهناك النظام ‏البرلماني (حيث تتركز السلطة في يد مجلس "برلمان" منتخب من الشعب، وهو الذي يعين ‏الوزارة، ويوجد هنا تداخل بين أعمال السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية)، وهناك نظام ‏حكومة الجمعية (حيث تتركز السلطة في يدجمعية منتخبة من الشعب وهي تجمع في يدها ‏سلطات واختصاصات السلطتين التشريعية والتنفيذية)‏، ومع كل هذه التطورات ‏والتغيرات في الأشكال والصور، ظلت الديمقراطية تحافظ على أمر جوهري لم تحد عنه ‏أبدًا، وهو الأمر الذي تكون اسمها منه وهو أن الحكم للشعب، فلا شيء يعلو عليه، ‏وكل سلطة في المجتمع فإنما تستمد منه، فالشعب (السياسي) كله له الحكم؛ فالأغلبية لها ‏حق التفرد بالحكم، والأقلية لها حق المعارضة للأغلبية. ‏

تأثير الفكر الديمقراطي على الدساتير العربية:‏
وقد ظهر هذا واضحًا في دساتير البلاد العربية التي كتبت في بدايات القرن العشرين ‏وما تلا ذلك:
ففي الدستور المصري المادة رقم 3: "السيادة للشعب وحده، وهو مصدر ‏السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها"، وفي المادة 86: "يتولى مجلس الشعب ‏سلطة التشريع".
وفي الدستور السوري المادة رقم 2 في الفقرة الثانية: "السيادة للشعب، ويمارسها ‏على الوجه المبين في الدستور"، وفي المادة رقم 50: "يتولى مجلس الشعب السلطة التشريعية ‏على الوجه المبين في الدستور".
وفي دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م في الباب الأول الفقرة الثانية: "السيادة ‏للشعب وتمارسها الدولة، طبقا لنصوص هذا الدستور والقانون".
وفي الدستور الأردني مادة 24: "الأمة مصدر السلطات"، ومادة 25: "تناط السلطة ‏التشريعية بمجلس الأمة والملك".
وفي الدستور التونسي مادة رقم 3: "الشعب التونسي هو صاحب السيادة يباشرها ‏على الوجه الذي يضبطه هذا الدستور"، وفي المادة 18: "يمارس الشعب السلطة التشريعية ‏بواسطة مجلس نيابي".
وفي الدستور الجزائري مادة رقم 6: "الشعب مصدر كل سلطة، السيادة الوطنية ‏ملك للشعب وحده"، وفي المادة رقم 7 :"السلطة التأسيسية ملك الشعب، يمارس الشعب ‏سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها"، وفي المادة 98: "يمارس السلطة ‏التشريعية برلمان يتكون من غرفتين وهما المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة، وله السيادة ‏في إعداد القانون والتصويت عليه".
وفي الدستور المغربي مادة رقم 2: "السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة ‏غير مباشرة بواسطة المؤسسات الدستورية"‏.
وفي الدستور القطري مادة 59: "الشعب مصدر السلطات ويمارسها وفقًا لأحكام ‏هذا الدستور"، وفي المادة 61: "السلطة التشريعية يتولاها مجلس الشورى على الوجه المبين ‏في هذا الدستور"‏.
وفي الدستور الكويتي مادة 51: "السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وفقًا ‏للدستور".
وبقية الدساتير لا تخرج عن ذلك من حيث المضمون وإن اختلفت الصيغ، كما أن ‏هذه الدساتير تنص على أن نظام الحكم نظام ديمقراطي، وهي الصيغة السياسية لمصطلح ‏السيادة الشعبية. ‏ ‏

وهذه الخصيصة التي تميزت بها الديمقراطية على تعاقب الدهور تعد أكبر اختلاف ‏حقيقي بين الإسلام وبينها، فإن قاعدة الإسلام هي توحيد الله تعالى، والتي تعني أن يكون ‏المسلم عابدًا لله وحده، وذلك بالاحتكام إلى ما شرعه الله تعالى في أموره كلها من صلاة ‏وصيام وحج، ومعاملات بين الناس وخصومات، وفي شئونه كلها.‏
فقد ورد في مواضع عديدة من كتاب الله قصر الحكم عليه سبحانه فقال تعالى: {{C}{C}‏أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ{C}{C}} [الأنعام:62]. وقال: {{C}{C}إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ{C}{C}} [يوسف:40،67]. وقال تعالى: {{C}{C}‏فالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ{C}{C}} [غافر:12]. والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال تعالى: {{C}{C}يَا أَيُّهَا ‏الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ ‏إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً{C}{C}} [النساء:59]. ‏فلم يُحكم الله تعالى في موارد النزاع أحدًا غير الكتاب والسنة، وقال تعالى: {{C}{C}فَلاَ وَرَبِّكَ ‏لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ‏وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا{C}{C}} [النساء:65]. فأوجب تحكيم الرسول ‏ صلى الله عليه وسلم في كل ما يشجر بين المسلمين، ‏وأمر رسوله أن يحكم بين الناس بما أنزله عليه فقال تعالى: {{C}{C}فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ ‏تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ{C}{C}} [المائدة:48]. وقال تعالى في الآية التي تليها: {{C}{C}وَأَنِ احْكُم ‏بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ{C}{C}} ‏‏[المائدة:49].

فالحق عند المسلم هو ما أمر به الله تعالى ورسوله ‏صلى الله عليه وسلم أو دعا إليه، والباطل هو ما ‏نهى الله عنه ورسوله ‏صلى الله عليه وسلم؛ فالله تعالى هو الذي يشرع، وهو الذي يأمر وينهى، وهو الذي ‏يُلزم، وهو الذي يعاقب على المخالفة ويثيب على الطاعة، فالسيادة الكاملة إنما هي لله ‏تعالى وحده، وقد قال رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم : «{C}{C}السيد الله{C}{C}» ‏(صححه الشيخ الألباني).‏
‏بينما الحق في الديمقراطية هو ما أمر به الشعب، والباطل هو ما نهى عنه الشعب، ‏وإرادة الشعب هي معيار الخطأ والصواب، فما أقرته وقبلته فهو الصواب وما تركته ولم ‏تقبله فهو الخطأ، فالإرادة الشعبية معصومة، ومن هنا فإن الديمقراطية قد رفعت الشعب إلى ‏المنزلة التي لا تليق إلا بالله تعالى، وهذا الفرق لا يستطيع أن ينكره أحد، إلا عن طريق ‏الكذب والتضليل لخداع الناس وإيهامهم، وتعريفات الديمقراطية في بلد المنشأ تدل على ‏ذلك، بل ابتعاد الديمقراطية عن الدين هو أحد مسوغات الدعوة إليها.

‏ والديمقراطيون الحقيقيون لا يعدون هذا عيبًا أو نقصًا يحاولون التبرؤ منه، بل هو ‏عندهم من مميزات الديمقراطية، فكما يبين أحدهم أنه يستحيل تعريف الديمقراطية "دون ‏تحرير الذهن من الأحكام المسبقة مهما كانت، أي إعطاء مسؤولية القرار للشعب دون ‏تقيد مسبق بأي قيد نصي أو تشريعي أو فقهي، فالناس وفق هذا المنطق هم الذين يملكون ‏حق السيادة والمرجعية في شئونهم التعاقدية الوضعية"‏، وبهذا يتم فك أي ارتباط إيجابي ‏بين الديمقراطية وبين الدين، فالديمقراطية تبعد الدين عن التدخل في الحياة العامة ‏للمجتمع، وهي بذلك تكون الوجه السياسي للعلمانية، وهذا لا شك اختلاف جذري بين الإسلام والديمقراطية ولا يمكن تقريب ‏الديمقراطية من الإسلام إلا بالتخلي عن هذا الوصف الجوهري في الديمقراطية، لكن إذا ‏أمكن التخلي عن هذا الوصف في محاولة التقريب، هل يظل ما بقي منها باسم ‏الديمقراطية؟ في حين لا يمثل الشعب أية مرجعية في الحكم، هذا ما تأباه قواعد اللغة ويأباه ‏العقل والمنطق، ولا يمثل الإبقاء على الاسم في هذه الحالة إلا القبول بالتبعية الفكرية، ‏واختزال الفكر الإنساني كله في الفكر الغربي.‏

لكن هل استطاعت الديمقراطية أن تحقق هذا الذي زعمته وادعته؟
يقسم الفكر الديمقراطي الشعب إلى فئتين: إحداهما يمكن تسميتها بالشعب ‏السياسي، وهو الذي تكون له السيادة، والفئة الثانية هي المتبقية من مجموع الشعب، وهي ‏التي لا دخل لها بهذه السيادة، وهذه الفئة تغيرت بتغيير الأزمان، فقد كانت في أول الأمر ‏تشمل الأرقاء وتشمل النساء والأطفال غير البالغين، والرجال غير المتعلمين، والفقراء، ‏وغير النبلاء في المجتمع، وهم يمثلون الأغلبية العددية في المجتمع، وقد كان النظام الذي يمنع ‏كل هذه الفئات من السيادة ينظر إليه على أنه نظام ديمقراطي، مما يبين أن السيادة الشعبية ‏كانت مجرد شعار لا رصيد لها يسندها من الواقع، ثم بمرور الزمن تغيرت هذه الفئة، لكنها ‏ما زالت حتى الآن تشمل الصبيان الذين لم يبلغوا سنا معينة (18عامًا) إضافة إلى المحكوم ‏عليهم في بعض القضايا التي تحددها القوانين.‏

وإذا تجاوزنا هذه النقطة وانتقلنا إلى الدستور الذي يعد أعلى وثيقة قانونية في النظام ‏الديمقراطي يلتزم بها الجميع ويحنون هاماتهم لها، واتخذناه مثالًا للحديث، نجد أن الشعب لم ‏يكن هو الذي وضع هذه الوثيقة، وإنما وضعها مجموعة من الناس ممن تخصصوا في الأمور ‏القانونية والمسائل السياسية، وهي لا شك مجموعة صغيرة جدًا جدًا بالمقارنة إلى عدد ‏الشعب (السياسي) مما يعني أن السيادة الشعبية لم تكن هي التي صاغت أعلى وثيقة قانونية ‏يتحاكم إليها في البلاد، ولو قيل :لكن هذا الدستور لا يُقَر إلا بعد الموافقة عليه من ‏الشعب عن طريق التصويت وأخذ الآراء، فإن ذلك أيضا لا قيمة له لعدة أمور:‏

أولًا: تشتمل هذا الوثائق على مسائل فنية تخصصية لا يدركها إلا المتخصصون وهم ‏قلة قليلة في أي مجتمع، فموافقة غيرهم عليها ليس له قيمة حقيقية، وكذلك اعتراضهم لا ‏قيمة حقيقية له، فإن الموافقة أو الاعتراض الناشئين عن مجرد الرغبة أو الاستجابة للدعابة ‏ووسائل الإعلام، من غير علم حقيقيي بالمسألة والقدرة على تبيان ما فيها من إيجابيات أو ‏سلبيات لا يساوي شيئًا في ميزان تقويم الآراء.‏

‏ ثانيًا: لو تجاوزنا هذه النقطة فإنه دائمًا ما لا يحصل إجماع على تلك الوثائق، بل ‏يقبلها طائفة ويرفضها آخرون، ذلك أنه في ظل عدم وجود مرجعية متفق عليها بين الناس ‏ويخضعون لها -خارجة عن الإنسان نفسه- فإنه يستحيل أن يتفق الناس كلهم أو أغلبهم ‏على رأي واحد في عشرات بل مئات المسائل المهمة، وإذا أُقرت هذه الوثائق لكون الموافق ‏عليها أكثر من المعترض، فمعنى ذلك أن هناك مجموعة كبيرة من الشعب (السياسي) وهي ‏قد تصل إلى الثلث أو قريب من النصف (على حسب الأغلبية المعتد بها في هذه المسائل)، ‏لم يكن لنصيبها من السيادة الشعبية أثر في إقرار هذه الوثيقة، على أن موافقة الموافق لا ‏تعني بالضرورة موافقة حقيقية، إذ ربما تكون الموافقة نتيجة ضغوط من أطراف خارجية، ‏أو تدخل الإعلام الموجه الذي يقوم بدور كبير في صناعة وتشكيل آراء الناس وتصوراتهم، ‏أو نتيجة الاتفاق على تقسيم المغانم بين الفئات المؤثرة في التصويت، وأقرب مثال لذلك ما ‏حدث في إقرار الدستور العراقي الذي وضع بعد الاحتلال.

‏ بل إن الأساس الذي يعتمد عليه في بيان الأغلبية المعتد بها، هل هو الأغلبية المطلقة ‏‏(أي ما زاد على 50% ولو كان بصوت واحد) أو أغلبية الثلثين أو غير ذلك، هو نفسه ‏يحتاج إلى إجماع الشعب (السياسي) حتى يمكن أن يؤسس عليه ما يأتي بعده، وإلا لم يكن ‏هناك أي معنى للحديث عن السيادة الشعبية المتخذة عن هذا الطريق، وهذا الإجماع نادر ‏الحدوث، وعادة ما لا يحدث أبدًا.‏

‏ ثم إن الذين يحق لهم الدخول تحت مسمى الشعب السياسي، كثير منهم لا يشارك ‏في عمليات الانتخاب والتصويت، مما يجعل الأغلبية عند حدوثها هي أغلبية من شارك في ‏التصويت لا أغلبية الشعب السياسي، ولو أننا أخذنا مثالًا قريبًا من انتخابات قد جرت في ‏مصر فقد فاز الرئيس المصري بالانتخابات بنسبة تجاوزت الثمانين في المائة لكن لو نظرنا ‏كم فردا اشترك في الإدلاء بصوته ممن يحق لهم المشاركة، لم نجده يتجاوز نسبة الـ ‏‏(24%)، حسب الإحصاءات الرسمية، وما يجري في كثير من الدول لا يختلف عن هذا‏.

ثالثًا: ولو تجاوزنا هذه النقطة ونظرنا إلى الدستور الذي تم إقراره، فإنه بعد جيل أو ‏جيلين يكون الذين أقروا هذا الدستور جيفا تحت التراب، وهذا يعني إثبات السيادة ‏والإرادة لأناس أموات، وهو ما يعني في الوقت نفسه، أن الأحياء محكومون بإرادة الموتى، ‏وليس بإرادتهم، فأين السيادة الشعبية في هذا.‏

رابعًا: ولو تجاوزنا مرة أخرى هذه النقطة، فإن الأطفال الذين كانوا أطفالًا وقت ‏كتابة الدستور وإقراره، قد صاروا بعد زمن رجالًا لهم جزء من السيادة، فأين تأثير هذه ‏السيادة على الدستور والقوانين المنبثقة عنه في إدارة البلاد.‏

وفي تحديد الشعب نفسه: ما الذي يجعل العربي والكردي في العراق يمثلون شعبًا ‏واحدًا، وكذلك الكردي والتركي في تركيا يمثلون شعبًا واحدًا، والعربي والبربري في ‏الجزائر يمثلون شعبًا واحدًا، كل فرد منهم له جزء من السيادة، بينما العربي الأردني أو ‏المصري أو السوري المقيم في بلد عربي آخر لا يعد من شعب ذلك البلد، ومن ثم لا يمثلون ‏شعبًا واحدًا؟ ولا شك أن هذا المقيم في بلد ما تجري عليه أحكام هذا البلد، وهو في ‏الوقت نفسه لا يعد من الشعب فليس له أية حقوق في ممارسة الحكم فيه، (وهذا أمر يقره ‏الفكر الديمقراطي) ما يعني أنه ليس له نصيب في السيادة الشعبية، وهنا تخفق الديمقراطية في ‏تقديم التفسير المقنع لرضوخ هذا المقيم أو إجباره على الالتزام بأحكام البلد الذي يقيم ‏فيه، من غير أن يكون له نصيب من السيادة أو ممارسة الحكم فيه.

وبالانتقال من كل ذلك نجد أن المؤهلين لممارسة الحكم باقتدار حقًا، ليسوا هم ‏الشعب كله، بل هم مجموعة أناس معينين محدودين، مما يجعل الحكم محصورا فيهم إلى حد ‏كبير، وبذلك يتحول دور الشعب من كونه الممارس للحكم، إلى الاقتصار على اختيار ‏القادة الأكفاء ليقوموا بممارسة الحكم، وهو لا يمارس هذا الحق إلا مرة كل عدة سنوات ‏عندما تحين مواعيد الانتخابات، وفي كل هذا قضاء على قضية السيادة الشعبية، وهو ما ‏يؤول في النهاية أن تكون الديمقراطية بحق هي حكم الأقلية وليس حكم الأكثرية، ‏فالديمقراطية وإن كانت قد انطلقت من نقطة أن الحكم للشعب لكنها انتهت واقعًا وفعلًا ‏لحكم الأقلية، الأقلية الغنية المثقفة المنظمة التي استطاعت أن تحول القضية لصالحها فيما ‏يطلق عليه حكم النخبة "ففي الأنظمة الغربية لا يحكم الشعب كما تفترض النظرية، ولكن ‏الذي يحكم هي تلك الأقلية التي تسمى النخبة، ومن ثم ففي الغرب نخبة ديمقراطية تحكم ‏بسبب ما يتوفر لها من قدرة على التحكم في الموارد الطبيعية ومصادر الثروة والقوة، ‏وبحكم بعض المزايا الموروثة وغيرها من العوامل".‏

‏ويحق لنا بعد ذلك كله أن نقول: إن اعتبار الشعب هو الذي يحكم في النظام ‏الديمقراطي، يعد من الخدع الكبرى في تاريخ الأنظمة السياسية.

هذا العيب الجوهري في الديمقراطية الذي يجعل السيادة للشعب، وهو الأمر الذي ‏تشبثت به ولم تستطع تحقيقه في واقعها، وذلك لعدم واقعيته، هو نقطة الضعف القاتلة لها ‏في شريعة الإسلام، وهو ما دعا الكثيرين ممن يريدون جعل الديمقراطية من مكونات النظام ‏السياسي الإسلامي أو إدخالها فيه وذلك بغرض الخروج من حالة الاستبداد التي تعيشها ‏كثير من شعوب الأمة الإسلامية إلى تجاوز هذه النقطة تحت الدعوة إلى الاستفادة من ‏آليات الديمقراطية، دون التمسك بالأساس النظري لها أو الاعتماد عليه، على أساس أن ‏هذه النظرة المذهبية أو الفلسفية للديمقراطية كانت مرتبطة بزمن النشأة وظروفها، وقد ‏تجاوزتها الديمقراطية في تطبيقاتها المعاصرة، ولم تعد تعول على هذا الأساس، أو ترتبط به.‏

‏ فهم يرون أن الديمقراطية كفلت الكثير من الحقوق والحريات التي تتحقق بها ‏إنسانية الإنسان كحرية التنقل، والاستقلال في الرأي والتفكير، والمشاركة في القرار ‏السياسي وفي اختيار الحكومة، وفي القدرة على الإنكار على الحكومات، وتغييرهم عند ‏الخروج عن الجادة، وفي حق التملك وحق الأمن وغير ذلك، كما يحقق المساواة للجميع ‏أمام القانون، ويرون أن هذه الأمور لا ترتبط بالأساس النظري للديمقراطية الذي قامت ‏عليه الديمقراطية، بل هي آليات تنظيمية، وطرائق عملية للحفاظ على حقوق الناس ‏وحرياتهم، وتأمين تداول السلطة بينهم بطريقة سلمية، كما أنها من الأمور المشروعة في ‏الإسلام.‏

لكن هنا نقطة مهمة غابت عن أصحاب هذا الرأي، الذين يحاولون سلخ الديمقراطية ‏من أصلها وذلك أن هذا رأيهم ولا يعبر عن الشعب السياسي كله، فالشعب السياسي ‏حسب الفكر الديمقراطي يدخل فيه المواطن المسلم كما يدخل فيه المواطن الكافر، ‏والمسلمون منهم المسلم حقيقة ومنهم غير ذلك كالعلمانيين والحداثيين والقوميين وغيرهم، ‏وهؤلاء يصرون على ارتباط الديمقراطية بأصلها الذي خرجت منه، ولا سبيل -ديمقراطيًا-‏ بإلزامهم بغير ذلك. ‏

ولا شك أن العمل الديمقراطي القائم على الأساس الفلسفي للديمقراطية يتناقض مع ‏المقررات الإسلامية كما ظهر، فإن جعل التشريع بيد الشعب هو إلغاء لشريعة الله تعالى ‏وهذا ما لا يقول به مسلم أو يقبله، ولعل في ظهور هذا العيب الواضح في الديمقراطية، ما ‏يدعونا إلى عدم الوقوف أمامه ويكفي فيه ما تقدم، ويبقى الحديث عن التصور الذي ‏يتناول الديمقراطية بوصفها آليات، أو منهج عمل، من غير استناد إلى فكرة أو تصور ‏مذهبي أو فلسفي، وهذا هو موضوع المقال القادم إن شاء الله.‏
 

المصدر: موقع صيد الفوائد

محمد بن شاكر الشريف

باحث وكاتب إسلامي بمجلة البيان الإسلاميةوله عديد من التصانيف الرائعة.