العنف والفاشية.. الوجه الآخر لليبرالية.. مصر أنموذجاً

منذ 2013-02-05

بينما يعلن الليبراليون في كل محفل عن احترامهم وتقديرهم للسلام الاجتماعي ونبذهم ورفضهم للعنف والعنف المضاد، إذا ببصماتهم تظهر في كل حالة عنف وإرهاب يمر على بلاد الربيع العربي بعد الثورات وخصوصا يبدو ذلك في الحالة المصرية.


"لتحرير الأفراد يجب القبض على رأس الدولة، والحد من الحريات التي بها يؤذون المجتمع الذي يعيشون فيه"، كانت هذه كلمات روسو، التي تجعل القبض على رأس الدولة والحد من حريات الأفراد إذا تعارضت مع مصلحة المجتمع لازماً وهي تلك التي جعلها موسوليني مثلاً أعلى له عندما أعلن عن فاشيته، وأضاف إليها: "أن قمع الحرية الفردية جائز مادام في مصلحة المجتمع". ولما كان موسوليني في أغلب الوقت مستمداً أفكاره من الاشتراكيين الشيوعيين كان سهلاً عليه كما يفعل الشيوعيون استخدام خطاب البسطاء لفرض السلطوية الغاشمة، واستخدام الخطاب الليبرالي في بعض الأحيان لمحاولة تحسين الصورة عندما يلحظ تذمرا!

الفاشية كانت في العموم مذكرة بمذابح هتلر، بينما كانت تعني اضطهاد الجموع على أيدي مجموعات سلطوية بالنسبة لآخرين، وما يجمع بينهما أنها كانت سلاحاً في يد اليسار السياسي أو غيره ممن في السلطة، يستخدمه متى شاء ضد معارضيه وعلى مدى عقود مرت مصر بفترات متفاوتة في فاشيتها، ما يهمنا منها فترة عبد الناصر، التي اضطهد فيها الإسلاميين، وبعض الفترات في عهد مبارك أيضاً التي يمكننا وصفها بالسلطوية وهي المسمى المخفف للفاشية -إذا صح التعبير- وبعد ثورات الربيع العربي ظل الليبراليون يبشرون الشعوب بالجنة الموعودة، إذ يقدمون لهم نموذجاً جديداً للحريات التي حرموا منها، ونموذجاً جديداً من المشاركة التي ضيعت منهم.

لكن جديداً دخل على خط الأمنية الليبرالية في دول الربيع قض مضجعهم وأزعج حلمهم، وشتت كثيراً من أهدافهم المستوردة من أمريكا والغرب، ذلك الجديد لم يكن هو التيار الإسلامي فحسب، بل ذلك التجذر الديني للشعوب، ما حدا بالليبراليين إلى الإعلان عن رؤى وممارسات تضاد وتخالف ما بشروا به من قبل.

وبينما يعلن الليبراليون في كل محفل عن احترامهم وتقديرهم للسلام الاجتماعي ونبذهم ورفضهم للعنف والعنف المضاد، إذا ببصماتهم تظهر في كل حالة عنف وإرهاب يمر على بلاد الربيع العربي بعد الثورات وخصوصا يبدو ذلك في الحالة المصرية.

فمن ناحية يدعو الليبراليون بقبول نتائج الصناديق واحترام قواعد اللعبة السياسية "الديمقراطية"، لكنهم سرعان ما يتنكرون لما يعتبرونه من مبادئ الليبرالية العالمية، فينكرون نتائج الصناديق، ولا يحترمون حرية التعبير عن الرأي، متحججين بحجج مختلفة، متدثرين بالدعم المالي اللامحدود من دول وأفراد يهمها فشل التجربة الإسلامية.

أتحدث إلى القارئ بعد سنتين كاملتين من بداية الثورة المصرية، التي نجحت في إسقاط رؤوس النظام، لكنها لم تنجح بعد في نزع الجذور المتجذرة من العلمانية التي لطالما زرعها النظام السابق في البلاد، فصارت كأنها ملتصقة بأرضه وطبيعته عامان كاملان أفرزت المعارضة في مصر مجموعة من " النخب " قد تختلف في رؤيتها الفكرية ومناهجها السياسية -بعضها اشتراكي ناصري وبعضها نفعي- لكن جمعتها المعاني الليبرالية وارتضتها كخطابٍ إعلامي وأهداف معلنة.

بيد أن تلك النخب ما فتئت تكشف عن مخالفات صريحة لمناهجها المعلنة، بل مبادئها المعروفة، ولم تهدأ الليبرالية والعلمانية المصرية عبر العامين في مناقضة مبادئها التي تدعو إليها، ورفض النتائج التي جاءت بها!

الاستقلالية، وقبول الآخر، مبدآن معروفان من مبادئ الفكر الليبرالي، يرفعونهما في شتى الأحاديث والدراسات النظرية التي تعبر عنهم، لكنهم عندما يجدون أنهما يعوقان المسيرة النفعية السلطوية لليبراليين، فإنهم يطأونهما بأقدامهم غير آسفين على المبادئ والقيم. فترفض تأثير الغالبية، وشرعيتها التي جاءت عبر الاقتراع المباشر النزيه، وترفض الرأي الآخر الّذي تطالب به تلك الأغلبية -وبالطبع اختيارها للشريعة كأساس لأي قانون-، وترفض الرأي الآخر المنادي بالرئيس المنتخب كرئيس شرعي للبلاد بحسب قواعد الليبراليين أنفسهم.

الليبرالية الآن في مصر تقدم لمعتنقيها وشبابها نموذجا تركيبياً جديداً على الفكرة المعروفة منها، أو ربما تكشف جانباً جديداً من هذا الفكر المستورد، إنه النموذج الفاشي العنيف الذي يكفر بكل مبدأ ويرفض كل قيمة سوى ما يريده ويسعى إليه. ولئن جعل أصحاب الفكرة الليبرالية الغربية فكرتهم نتيجة نهائية لتراكم الفرز الديمقراطي بعد المدنية والعقد الاجتماعي والتنوير، فإن الليبرالية في مصر أسقطت احترام قيمها، واثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أنه ليس ثمة قواعد حاكمة إلا النفعية الجائرة، والمكيافيلية السلطوية.

فعندما فشلت الليبرالية في الوصول إلى عقل المواطن المصري، "وأصابها اليأس بعد عقود طويلة في محاولات ترسيخ العلمانية في نفوس المصريين، ثم إذا بها تفاجأ بنسب تصويتية مضادة مزعجة لها ترفض الفكر الليبرالي والعلماني وترجو التيار الإسلامي والشريعة الإسلامية"، لجأت إلى الطرق غير الشريفة بحثاً عن السلطة التي وجدت أنه لا مناص من تقلدها لتستطيع فرض النموذج الذي تريد، عبر عدة خطوات متتابعة ومدعومة دولياً، وموجهة توجيها تاماً..

تمثلت الخطوة الأولى: في رفض الآخر، سواءً على مستوى الحوار أو حتى مجرد الرضا بفكرته، وهو ما مثل حالة ذهنية إقصائية من الليبرالية للإسلاميين عن طريق تشويه سمعتهم أو تشويه فكرتهم أو نسبة الأخبار المكذوبة عليهم أو غير ذلك.

وتمثلت الثانية: في محاولات التزوير الصريح والمقنع للانتخابات.

وتمثلت الثالثة: في التعاون والتكاتف مع الكنيسة، بل واتخاذ الكنيسة داعماً أساسياً لها سواء على المستوى الشعبي أو المادي.

ثم الرابعة: وهي ما يمكن أن نطلق عليه اجتماع البلطجة والليبرالية، وإذا بالليبراليين يعتبرون أنفسهم الراعي الرسمي للبلطجة في مصر، سواء على مستوى الدعم المادي أو الإعلامي أو حتى التشويش الفكري.

وبرغم تلك المحاولات المتتابعة المنظمة، فإنها لم تستطع الوقوف أو الثبات أمام الفكرية الإسلامية وأمام ميول الشعب إسلامياً، فخرج الاستفتاء الأول بعد الثورة بنسبة فائقة في صالح ما اتفق عليه الإسلاميون، وكذا جاءت نتيجة مجلس النواب ثم انتخابات الرئاسة التي جاءت برئيس ذي خلفية إسلامية، ثم نتائج الاستفتاء على الدستور الذي يدعم كون الشريعة هي المصدر الأساسي للقوانين.

كانت كل نتيجة من تلك النتائج بمثابة إعلان سقوط لليبرالية في مصر، ما كان يتسبب في كل مرة في رفع مستوى العنف الذي يرعاه الليبراليون والعلمانيون في الشارع المصري.

حتى فاض الكيل عندهم، وتم الإعلان عن خطوتين خطيرتين للغاية:

الأولى: الإعلان عن التحالف بين الليبراليين وفلول النظام السابق المخلوع، الذي قامت الثورة بالأصالة لخلعه ونزع جذوره بحثاً عن تكثير العدد وزيادة الدعم.

الثاني: الإعلان عن إنشاء تنظيم إرهابي عنيف، يُسمّى تنظيم "البلاك بلوك"، يُقيمه شباب مقنعو الوجوه حاملو أسلحة، مجاهرون بإرادتهم للقتل وسفك الدماء، تحت دعوى القصاص من التيارات الإسلامية والرئيس المنتخب.

هاتان الخطوتان أعلنتا إعلاناً صريحاً عن تلاشي الفكر الليبرالي فيما يخص الثورة المصرية، واستبداله بنوع فاشي نفعي من الفكر والسلوك، نوع لا يرى في نزف الدماء شيئاً مستنكراً، ولا يرى في كسر مبادئ الثورة شيئاً يدعو للفت الانتباه. حركة البلاك بلوك هي الأخرى وما تقوم به من أعمال إرهابية، لوثت وجه الثورة المصرية التي كانت إلى وقتٍ قريب لا تزال محتفظة بذكريات طيبة عن سلميتها وطهارتها ونظافة أيدي القائمين بها أمام العالم.

ثم إن انتشار هذه الحركة في أهم المدن الحضارية المصرية، وتحركها في مجموعات بزي رسمي أسود وقدرتها على التسليح الفعال، وقدرتها على التواصل الإعلامي الكبير مع القنوات الليبرالية، -في محاولة لتبييض وجهها- وما تحمله من أفكار، هو وغيره من الأدلة الدامغة، يؤكد أن وراء تلك الحركة من ينتمي للفكر الليبرالي الغربي، ويقوم بالتمويل اللامحدود لهم "جبهة الإنقاذ الوطني" التي تُمثّل التيار "المدني" وصفت في بياناتها خلع قضبان السكة الحديد في ثلاث محافظات ووقف القطارات المتجهة من القاهرة إلى أسوان وعمليات الفوضى في الشوارع والهجوم على مقرات الإخوان المسلمين بأنه من إنجازات الاحتفال بذكرى الثورة، وقناة "التحرير" الليبرالية استضافت على الهواء مباشرة اثنين من ميليشيات "البلاك بلوك"، وهما ملثمان، في اعتراف إعلامي بإنجازات البلطجية، وربما التمهيد للدعوة لتكريمهم، ومنحهم وسام النيل، تقديرًا لجهودهم في محاولة إسقاط الرئيس!

الصارخون بحرية المرأة ومشاركتها في العمل العام هم أيضاً غيروا كثيراً مما يدعون إليه، عبر سكوتهم عن اقتراف السوء أثناء مليونية ذكرى الثورة، إذ سجلت محاضر الشرطة وسجلات المستشفيات أكثر من (23) حالة اغتصاب جماعي لفتيات مشاركات في المظاهرة تمت في الميدان وعلى أيدي أنصار الليبراليين المنادين بإسقاط التيار الإسلامي، ولم يكن مستغرباً أن نتابع صمتاً إعلامياً تاماً على تلك الفظائع!

وجهٍ آخر يُسفر عن ذلك الفشل والسقوط، وهو محاولة إسقاط شرعية الرئيس المنتخب عن طريق الصندوق، عبر انتخابات شهد العالم بنزاهتها، ولتكن الفوضى هي البديل عن هذا الرئيس مادام غير مرضي عنه ليبراليا!

وسقوط الرئيس ليس له إلا معنى واحدا فقط، وهو دخول البلاد في نفق من الفوضى الظلامية، لن ينهيها إلا حكم عسكري من جديد، وذلك معروف ومعلوم لكل قادة المعارضة.

لكنهم يفضلون الحكم العسكري ولو كان جائراً على حكم قريب من التيار الإسلامي، وليسقط الوطن كله مادام الذين يتصدرون المشهد سيرسخون الفكرة الإسلامية في البلاد وسيسعون إلى بث معاني الشريعة الإسلامية في مفاصلها!


خالد روشه