أحدثكم عن الخاصة

منذ 2013-02-08

«اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك». بهذه الدعوات، ولجت المسجد بعد العصر، أجلت بصري لأرى حِلقا من الشباب، كل منهم قد تحلق حول معلمه، وفي كل مجموعة واحد يتقدم بين يدي المعلم ثاني الركبتين، والبقية بأيديهم المصاحف، هذا يتلو على أخيه، وذاك يتعهد حفظه بنفسه، سكينة تغشى الزمان، وسكون يلف المكان، عدا أصوات تتغنى بالقرآن لها دويّ كدوي النحل، منظر محبب، إنهم يستشرفون الوعد النبوي، حيث تغشاهم الرحمة وتنزل عليهم السكينة، بل وأعظم، يذكرهم الله فيمن عنده!


«اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك» (1).
بهذه الدعوات، ولجت المسجد بعد العصر، أجلت بصري لأرى حِلقا من الشباب، كل منهم قد تحلق حول معلمه، وفي كل مجموعة واحد يتقدم بين يدي المعلم ثاني الركبتين، والبقية بأيديهم المصاحف، هذا يتلو على أخيه، وذاك يتعهد حفظه بنفسه، سكينة تغشى الزمان، وسكون يلف المكان، عدا أصوات تتغنى بالقرآن لها دويّ كدوي النحل، منظر محبب، إنهم يستشرفون الوعد النبوي، حيث تغشاهم الرحمة وتنزل عليهم السكينة، بل وأعظم، يذكرهم الله فيمن عنده!

هذا المشهد أتعمد رؤيته أحيانًا، وأتعمد الوقوف قليلًا لأتملى في تلك الحلق القرآنية الآسرة، هذا المشهد -دون مبالغة- يشدني إليه أكثر من خضرة الطبيعة وخرير مائها وشدو طيرها التي طالما تغنى بها الشعراء،
{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13].

ترفّعوا عن اللهو، وقنعوا منه بالمباح، وأعرضوا عن الحرام، وحين أقبل نظراؤهم على تفاصيل الدنيا، قصَروا أنفسهم على كتاب الله تلاوةً وتدارسًا، رجاء الفوز بالتجارة الرابحة {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29].

هِمَمٌ كبيرة، مصحفه الصغير أو مصحف جواله لا يفارقه، يراجع فيه ويحفظ، قائمًا وقاعدًا وكل حين، له شأن ولغيره شأن، نظرته بعيدة، وهدفه سامٍ، يشحذ همته، يتوقف مع نفسه أحيانًا يحسب الصفحات والأجزاء، ثم يرفع رأسه قليلًا، فيضيء وجهه بابتسامة جميلة، يقطعها بصرامة ليعود إلى مصحفه، يغمض عينيه أحيانًا وهو يتلو، يقرأ ويكرر، يصر ويثابر، تمر الشهور كأيام، يتنامى لديه شعور بالنشوة والتحفز مع شيء من الارتباك، يفيق من نومه أحيانًا قبل موعده المعتاد، فثمة مقطع من القرآن لم يتم حفظه بعد!

يعتزل زملاءه أحيانًا، فأمامه موعد مثير، ينزوي في غرفته، تقترب أمه لتناديه، لكنها تقف على باب الغرفة، وهي تسمع صوته الندي يتلو القرآن، وترفع بصرها للسماء حمدًا فيما تلمع عيناها بدمعة رضا، وهكذا تمر الأيام، ويقترب الموعد، يفرك كفيه بعضهما ببعض، تتسارع نبضات فؤاده كلما تذكر الموعد، في الوقت نفسه يكاد يطير من الفرح.

وفي أمسية لا كالأمسيات قبل أن يخرج إلى الصلاة يدنو من والدته يريد أن يفضي لها بشيء، لكنه يتلعثم من أين يبدأ؟ فيحس به قلب الأم، التي تستثيره لتعرف مصدر قلقه، يقف على قدميه متحفزًا، ويقبل رأسها: أمي.. (تخنقه عبرته): "اليوم موعد الختمة"، لكن الأم المربية الناصحة المحفزة تضمه لصدرها ليفرغ ما تبقى من عبرات ودموع، وهي لا تملك أيضا عبراتها ولا دموعها، يدخل الأب قلقا من الموقف، فتبادره الأم مكفكفة دمعها مبشرة بالخبر، فيضمه الأب أيضًا ويحمد الله على مسمع من ابنه أن رزقه هذا الابن، وهنا يغتنم الابن الفرصة ليدعو أباه لمرافقته هذا اليوم.

يمضيان سويًّا إلى المسجد، وبعد الصلاة والأذكار تتسارع دقات القلب، يتصنع رباطة الجأش، فيَثني (الابن) ركبتيه عند معلمه، لكنه هذه المرة برفقة أبيه، إضافة لبقية الفتية المتحفزين لمثل هذا الموقف، وكل منهم ينتظر دوره ذات يوم.

يبدأ الابن في تلاوة الآيات حفظًا على معلمه مرتلةً بصوت شجي، وخشوع يلامس صفحة القلب، يسترسل ويترنم، حتى يأتي عند آخر الآيات، تبدأ الحروف تتسابق على فمه مرة، فينطق بعضها قبل غيره ثم يعاود ويصحح، ومرة يتلعثم فيتوقف قليلًا كأنما الحروف على اتفاق بينها، يبتلع العبرات ومعلمه يدرك الموقف جيدًا، فقد مر به ذات يوم.

أما الأب فقد أخفى وجهه بغترته، وبقية الصحب الذين تعودوا الانشغال (بمصاحفهم) بمحفوظهم الذي سيسمعونه على معلمهم هذا اليوم صمتوا وأنصتوا، وأبصارهم على صاحبهم تترقب الموقف وتتلهف لمثله.

حتى جاء على آخر آية وختمها بصوت متحشرج، وسارع بسجود طويل نثر فيه ما تبقى من عبرات، حمد ربه وأثنى فيه عليه، وما إن رفع رأسه حتى رأى المعلم والأب والبقية قد وقفوا ينتظرونه فعانقهم.. لا يستطيع الرد على تهانيهم فالعبرة تخنقه، ودموع الفرح تتسابق على وجنتيه.

وهكذا يتكرر مثل هذا الموقف في مساجد عديدة، ودور نسائية كثيرة، في مشهد مهيب صامت، يزيده البعد عن الضجيج جلالًا لا يكشفه الإعلام، ولا تتابعه القنوات الفضائية، وإن كان الله سبحانه فوق سماواته مطلع عالم بكل هذا.

وتبقى المدارس النسائية والحلقات القرآنية أكثر التجمعات الشبابية أمنًا على أخلاق أبنائنا وبناتنا، وأهنأها عيشًا حيث الرضا الذاتي عن النفس، ابتساماتهم عذبة وصادقة، ملامحهم توحي بالطمأنينة والحيوية..

كم أغبطهم والله على حماسهم المتدفق! وشبابهم الذي ليس له صبوة! وكم أشعر بالسعادة حين أرى ابني أو ابنتي قد اتخذ مكانه بينهم، واختار صحبته منهم، مكانهم المفضل بيوت الله يتبادلون الدعوات الصالحة لبعضهم، شغلوا أنفسهم بما يعود عليها بالخير في الدين والدنيا، وهم في مدارسهم شامة عز وفخار للحلقات والمدارس.

وإن المرء ليتمنى أن يُحشر معهم يوم القيامة، لأنهم أرفع الناس منزلة، حيث يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: «اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» (2)، فهل بعد هذا السمو الدنيوي والأخروي سمو؟

ولئن كانت كرامتهم عند ربهم بهذه المثابة، فحقيق بنا أن نعطيهم حقهم من التكريم الذي نقدر عليه، سواءً من كان منا إعلاميًّا أو غنيًّا موسرًا أو ذا مسؤولية صغيرة أو كبيرة، أو صاحب جاه أو غيره.
وأصلي وأسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

-------------------------------------------------------------------------------------
(1) «كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إذا دخلَ المسجِدَ يقولُ: بِسمِ اللَّهِ والسَّلامُ علَى رسولِ اللَّه، اللَّهُمَّ اغفِر لي ذُنوبي وافتَح لي أبوابَ رحمتِكَ، وإذا خرجَ قالَ بسمِ اللَّهِ والسَّلامُ على رسولِ اللَّه،ِ اللَّهمَّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبوابَ فضلِك». (الراوي: فاطمة، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح ابن ماجه، الصفحة أو الرقم: 632خلاصة حكم المحدث: صحيح).
(2) الراوي: عبد الله بن عمرو بن العاص، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح الترغيب، الصفحة أو الرقم: 1426، خلاصة حكم المحدث: حسن صحيح.


فهد السيف - 17/10/1433 هـ