نعـم للشـورى لا للديمقراطيـة

منذ 2013-02-11

إن ولاية الأمر لا تكون غصبًا وإنما تكون عن شورى المسلمين، فما بقي في الديمقراطية من خير إلا ودلت عليه الشورى مع الصفاء والنقاء، والبعد عن الاختلاط بأمور الفساد والضلال، ومن ثم فإن التعبير عن المضامين الشرعية فيما يخص المسائل التي تقدم الحديث عنها بالشورى هو الذي ينبغي أن يعول عليه، وأن نفشيه في كلامنا، وعلينا أن نهجر لفظ الديمقراطية ولا نلتفت إليه حتى نميته في حديثنا ومن ثم لا يلتفت إليه.

 

يحاول الغرب التسويق لنمطه الحياتي في كافة جوانبه السياسية والاقتصادية والثقافية، إضافة إلى نمطه المعيشي في المأكل والمشرب والملبس، وقد استخدم في سبيل تعميم نمطه وسائل متعددة ليجعل منه نمطًا عامًا عابرًا للقارات، حيث يصطبغ به الناس في مختلف البلدان رغم اختلاف أديانهم وثقافاتهم وأعراقهم ولغاتهم، ومن القضايا التي يحاول الغرب تسويقها بكل سبيل تعميم نمطه السياسي الديمقراطي حتى إنه لينفق في سبيل ذلك مئات الملايين من الدولارات، ويهدد بالحروب والويل والثبور، وتبني ما يسميه بالفوضى الخلاقة زورًا وبهتانًا فما كانت الفوضى إلا هلاكًا وتدميرًا.

لقد مضى الغرب بزعامة أمريكا المتجبرة في تسويق ما تريده من نشر الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي، إلى حد شن الحروب التي أزهقت فيها الأرواح ودمرت فيها البلدان، ونهبت فيها الخيرات، لكن ما المسوغ الحقيقي لما يفعله الغرب في هذا الصدد؟ هل هو حرصهم على الشعوب ومحاولة إيصال ما يظنونه من خير في هذه النظم؟ والجواب القاطع كلا فإن تاريخهم وممارساتهم تناقض ذلك مناقضة شديدة، فاستغلالهم خيرات البلاد لصالح أوطانهم على حساب أصحاب البلاد شاهد على ذلك، وكذلك تأييدهم بلا حدود للحكام المستبدين ومناصرتهم لهم ضد شعوبهم إذا كان وجودهم يحقق مصالحهم.

إذن فما السبب؟ والسبب في تقديري محاولة فرض الهيمنة الفكرية والثقافية على الشعوب الأخرى، وعزلها عن ثقافتها وهويتها وقطع العلاقة بين تلك الشعوب وماضيها التليد.

فالترويج للديمقراطية ليس إلا ترويجًا لعلو الإنسان الغربي على كل ما عداه من سائر أجناس البشر، يدلك على هذا ما أعلنوه من انتصار الحضارة الغربية على كل ما عداها، ومن ثم أطلقوا مقولتهم التي تزعم نهاية التاريخ بانتصار الحضارة الغربية.

الديمقراطية إذا نظرنا إليها في أهم خصيصة لها وجدناها إثبات حاكمية الشعب، ونفي أي سلطان للدين للتدخل في شئون الناس في المجالات المتعددة من سياسة واقتصاد وثقافة وغيرها، فكانت الديمقراطية بذلك المعادل السياسي للعلمانية، وهذا مما يحتم علينا أن نهجر هذه المفردة وألا نستخدمها في الدلالة على بعض الجوانب الحسنة التي تقبلها شريعتنا، لأن في استخدامها في الدلالة على ذلك نكون كمن يمنحها الأوكسجين اللازم للحياة، ونمكن لها داخل نسيجنا السياسي والثقافي، وعلى ذلك فلا بد من استخدام مفردة إسلامية تدل على الجوانب الحسنة التي يمكن أن تكون في الديمقراطية، ونكثر من استعمالها وتردادها.

يراد من الديمقراطية في الناحية التطبيقية عند من يدعو إليها في العالم العربي: منع استبداد الحاكم وتمكين الناس من حرياتهم وتداول السلطة، وتولية الحاكم بإرادة الشعب ومحاسبته وإمكان عزله إذا خرج عن حدود صلاحياته، ونحن لن نناقش هنا: هل الديمقراطية قادرة على الوفاء بذلك؟ وهل هناك ضمانات لتحقيق ذلك؟ وهل هناك عيوب في بنية الديمقراطية نفسها تحول دون تحقيق ذلك؟ فإن ذلك خارج عن نطاق مقالي.

على أن هذه التصورات ليست من معنى الديمقراطية المعجمي، وإنما هي تصورات يبنيها البعض على الخصيصة الرئيسة في الديمقراطية ألا وهي حاكمية الشعب، والمفردة الإسلامية التي نريد استخدامها في هذا المجال ليس بالضرورة أن تشتمل على كل ذلك، بل يكفي أن تدل على شيء جوهري منها ويحمل الباقي عليه.

أولاً: نقول ما ذكر أعلاه من الجوانب الحسنة قد دلت عليها نصوص الشرع، فالشريعة تمنع استبداد الحاكم وطغيانه وتجبره، كما تبين أن وصوله لمنصبه لا يتم عبر اختيار إلهي له، ولا يحظى في إدارته لشئون البلاد بتفويض إلهي، وإنما يتولى المنصب عن طريق الاختيار من أهل الحل والعقد الذين يمثلون مجموع الشعب، فيكون وصوله لمنصبه نابع من الإرادة الشعبية الحرة، والمسلمون بعد ذلك مدعوون لمراقبة الحاكم لمعرفة مواضع إحسانه وإساءته، فيعان في الحالة الأولى ويحتسب عليه في الحالة الثانية، مع إمكانية عزله إذا لم يستقم على الجادة.

والمفردة الإسلامية التي تدل على أغلب ما تقدم هي لفظ الشورى، فهي مفردة إسلامية نقية من شوبها بأي شائبة، وقد دلت عليها النصوص من الكتاب والسنة، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد معركة أحد وما كان من نتائجها: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]. فهو أمر إلهي لسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه في الأمر، والمسلمون تبع له في ذلك، فالأمر بالمشاورة نفي لاستبداد الحاكم برأيه حتى لو كان أجود الناس رأيًا.

فإن الاعتراف بإنسانية الشعب وكرامته، وأنه له الحق في المشاركة في شأن الأمة تأبى إهماله وعدم الالتفات إليه وعدم مشاورته، فكانت شورى الشعب أصلاً في تقديره وعدم إهماله، والاعتراف بحقه في المشاركة بالرأي فيما يعود على الأمة بالخير، وقد أغنى الله نبيه عن رأي أصحابه وإنما أمره بذلك ليستن به من يأتي بعده من ولاة الأمر، وحتى لا يشعر الحاكم بالغضاضة من الرجوع إلى الشعب، والأمر المطلوب الشورى فيه هو الشأن العام الذي يتعلق بأمر الأمة في عمومها، مما يعود عليها بالخير أو يدفع عنها الشر.

وقد قال الله تعالى: {..وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ..} [الشورى: 38]. وهي جملة خبرية تقريرية تبين أنهم يدبرون شأنهم العام بالتشاور فيما بينهم، وقد فهم ذلك الخليفة الملهم عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- وعلم أن أمر الأمة لا يمكن الاستبداد به، ولا اغتصابه من قبل فئة من الناس، بل هو أمرهم لا يقضي فيه بقول فرد أو طائفة منهم مع إقصاء الآخرين، فأطلق قولته الشهيرة: "إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم" ثم قال: "من بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين، فلا يتابع هو ولا الذي بايعه، تغرة أن يقتلا".

فبين أن ولاية الأمر لا تكون غصبًا وإنما تكون عن شورى المسلمين، فما بقي في الديمقراطية من خير إلا ودلت عليه الشورى مع الصفاء والنقاء، والبعد عن الاختلاط بأمور الفساد والضلال، ومن ثم فإن التعبير عن المضامين الشرعية فيما يخص المسائل التي تقدم الحديث عنها بالشورى هو الذي ينبغي أن يعول عليه، وأن نفشيه في كلامنا، وعلينا أن نهجر لفظ الديمقراطية ولا نلتفت إليه حتى نميته في حديثنا ومن ثم لا يلتفت إليه.
 

المصدر: مجلة البيان

محمد بن شاكر الشريف

باحث وكاتب إسلامي بمجلة البيان الإسلاميةوله عديد من التصانيف الرائعة.