التعارف الرباني

منذ 2013-02-11

كان حرص الإسلام واضحًا على أن يتودد المسلم لغيره من الناس بالتعرف إليهم، فالتعرُّف والتعارف خطوة على طريق الأُخُوَّة الصادقة التي بها تنصلح الأحوال، وأمامها تهتز المصاعب والجبال، وبدونها لا تقوم لأمة الإسلام قائمة.

 

ماذا نقصد بالتعارف الرباني؟


1ـ هو الذي يقوم على غير أرحام ولا أنساب ولا قرابات تجمع المتعارفين.
2- هو الذي يكون لله خالصًا، ومن المنفعة الشخصية مُتخلِّصًا ومُتبرِّئًا.
3- هو الذي ينطلق من نبع القرآن العظيم: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].

4- هو ما يدعو صاحبَه للدُّعاء لمن تعرف إليه عن ظهر قلب بالغيب حبًّا خالصًا.
5- هو ما يجعل صاحبَه يكون على الدوام متلهفًا ومتشوقًا لرؤية من تعرَّف إليه.
6- هو الذي بفضله يجعل الله المتعارفين فيه يومَ القيامة على منابرَ من نور يغبطهم النبيون والشهداء.

7- هو ما كان لله وحدَه، فكان لزامًا أن يدوم ويتصل.
8- هو ما قيل فيه على لسان معلم الناس الخيرَ محمدٍ: من السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يومَ لا ظِلَّ إلا ظله: «...رجلان تحابَّا في الله، اجتمعَا عليه وتفرَّقَا عليه» (صحيح البخاري: 1423). وما التحابُّ إلا ثمرة من ثمرات التعارف الجميل.

9- هو ما يتحقق به الخير، وتدوم به السعادة، وتنشرح به الصدور
10- هو ما يجعل المتعارفين كالجسد الواحد، يشعرون بالهمِّ في آنٍ واحد، ويستلهمون الرضا من الرب الواحد.
11- هو ما تُذاب به الهموم، وتُحل به المشاكل، وتُنوَّر به البصائر، وترتاح به النفوس.
12- هو ما يحقق للمتعارفين ما لم تحققه صلة الدم والقرابة.
13- هو ما ينوي صاحبه به أن يجعله لله قربى، ونحو الجنة سبيلاً وطريقًا.

التعارف يُحبه الله ورسوله:


إن روعةَ الإسلام وجماله جعلت منه دينًا شاملاً يبحث في كل ما من شأنه إشاعة الحبِّ والمودة، والانسجام، والأُنس بين عباد الله، لأنَّه إذا تَحقق ذلك الأُنس، وتوهَّجت تلك المودة في قلوب العباد بعضهم ببعض: فإن النِّتاج لا شَكَّ لن يكون إلا مُجتمعًا صالِحًا، للحق مُتَّبعًا، وبالقرآن مُنتهجًا، وللسنة مُحبًّا ومُتبعًا، وبالعقيدة الصحيحة معتقدًا، وللسلف الصالح وصحابة الرسول مسترشدًا ومحبًّا.

لهذا كان حرص الإسلام واضحًا على أن يتودد المسلم لغيره من الناس بالتعرف إليهم، فالتعرُّف والتعارف خطوة على طريق الأُخُوَّة الصادقة التي بها تنصلح الأحوال، وأمامها تهتز المصاعب والجبال، وبدونها لا تقوم لأمة الإسلام قائمة.

وقد حَرَصَ المنهج الرباني في القرآن الكريم على ذلك أشدَّ الحرص، حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].


كما أن من أول ما حرص عليه سيدنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم عند تأسيسه للدولة الإسلامية في المدينة المنورة -زادها الله نورًا- كان حريصًا على تَحقيق الأُخُوة والمؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين لتحقيق التعارف المتين، إيمانًا منه صلَّى الله عليه وسلَّم، واعتقادًا بأن التعارف والتآخي بين أفراد الصف المسلم سيكون اللبنة الأم والقوية، والأولى نحو تحقيق الغايات وإرساء دعائم القوة والمتانة للدولة المسلمة.

فدينُ الإسلام دينٌ عظيم له من الأسس الهامة التي يرتكز عليها ويدعو لها، وهي الحب والتعارف والتآخي بين أفراد المسلمين، وهذا من شأنه أن تتكسر القيود، وتنصهر الأرواح، فتكون كالنفس الواحدة. (فالأرواح جنودٌ مُجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف).

نحو تعارف رباني:


ونريد هنا أن نصوغ بعضَ المفاهيم نحو تعارف يستحق صفة الربانية، حتى تتحقق الخيرية في العباد المتعارفين.

1- هل هناك بالفعل داخل مجتمع المسلمين ما يسمى تعارفًا صحيحًا قويًّا متينًا، أو أنه مفهوم نظري أكثر مما هو واقعي وعملي؟

2- هل التعارفُ والحب يعني الرُّقيَّ الأخلاقي، والمحافظةَ على ذوقيات التعامل بين الناس، أو أن الحب والتعارف يعني عدمَ مراعاة الشعور، وعدم احترام الآخرين، وعدم المبالاة براحتهم وإسعادهم؟

3- هل يصحُّ لمجتمع المتعارفين والمتحابِّين أن يكون بينهم أهوجُ التصرف، وقليلُ الذوق، وعديم الإحساس، وبطيء الإغاثة، ومُتبلِّد الشعور، وشديد المعاملة، وبَخيل اليد؟

4- هل الحبُّ والتعارف يعني عدمَ احترام الصغير للكبير، وعدمَ استيعاب الكبير للصغير، أو أن الله قد رفع بعض الناس على بعضهم درجات، ليتخذ بعضهم بعضًا سُخرِيًّا، وأنَّ كلاًّ منا مُيسر لما خُلِق له؟

5- هل الحب والتعارف يعني طرْق الأبواب، والاتصال بالتليفون في مواعيد راحة يحق للمسلم أن يستمتع بها، حتى يستطيع المعاودة لمزاولة نشاطه وحياته؟

6- هل من الحبِّ والتعارف أن يقترض الناسُ بعضُهم من بعض، ثم يتردَّدون في ردِّ الحقوق، ويتباطؤون للدرجة التي يصبح فيها الْمُقرِض مُستغربًا دَهِشًا، بل قد يصبح على ما أقرضه نادمًا؟


7- هل من الحب والتعارف أن يغلب القولُ على العمل، وتغلب الفلسفات على الحق والحقيقة؟


8- هل من الحبِّ والتعارف أن يتصلَ المتعارف بالمتعارف إليه ويسأل عنه، ويبعث له الرسائل على المحمول والجوال، ثم لا يجد تبادل المعروف والإحسان على الأقل بمثله، مصداقًا لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]. أو أن المتعارف إليه سيظلُّ دائمًا ظلومًا لغيره كفَّارًا بنعمة حُبه له واتصاله به، وسؤاله عنه بذوقه الرفيع؟


9- هل من الحب والتعارُف أن يفتقد المتعارفون بعضُهم بعضًا عند مرض أحدِهم ومحنته، وتغيُّر أحواله وشدة بأس ظروفه؟


10- هل من الحب والتعارف أن تنسى الجميل، وتُنكر المعروف، وتَفجُر عند الخصومة؟


11- هل من الحب والتعارف أن تخلف الموعد دون أن تكلِّف نفسك بالاتصال، لتعتذر عن موعدك أو تأخرك عنه؟

خاتمة:


اللهم أنت الباقي بلا زوال، الغني بلا مثال، القدوس الطاهر العلي القاهر نسألك بأسمائك الحسنى ما علمنا منها وما لم نعلم أن تغفرَ لنا وللمسلمين، وترحمنا والمسلمين أجمعين، اللهم إنا ببابك واقفون فلا تطردنا، وإياك نسأل فلا تخيبنا، اللهم ارحم تضرعنا والمسلمين جميعًا، وآمن خوفنا، وتقبل أعمالنا، وأصلح أحوالنا، واجعل بطاعتك اشتغالنا، واختم بالسعادة آجالنا، اللهم هذا ذُلُّنا ظاهرٌ بين يديك، وحالنا لا يخفى عليك، أمَرْتَنا فتركنا، ونهيتنا فارتكبنا، ولا يسعنا إلا عفوك فاعفُ عنا، إنك عفوٌّ رؤوف رحيم، وصَلِّي اللهم على نبينا محمد طِبِّ القلوب ودوائها، وعلى آله وصحبه وسَلِّم.
 



نبيل جلهوم
عضو رابطة أدباء الشام ـ لندن