والوفاء له رجال
التمس لأخيك عذراً...
أخ عزيز وصديق قديم، انقطعت عنّي أخباره أكثر من ثلاثين عاماً، حتّى ظننت أنّه أصبح من أهل الآخرة... ثمّ فوجئت باتّصاله عبر (الفيس)، وإنّ الفيس نعمة لا تقدّر... فاطمأننت عنه، وحمدت الله تعالى على أن متّعه بطول العمر والصحّة والعافية، ولو لم ييسّر تباعد الديار لقاءه..
عِلمي به أنّه صديق ودود لم تعكّر صفو العلاقة به الأيّام، ولم يُنسِه الودَّ تقلّبُ الزمان، وأنا اليوم ألتمس له العذر عن عدم التواصل، ويلتمس لي الأعذار، وكلّما جمعتنا صفحات (الفيس) في لقاء عابر، نجدّد عهدنا القديم، وتعود بنا الذكريات بالنفس إلى الأيّام الخوالي، ويعدني بالزيارة قريباً، وتمرّ الأيّام ولا يزور..
واتّصلت به لأزوره، وقد أصبحت قريباً من دياره، فاعتذر عن الزيارة!
ففوجئت أوّلاً، ثمّ قلت: لعلّ له عذراً، وأنت تلومُ.. ثمّ وعدني بالزيارة قريباً ولم يزرني، ولم يتّصل! فالتمست له العذرَ مرّة أخرى..
وأنا أرى بصدق أنّ حبل الودّ بيننا أوثق الحبال، فلا أزال ألتمس له الأعذار تلو الأعذار، ولا أعلم شيئاً عن أعذاره وخفايا أمره، ثمّ علمت من بعض ذوي قرابته أنّ زوجته مريضة، وأنّه مشغول بمرضها، فاتّصلت به أواسيه، وأسأله عن مرضها، فما زاد على أن قال: نعم، إنّها مريضة، ودعواتكم لها بالشفاء والعافية..."، وحاولت أن أقتحم أسوار الأسرار، فتحفّظ وما زاد على ما قال، وكرّر طلب الدعاء...
وفوجئت بخبر وفاة زوجته، فذهبت إليه معزّياً، ويا للعجب! لقد علمت يومها أن زوجته كانت مريضة منذ أكثر من خمس سنوات، وأنّه كان يقوم على خدمتها بنفسه، فلا أحد من أهلها أو أولادها قريب منها، وكان لا يعلم بذلك إلاّ خاصّة القريبين منهما...
فقلت في نفسي: الحمد لله، أنّي لم أسئ الظنّ بصاحبي أوّلاً... والحمد لله على ما تعلّمت منه من الوفاء ثانياً، والحمد لله على ما رأيت من صاحبي من إيثار الستر، وكتم السرّ ثالثاً، وحقّاً! إنّ الوفاء له رجال، فطوبى للأوفياء..
وما أحسنَ ما قالَ الشاعر:
سَألتُ الناسَ عَن خِلّ وَفيّ فقَالُوا: مَا إلى هذا سَبيلُ
تمسّك إن ظَفِرتَ بذَيلِ حُرٍّ فإنّ الحرَّ في الدنيا قَليلُ
ورفقاً بنا أيّتها النساء! لا تظلمن الرجال، فتقلن: "ليس فيهم أوفياء"، وأعِنّ الرجال أن يكونوا أوفياء، ولكنّ هذه الخلائق التي أصبحت من الندرة بمكان في هذا الزمان، في الرجال وفي النساء تحتاج إلى نوع خاصّ من التربية والتعهّد، والغرس والرعاية، من رجال يربّون بأخلاقهم قبل أقوالهم، في وسط مجتمعات غلبت عليها المادّيّة، وسادت فيها خلائق النفعيّة، وتمكّنت فيها الأثرة وتقديس الذات، حتّى أصبح لسان حال كلّ إنسان: نفسي! نفسي! وأصبحت أوثق العلائق تقطع بأتفه الأسباب.. وإذا تقرّب إليك متقرّب اكتشفت بعد أيّام أنّ له مصلحة مادّيّة سرعان ما ينساك إذا نالها!
إنّ الوفاء أيّها الناس! سرّ من أسرار السعادة النفسيّة، والأمن الأسريّ والاجتماعيّ، ولا يعرف ذلك إلاّ من عرفه وذاقه!
وصلّى الله وسلّم وبارك على خاتم الأنبياء سيّد الأوفياء، معلّم الرجال والنساء: كيف يكون الوفاء.
عبد المجيد البيانوني 28/3/1434 هـ
- التصنيف:
- المصدر: