الإذعان للقرآن

منذ 2013-03-10

لقد أنزل الله سبحانه وتعالى كتابه أحسن الحديث تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، أنزله سبحانه وتعالى ليكون مؤثراً في قلوب المؤمنين، فإذا استمعوا له أخبتت قلوبهم، وإذا قُرأت عليهم آياته خروا سجداً وبكياً، ومع هذا، فالقرآن له الأثر الكبير حتى في نفوس المشركين، فقد جعل بعضهم يستمع إليه خلسة، ويعترف بأنه يعلو ولا يعلى>>


لقد أنزل الله سبحانه وتعالى كتابه أحسن الحديث تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، أنزله سبحانه وتعالى ليكون مؤثراً في قلوب المؤمنين، فإذا استمعوا له أخبتت قلوبهم، وإذا قُرأت عليهم آياته خروا سجداً وبكياً، ومع هذا، فالقرآن له الأثر الكبير حتى في نفوس المشركين، فقد جعل بعضهم يستمع إليه خلسة، ويعترف بأنه يعلو ولا يعلى، وعندما سمع جبير بن مطعم قبل أن يسلم قول الله عز وجل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، كاد قلبه أن يطير، ولما سمعته الجن قالت: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1]، فكيف بنفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأه ويدارس جبريل في رمضان كل ليلة هذا القرآن؟

ولذا كانت قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوعية العلم، تختزن القرآن: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: من الآية 49]، أيها المؤمنون! لو أنزل الله القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، فبالله عليكم كيف سيكون تأثيره في قلوب المؤمنين التي هي أعظم تأثراً من الحجارة والجمادات بلا ريب.

ومن هنا كان تأثير القرآن في قلوب الأسلاف عظيماً، فكانوا يقفون عند حدوده، يحركون به القلوب، يؤمنون بمتشابهه، ويعملون بمحكمه، ولذا كان الصحابة إذا سمعوا هذا ا?قرآن عملوا به؛ الصديق  رضي الله عنه  لأجل آية في كتاب الله أعاد النفقة إلى مسطح وهو قريبه، مع أنه كان قد آذى ابنته عائشة رضي الله عنها  ولكنه أذعن لقول الله: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور:22].  

وعندما كان عمر رضي الله عنه خليفة، وجاءه ذلك الرجل الذي به سفه، يقول: يا ابن الخطاب ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل، فأراد أن يفتك به، فتلا عليه أحدهم قول الله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وقف عمر فلم يفتك به؛ لأجل هذه الآية، لما قيل له وهذا من الجاهلين، فأعرض عنه امتثالاً لأمر الله عز وجل.

وعندما نجد الآيات التي فيها التذكير بما يكون يوم القيامة للذين يتعبون أنفسهم بالعمل وعم على ضلال، فيمر عمر رضي الله عنه وكان قد ذهب إلى الشام نسأل الله أن يرفع البلاء عن الشام مر بصومعة راهب، فناداه، فأطل الراهب، فنظر عمر في وجه رجل قد أضر به كثرة العمل والسهر والتعب، والتنسك والرهبنة فبكى عمر رضي الله عنه، فقيل له: ما يبكيك هذا رجل مشرك، من الذين يقولون: لله ولد وله صاحبة، فقال عمر رضي الله: ذكرتُ قول الله: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ . تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:3-4].

كان السلف إذا مرّ الواحد منهم بآية السجدة: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} يعاتب نفسه إذا لم يبك ويقول: هذا السجود فأين البكاء.

وهكذا نجد امتثالهم وتفاعلهم مع القرآن، ابن عباس رضي الله عنهما لما كان في طريق سفر فجاءه خبر موت ابن له أو أخيه، أوقف دابته، ونزل على جنب الطريق، وصلى ركعتين، ثم قال: فعلنا ما أمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153].

أيها المسلمون! لم يكن الامتثال خاصاً بالرجال فإن زينب رضي الله عنها  لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُزوِّجها لزيد فتمنعت لأنها قرشية حُرّة وذاك مولى، لكن لما نزل قول الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، وافقت وتزوجت زيداً.

أيها المسلمون! تبقى آيات القرآن في نفوس المؤمنين لها شأن، وهي تدفع إلى خير وتمنع من شرّ، وتزيد الإيمان، تبقى هذه الآيات في ?فوس المؤمنين لها شأن عظيم في تقريبهم من الله، وإحياء قلوبهم بالذكر، وثمار الأعمال الصالحة التي تظهر بعد أن تستقر آيات الوحي في القلوب، آية مثل قول الله  عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، كانت كافية جداً أن تردع شاباً أغوته فتاة فذهب إليها، فلما كان في منتصف الطريق رجع لما تذكر هذه الآية.

اللهم إنا نسألك أن تُحيي قلوبنا بالقرآن، اللهم اجعلنا من أهل القرآن يا ربّ العالمين، اللهم انفعنا به وارفعنا به يا أرحم الراحمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين أشهد أن لا إله إلا هو ولي المتقين، أكبره تكبيراً، وأشكره ولا أكفره، وأخلع كل من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا هو حقاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صدقاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وخلفائه وذريته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله: الآيات ليست فقط في أمور العقيدة، والواجبات، والمحرمات، والعبادات، بل حتى في الآداب، والأخلاق، لما تعثرت أمة وبيدها إناء المرقة الحار، تعثرت عند رأس سيدها فانسكب الإناء عليه بما فيه من المرقة الحارة فماذا تظنون أن يفعل الواحد منا لو كان في مكانه! لكن ذلك الرجل الواقف عند حدود القرآن لما انسكبت المرقة الحارة عليه، وقامت تلك الأمة مذعورة مما يمكن أن يقع عليها، وتذكرت آية قالت لسيدها وهي متلعثمة معتذرة خائفة تقول: سيدي {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} قال: قد كظمتُ غيظي، قالت: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} قال: قد عفوتُ عنكِ، قالت: {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: اذهبي فأنتِ حُرّة لوجه الله..

هذا تأثير الآيات في النفوس، هكذا يجب أن يكون وقع القرآن على قلوبنا، هكذا ينبغي أن نحيا بالقرآن. وهذا رجل كان خاله مدمن خمر يتأول أشياء، كما يفعل بعض الذين يفلسفون معاصيهم، فكان خاله عنده يوماً، وهذا الرجل يقرأ القرآن فمر بقول الله  عز وجل  ورفع صوته بها: {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال:37]. وهذا الرجل كان من الذين يجادلون في تحريم الخمر، فقال: يا خال يقول الله: ليميز الله الخبيث من الطيب فإذا ميَّز الله الخبيث من الطيب يوم القيامة فيا ترى أن يكون هذا الشراب في قسم الخبيث أو في قسم الطيب؟ فنظر وتفكر ثم قال يا بني: امض إلى المنزل فاصبب كل شيء فيه أرقه، فلم يشربها حتى مات.

وهكذا يقال اليوم يا عباد الله لمن يجادلك في تحريم أي ?مر، قل له: أين سيكون ما تفعل يوم القيامة، مع الطيب أم مع الخبيث؟ يا إخوتي: نحن نحتاج اليوم إلى فقه كثير في القرآن، نحن نحتاج اليوم أن نقرأ القرآن، وأن نتلو القرآن حق تلاوة، ليس القضية مجرد إمرار اللسان بحروف القرآن، ليست المسألة فقط إنهاء ختمة وراء ختمة، ليست القضية فقط التجويد والتحفيظ، مع علمنا بوجوب التجويد وعظيم فضل الحفظ، لكن القضية الفقه والفهم، إذا سألنا اليوم أكثر المسلمين عما يقرؤونه في الصلاة من السور لقالوا: نقرأ قصار السور، فإذا سألتهم ما معنى الصمد، وما معنى الخناس، وما هو الغاسق، وما معنى وقب، لتوقف الكثير منهم لا يدرون جواباً، فتقول: هذه السور التي أنت تقرأها غالباً في صلواتك ولا تعرف معنى ما فيها، فضلاً عما هو في طوال السور! فوا أسفاه! ووا خجلاه! من قوم أنزل الله عليهم كتاباً وجعله بلغتهم، ثم لا يفهمونه! فأي عيب أشد عيباً من هذا؟ ولذلك لا بد من التفسير ومعرفة المعنى، لو تأخذ فقط التفسير الميسر يبين لك المعنى الإجمالي للآية، ومعاني الكلمات الصعبة، أو تكون هناك حلق مدارسة؛ ونحن نعلم أن السكينة والرحمة والملائكة تنزل على قوم قعدوا يدرسون ويتدارسون كتاب الله فيما بينهم، كل واحد يخبر الآخرين بما قرأ في التفسير، فيستخرجون الفوائد، وينظرون كيف يعملون به، وكيف يستفاد من الآيات في الواقع، والانطباقات المدهشة لآيات القرآن على أحداث الواقع، والتجدُّد العجيب الموجود في القرآن الذي نراه دائماً وباستمرار في أي حادثة تحدث في الأرض، ترى آيات في القرآن بشأنها: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام:38]، ثم استجابة لنداء ربنا في القرآن سنصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم..


 

محمد صالح المنجد

أحد طلبة العلم والدعاة المتميزين بالسعودية. وهو من تلاميذ العالم الإمام عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه.