الحق قبل الأحزاب والأشخاص

منذ 2013-03-12

لا يجادل مسلم في أحقية النصوص الشرعية بالحكم على أفعال الإنسان وأحواله دون غيرها، وأنها سابقة قبل الأفكار والأحزاب والأشخاص، وهي الحاكمة الفاصلة في كل الأمور الحياتية الخاصة بالمسلم، وقد جاءت لحظة الاختبار الحقيقي لهؤلاء العاملين في الأحزاب والجماعات؛ لينظر الله عز وجل ماذا يفعلون؟ وهل سيوالون ويعادون لأجله، أم لأجل الأحزاب والأفكار والأشخاص؟


لا يجادل مسلم في أحقية النصوص الشرعية بالحكم على أفعال الإنسان وأحواله دون غيرها، وأنها سابقة قبل الأفكار والأحزاب والأشخاص، وهي الحاكمة الفاصلة في كل الأمور الحياتية الخاصة بالمسلم، وقد جاءت لحظة الاختبار الحقيقي لهؤلاء العاملين في الأحزاب والجماعات؛ لينظر الله عز وجل ماذا يفعلون؟ وهل سيوالون ويعادون لأجله، أم لأجل الأحزاب والأفكار والأشخاص؟

وعلى إخواننا هؤلاء الانتباه لقلوبهم جيدًا؛ لأنه لا يجوز لهم ولا لغيرهم المعاداة والموالاة على أساس الحزب أو الشخص أو الطائفة أو الفكرة، وفي هذا يقول ابن تيمية: "فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله، وما اتفقت عليه الأمة؛ فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته، ويوالي عليها ويعادي غير النبي صلى الله عليه وسلم، وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرقون به بين الأمة، يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون" (درء التعارض:1/272).

فالموالاة والمعاداة إنما تكون للحق وفي الحق، لا غيره من الأمور، فمن والى أو عادى لحزب أو طائفة فقد خرج عن المسار، وعليه الرجوع للحق؛ لأنه الأصل القديم المستقر، وما أروع ما قاله الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ولا يمنعك من قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه نفسك، وهُدِيت فيه لرشدك، أن تُراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، ولا يُبطل الحق شيء، وإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل" (تاريخ المدينة لابن شبة: 2/775، جامع بيان العلم: 2/920، مسند الفاروق: 2/547، إعلام الموقعين: 1/86).

فلا بد أن نطلب الحق دائما أبدًا، أولًا وآخرًا وفي كل وقت، فمن أخطأ فليرجع للحق سريعًا، وليحذر التمادي في الباطل، وليأخذ من سادتنا وأئمتنا قدوة له في سرعة رجوعهم للحق، وخضوعهم له بنفس راضية مطمئنة، وقد قال عبد الرحمن بن مهدي: "الإنصاف لا بأس به" (تقدمة الجرح والتعديل: 78)، ورجع مالك عن قوله في مسألة وقال علانية: "القول ما قال أبو عمرو" -يعني الأوزاعي- (التقدمة:185). وقال الوليد بن مزيد، وعقبة بن علقمة: "ما رأينا أحدًا أسرع رجوعًا إلى الحق إذا سمعه من الأوزاعي" (التقدمة: 203).

ورجع عبد الرحمن الأصبهاني لقول أبي زرعة، وكتب يقول لأبي زرعة: "فإنك في ذلك مأجور إن شاء الله، والعار خير من النار" (التقدمة336)، ولما أخطأ محمد بن مسلم في مسألة قال: "نعم غلطنا فكان ماذا؟!" (التقدمة: 337)، وأخطأ أبو نعيم الفضل بن دُكين في حديث ونبهه يحيى بن معين فقال أبو نعيم: "إنا لله وقعنا فيه؛ فتركه" (تاريخ الدوري: 2680).

وأخطأ يحيى بن عبدك في أحاديث، فلما كتب إليه البرذعي بالصواب؛ كتب يحيى يقول له: "لا جزى الله الوراق عني خيرًا، أدخل لي أحاديث المعلى بن أسد في أحاديث مسدد، ولم أميزها منذ عشرين سنة حتى ورد كتابك، وأنا أرجع عنه"، قال البرذعي: "فقرأت كتابه على أبي زرعة فقال: هذا كتاب أهل الصدق" (سؤالات البرذعي: 2/579- أبو زرعة وجهوده).

وما أجمل ما قاله التابعي النبيل العابد خالد بن معدان: "من اجترأ على الملاوم في موافقة الحق رد الله تلك الملاوم حمدًا، ومن التمس المحامد في مخالفة الحق رد الله عليه تلك المحامد ذمًا" (الزهد لأبي داود (513)، تاريخ دمشق (16/200).

وذكر ابن حبان رجلًا كان ينصر السنة لكنه تورط في وضع الأحاديث، فلم يسكت عنه ووجه إليه الاتهام، ثم قال ابن حبان: "فلم يمنعنا ما علمنا من صلابته في السنة ونصرته لها أن نسكت عنه، إذ الدين لا يوجب إلا إظهار مثله فيمن وُجد، ولو جئنا إلى شيء يكذب فسترناه عليه لصلابته في السنة فإن ذلك ذريعة إلى أن يُوثَّق مثله من أهل الرأي، والدين لا يوجب إلا قول الحق فيمن يجب" (المجروحون:1/161).

فالدين يمضي علينا جميعًا، ويحكم فينا دون تفرقة، وكلنا أمام الإسلام سواء، والسعيد من إذا أخطأ رجع ولم يستكبر، نبراسنا في ذلك: قوله سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

فاتقوا الله في الإسلام، اجعلوه إمامكم وهاديكم، يحكم فتطيعون، ويأمر فتستجيبون عن رضا ومحبة، والله الهادي.