الإصلاح بين الناس
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا بلى يا رسول الله قال: «إصلاح ذات البين»
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي نزّل الكتاب، وهو يتولى الصالحين أحمده سبحانه أمر بالإصلاح وبشر فقال: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ} [الأعراف: من الآية 170] ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم المفسد من المصلح، ولا يصلح عمل المفسدين: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المصلحين وقدوة العاملين المخلصين صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد، عباد الله:
الإسلام دين الإصلاح الكامل الشامل لجميع نواحي الحياة في الأسرة وفي المجتمع وفي كل ما هو ضروري.
الإسلام إصلاح مبني على عقيدة سليمة، إصلاح قائم على حب الله وحب رسوله وصدق الله العظيم: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام: 48]، أمة الإسلام أمة اهتدت جوارحها إلى الخير فصار الخير والإصلاح طبعها وعرفت الحق سلوكاً واتباعاً فكان النجاح رائدها واستولى الإيمان على قلوب أبنائها فكان كل ما يصلح دنياها وأخرها طريقاً لها وسبيلاً وهنا يضمن لها الإسلام سلاماً وأمنا وعزَّاً ونصراً وحياة حرة كريمة.
إن سُبل الإصلاح كثيرة وكل مسلم يُطلب منه أن يساهم بما يستطيعه منها فالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم النافع من أعظم سبل الإصلاح ووجود من يقوم بذلك في الأمة أمان لها من العذاب أو ما سمعتم قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود من الآية 117].
إن الاختلاف بين الناس والخصومة فيما بينهم أمر واقع وله أسباب كثيرة منها الشيطان الذي يعدهم الفقر ويأمرهم بالفحشاء، والنفس الأمارة بالسوء، والهوى المضل عن سبيل الله، والشح المهلك، والنميمة المفسدة، واشتباه الأمور والشكوك والأوهام، إلى غير ذلك من الأسباب التي تجتمع حيناً وفي كثير من الأحيان تفترق فينتج عنها الخلاف وتعظم الفتنة ويُجلب الشيطان بخيله ورجله فيفرق بين المحب وحبيبه والقريب وقريبه والصاحب وصاحبه والنظير ونظيره بل وفي بعض الأحيان بين الوالد وولده والزوج وزوجته وبين الإخوة.
وهنا إما أن تغرق السفينة، وذلك بسوء التصرّف والتطاول بالكلام وفاحش القول بل والاعت?اء بالأيدي وإما أن يقيض الله للسفينة قائداً محنكا فيخوض البحر رغم الرياح العاتية ويصل بها بإذن الله إلى شاطئ السلامة بدل أن تلعب بها الرياح يمنة ويسره فيحدث الضرر العاجل ومن ثم العقاب يوم اللقاء بالحكم العدل.
معشر المسلمين:
إذا كان الاختلاف بين أفراد المجتمع المسلم بل بين أفراد الأسرة الواحدة ينتج عنه الهجر والقطيعة والإثم وسوء الظن والكذب والبهتان واستحلال الحرمات وانتهاك العورات وذهاب الحسنات وانتظار العقوبة. إذا كانت هذه آثار الخلاف والخصومة فمن الذي يعلم ذلك ولا يسعى بالإصلاح قدر جهده وطاقت. إن من يؤمن بالله واليوم الآخر يجب عليه السعي قدر استطاعته وليس ذلك تفضلاً منه أو نافلة بل هو من أوجب الواجبات عليه سيما إذا كان من أهل العلم والفهم والعقل والقدرة على لم الشمل وتوحيد الصف وتدارك الأمر.
روى الإمام أحمد وغيره بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا بلى يا رسول الله قال: «إصلاح ذات البين»، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شرّ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلح بينهم في أُناس معه حتى كادت تفوته الصلاة بسبب ذلك.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
هذا توجيه للمجتمع المسلم بتدارك الأمر قبل استفحال الشرّ، وقبل تدخل أصحاب السوء ممن يصطادون في الماء العكر من المنافقين، ومنهم على شاكلتهم، ولقد كان المسجد هو ندوة الجماعة المسلمة من سلف الأمة تتلاقى فيه، وتجتمع للصلاة ولتدارس شؤون الحياة، وكان المجتمع إذ ذاك مجتمعاً مفتوحاً تُعرض مشكلاته عرضاً عاماً على أهل الحل والعقد ممن لهم القدرة في وضع الأمور في نصابها، ولم يتطاول على هذا المجتمع إلا الذين يأتون البيوت من غير أبوابها، ويتسلقون على أكتاف الآخرين، ويزرعون الفتنة لكنهم لا يُواجهون؛ لأنهم كالخفافيش لا تظهر إلا في الظلام أولئك هم السوس في جسم الأُمّة وعلى العقلاء والغيورين والمصلحين الحذر كل الحذر من هؤلاء أما أهل الخير والصلاح ودعاة الفضيلة فهم الذين يقودون المجتمع للخير ويرسمون له طريق الفلاح، ويتسابقون لسد أي ثغرة قد تطفو في السطح قبل أن يستغلها الشيطان وأعوانه من البشر أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَم?رَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 114].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون فاستغفروا الله يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربّ العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين صلى الله عليه وعلى آله ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، إخوة الإيمان:
ومن أجل عظيم منافع الإصلاح بين الناس رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الكذب الذي يثمر الصلح فقال: «ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس فيُنمّي خيراً أو يقول خيراً» (متفق عليه).
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وأصلحوا بين إخوانكم عند الاختلاف وتواسطوا بينهم عند النزاع والبغي، ولا سيما قراباتكم ولا تتركوهم للشيطان وقرناء السوء يُضلّونهم عن سواء السبيل ويهدونهم طريق الجحيم، أصلحوا بينهم تحفظوا عليهم دينهم، وتصونوا حقوقهم وتزرعوا المودة والألفة في قلوبهم.
والمجتمع المسلم مليء بالمشاكل والمصائب، فكثيراً ما تفرّقت بيوت بسبب عرضٍ زائل أو تنافسٍ على متاع لا يساوي شيئاً بل كثيراً ما ابتعد الابن عن أبيه والأخ عن أخيه، وتفرّقت أُسر بعد كادت مجتمعة وحقد بعضهم على بعض بعد أن كان يخدم بعضهم بعضا، وكل ذلك بسبب الطمع والجشع وغياب العقل الراشد وابتعاد المصلح من الناس.
استمعوا إلى هذه القصة التي عايشتها بنفسي: (في الإجازة الصيفية جاء إليَّ أب يشكو ولده الكبير وكلما أراد أن يتكلّم انهمر بالبكاء فعجز عن الإفصاح عما يُريد فطلبت منه أن يذهب ويعود لي مرة أخرى،
فقال: لا لن أذهب حتى أبثَّ شكايتي لعلك تساعدني في حلها، وبعد أن هدأ بدأ يذكر قصته مع ولده الذي رباه منذ الصغر وعلمه وأدّبه ثم أعطاه مفاتيح أمواله هنا وهناك؛ ليتجر بها الولد حتى أصبح له اسمه ومكانته في السوق وبعد ذلك أثّر عليه رفاق السوء فأخذوا يقولون له: أنت تتعب وتكدح وغداً سيُقاسِمُك إخوانك الصغار وهكذا حتى وقع في نفسه فجاء ليُقاسم أباه المال.
يقول: الأب ولما طلب مني ذلك لم أُبيّن له شيئاً، وقلتُ له: إن شاء الله بعد حصر الأموال.
ثم قال لي الأب: وما رأيك؟
فقلتُ له: أحضر ابنك معك، ويكون خيراً إن شاء الله فجاء في يوم لاحقٍ مع ابنه وتحدّثتُ معهما بحديث مُطوّل تخللته موعظة عامة ثم انفردت ب?لابن وخوفتُه بالله، وذكرتُ له أنه وما ملك لأبيه، وقلتُ له: لو قسمتُ بينكم لقلتُ لك: أخرج بثيابك فكل ما في يدك لوالدك؛ لأنك لم تملك شيئاً استقلالاً، ذكرتُ له أن ما يصنعه بأبيه سيصنعه بنوه به، وهو يجمع المال لهم، وأن قاعدة الإسلام العامة "بِرُّوا أبائكم تبرّكم أبناؤكم".
وذكرتُ له نماذج ممن نعايشهم من البارين بأبويهم وكيف معاملة أولادهم لهم ونماذج ممن عرفوا بالعقوق، وكيف يعاملهم أبناؤهم ثم انفردت بالأب وأوصيته بالصبر والتحمّل، وعدم الدعاء على الأولاد، وأخبرته أنه بأسلوبه يستطيع أن يجعل بنيه يبرونه وذلك بعدم مضايقتهم بالحديث، وتعنيفهم ثم بالثناء عليهم في بعض المجالس لأن هذا يفتح قلوبهم، ويقربهم منه ثم جمعتُ الأب والابن واعتذر الابن من أبيه، وقبّل رأسه ووعد ألا يتكرر منه ما حصل، وقد سألتُ الأب بعد فترة فأثنى على ولده وقال: إن تلك الجلسة كانت حاسمة الشرّ ولله الحمد.
إخوتي في الله:
لا يحقر الإنسان نفسه في مجالس الإصلاح فكم من شخص عادي نفع الله به، وأصلح بين أُسرتين، ولمّ شمل زوجين.
ولعل أهم الأمور التي تحتاج إلى معالجة عن طريق الصلح ما يأتي:
1- الخلافات الزوجية، وهي كثيرة في هذه الأوقات بسبب غياب الإنصاف من النفس ولو أن المرء عامل امرأته والمرأة عاملت زوجها على أساس ما يحب كل منهما أن يعامله به الآخر لاستقامت الأحوال وتغيرت الموازين، لكن الأنانية المفرطة وحُبّ الذات يجعل الواحد منهما يطلب حقوقه كاملة، وينسى حقوق الآخر، ولنا وقفه مستقلة في خطبة قادمة إن شاء الله عن العشرة الزوجية، وما ينبغي أن تكون عليه.
2- الإصلاح بين أفراد الأسرة الواحدة خصوصاً بين الآباء وأبنائهم، والإخوة فيما بينهم، وما أكثر ما تأنُّ به البيوت من المشاكل، ومنها المستور، ومنها ما طفى على السطح، ولعل حُبّ المال ودلال الأولاد والاستماع إلى كلام النساء، وعدم متابعة البيت أهم الأسباب التي تُغذي هذه المشاكل، وتجعلها تزيد يوماً بعد يوم.
3- الإصلاح بين الشركاء فكم من شركاء دخلوا وهم أصدقاء مُتصافون، مالهم كأنه مال واحد، يتصرّف الواحد في مال أخيه وكأنه يتصرّف في ماله، ثم عصفت بهم المشاكل حتى تأزّمت فكادت تُوصلهم إلى عتبات المحاكم، فهؤلاء من أحق الناس بالإصلاح فعلى من بلغه خبر أحد منهم أن يفزع للإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيل، وعلى المتخاصمين أن يتقيا الله، وينصفا من أنفسهما، وألا يكذبا؛ لأنهما سيقفان في يومٍ عصيب أمام حكم عدْل يجازيهما بما كسبت جوارحهما، وَوالله أيها الأحباب ما تدخلت في قضية وصدق أطرافها إلا يلتقون في النهاية ويتسامحون؛ لأن رائدهم الحق، وهدفهم الوصول إلى مالهم دون تعدّ على حقوق الغير.
4- الإصلاح ب?ن الجيران ومعظم خلافاتهم حول النوافذ أو عبث الأطفال، أو يكون أحدهم متكاسلاً عن طاعة الله هو وأولاده، والآخر يؤدي واجب النصيحة فينفر منه لكن ينبغي أن يتذكر أنه غلب في الدنيا بقوة حجته، فلن يفلت في الآخرة أمام الجبار جل وعلا، وهنا اقتراح على كل أهل حي أن يكون لهم لقاء شهري، أو على الأقل سنوي، يتدارسون فيه شؤون الحي وقضاياه وخصوصاً الأولاد ومشاكلهم، ومن يأتي إليهم ويذهبون معه وبهذا تتّسع دائرة المشورة وتتلاقح الآراء والأفكار، ونصل بإذن الله إلى مستوى أفضل في توجيه الناشئة ورعايتهم.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى، والقدوة المجتبى فقد أمركم الله بذلك فقال جلّ من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وزِد وبارك وأنعم وتفضل على الحبيب المصطفى.
عبد الله بن محمد الطيار
وكيل وزارة الشؤون الإسلامية بالسعودية سابقا
- التصنيف:
- المصدر: