عندما تكون الكتابة لعبة فكرية

منذ 2006-03-26


عندما تكون الكتابة لُعبة فكرية، يفقد المجتمع جزءاً من قدراته المعرفية والأدبية، ويُزيف إطار الوعي ومدار الممارسة الثقافية التي يعايشها الإنسان في واقعه الاجتماعي، وتختلط المشكلات الصغيرة والإشكاليات الكبيرة، ويخسر -المجتمع- التسمية الدقيقة للمعطيات والظواهر والعلاقات التي تؤثر فيه ويتفاعل معها.

هنا تصبح الكتابة أداة من أدوات القهر الاجتماعي، وتُجيّر فاعليّتها لتزوير الواقع وتزييف الوعي بطبيعته، وتستخدمها الأقلية لتصوير أغلبيتها، دون وعي بالقيم التي تصادمها وفداحة تعميمها بهلاك المجتمع بأكمله.

إن الجهود التي تستهدف المجتمعات المسلمة لا تكفي لتحديث -تغريب- وتفتيت المجتمعات التي يزداد تأصلها وتجذرها في الإسلام، مما تطلب توسعاً في وسائل الهدم عبر الفن والأدب والإعلام بكل الوسائل الحديثة والتقليدية.

كثير مما يُكتب لنا اليوم يمثل مجالاً لدراسة صور رق واستعباد الهوى والشهوات التي يقبع تحتها كثير من الكتاب ظناً منهم أنما يمارسون حريتهم في البوح عن المستور، فهناك استدعاء لصور"معينة" وإقحامها في مجتمعاتنا، أو تضخيم لصور نشاز؛ لتشويه الصورة العامة للمجتمع ونفي صورة المثالية التي يسعى الإسلام بأصحابه إلى بلوغها. مع إهمال متعمد لشخصية الفرد المسلم، ولشخصية المجتمع التي تمثل مجالاً للإبداع الأدبي المتجرد من الهوى والشهوة.

إن رفض المنهجية الذبابية لا يعني عدم الاعتراف بالنقص ووجود الخلل، إنما يرفض العقلاء إقامة الكتابة على استهداف الخلل وانصباب الاهتمام على ثقوب النسق العام للمجتمع، أو أن تُستهدف صورة الجماعة المسلمة التي يتبنى أفراد المجتمع قيمها ومعارفها واتجاهاتها وسلوكياتها، أو يتم الإيهام بثقافة وقيم جديدة دونها، أو أن يُعمّق التناقض في البيئة الاجتماعية، أو يُغيّب دور الفرد -الاجتماعي- المطلوب ليساير جماعته ويتوافق ويندمج في الحياة.

وكذلك فإن رفض تضخيم الخطأ ليس رفضاً للواقع المَعيش، وليس عدم إدراك بالمتغيرات، إنه حفاظ على المفاهيم، ونبذ للمغالطات والتناقضات، ومحاولة للإبقاء على البون الشاسع بين الطبقات والمذاهب والتيارات التي تحاول فرض أفكارها ومعاييرها وقيمها على المجتمع الذي يملك الحق المنزّه والصريح -القرآن والسنة- وليعي -المجتمع- أنه خير لكثير من الناس أن يصمتوا إذا لم يخلّصوا أنفسهم من آفتي "الهوى والجهل".

الذين يفسرون تزايد هذه الأعمال بأنها حالة طبيعية تبعاً لحداثة العالم الذي نعيش فيه، وأنها صورة من صور تهديد التقدم لثقافتنا وعجزنا عن الممانعة، يجب أن يعلموا أن الخطورة ليست فيما تقدمه التكنولوجيا من الفرص والمميزات وما يتبعها من المتغيرات، وإنما الخطورة في ربط تعاطي المجتمعات المسلمة للتطورات التقنية؛ برفض الثابت وطمس التاريخ والتخلي عن القيم والأخلاق، وفق منطق التحايل على الواقع الذي يحوّل الثابت تابعاً للمتغير، ويعطي المتغير سمات وخصائص لا يملكها وهو مؤشر لأزمة عميقة يعاني منها التفكير العقلاني، وعجزه النظري والمنهجي عن فهم تماسك المجتمع الإسلامي وأسبابه.

العمل الإعلامي والفني والأدبي -أيا كان شكله- أصله الكلمة، وليس الشهوة (الشهرة، الإفساد) والكلمة مرتبطة بالمصلحة العامة، وهي حالة تتطلب سلامة التفكير قبل التعبير، وتعميم الصور الذهنية والأفكار الشخصية هلاك لصاحبها قبل المجتمع.

إن على مثقفي المجتمع مهمة كشف المحاولات البائسة و"المنهجية الذبابية" التي تنتج الأدب والفن بعيداً عن قيم المجتمع وسياقه الثقافي والفكري، وعليهم تثقيف المجتمع بأساليب ومعايير كشفها؛ لحفظ الذوق العام، دون الالتفات لمن يقلل من شأن الرفض والإقصاء وتقييم الأعمال في زمن الانفتاح.

إن واقعنا الإسلامي واضح الأطر متسع الأفق لن يُغمر أو يتم تجاوزه بسهولة مهما كانت سمات الواقع الافتراضي المغاير؛ لأن قيمه وأخلاقياته لم تقم على العقل البشري؛ إنما قامت على مفاهيم ربانية جعلت من ابن الخطاب ثاني رجل في الإسلام، وحوّلت جاهليته رصيداً من الثوب الثوابت، وصار الشيطان هارباً من طريقه.

ورفض الباطل لا يرتبط بإمكاناته، فقد اعتادت المجتمعات المسلمة على رفض المحاولات الفكرية والسياسية "الجريئة" التي تصادم ثوابتها، فضلاً عن المحاولات الأدبية -الجريئة على الثوابت- التي لا تُذكر في مقابل محاولات أضخم كان عاقبتها الرفض والاستهجان.

ويبقى المؤهل دائماً للتعبير عن حاجات المجتمع المسلم وتلبيتها مهما تغيرت الأجيال والطموحات والهوايات؛ هو الذي يدرك طبيعة علاقة المجتمع بالخالق، ومكانة الدين في قيادة وتوجيه مسيرته وضمان رفاهيته المتوازنة بين الروح والعقل والجسد، أو بمعنى آخر يدرك الثوابت والمتغيرات وعلاقتهما بالزمان والمكان وحجم كل منهما، والمستقل منهما -الذي لا يخضع للتغير- والتابع.

وإذا ما عقل الناس ما نملكه من الثوابت فلسنا نخشى الانفتاح في المجتمع المسلم، فكلما زادت المعلومات وتنوعت أشكال التواصل داخلياً وخارجياً كلما اغتنت الأفكار وترسخت القناعات، وضاقت الهوة وتعمّقت الألفة بين الفرد ومحيطه من العائلي إلى الأممي، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، وتكاثرت أشكال البحث عن تحقيق صلاح المجتمع ودمج الذات في همومه وتطلعاته، { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ }، والارتباط برموزه، { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ }، ورفض الانقلاب والانتكاس والخروج عليه، { غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }.

وهذا بعينه هو المجتمع الراقي الذي يملك أول الدواء وآخره فيربي الناس على أن تكون بواطنهم كظواهرهم، ويربط بين مكوّناتهم الروحية والعقلية والجسدية، وهي حالة ليست بالافتراضية؛ لأن شروطها متوفرة في المجتمع الرباني الذي يتحرك في إطار الإسلام.

وشروط المحافظة ليست شروطاً مصطنعة "دوركايمية"؛ إنها أعمال تعبّدية ومحل ثواب وعقاب، هدفها الحفاظ على الصورة العامة للمجتمع في صورته الناصعة التي تكتمل بتراكم عدد كبير من الأعمال والممارسات التعبّدية -مسؤوليات وواجبات ومسنونات ومستحبات- في المجال الاجتماعي على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع، فتكثر القدوات، وتُرعى الأمانات، ويُؤمر بالمعروف، ويُنهى عن المنكر، ويُخشى من المجاهرة، فتظهر الصورة ناصعة جميلة؛ لتمثل مجتمع الهدى والرشاد { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ }.


12/11/1426هـ