إِسْلامِيِّوُن يُعِيِنُوُنَ الْشَيّْطَانَ!

منذ 2013-03-24

جاءت الثورة وظهر على السطح ما كان مخبوءًا تحته من قوى واتجاهات وشخصيات وأفكار وسلوكيات. وفضحت السلوكيات أفكار جميع الشخصيات والقوى؛ بما فيهم الإسلاميين أنفسهم.



كنا نتخيل أن الإسلاميين سيمارسون السياسة بأخلاقية! كلمات مريرة سمعتها من أحد أساتذة العلوم السياسية المقربين من التيار الإسلامي؛ وهو يحلل المشهد السياسي، واستشعرنا مرارتها معه؛ لأنه لخص ما نود قوله نحن أيضًا الآن حول حالة التطاحن التي نعيشها، فلقد كنا نحلم أن يرى الناس من التيار الإسلامي بكل أطيافه المتعددة هذه السياسة الأخلاقية المنشودة ذات المرجعية الإسلامية، بعدما سئمنا عقودًا من ساسة لطخوا السياسة بكل نقيصة وقزَّموا مصر الكبيرة وصغَّروا دورها العظيم.

أجيالٌ.. وأحلام:
ولقد سررنا بأجيال في ريعان الشباب منذ سبعينيات القرن الماضي وقد انتظموا في صفوف الحركة الإسلامية بعدما أفاقوا من مرحلة زوغان الأبصار بالتيارات القومية ووهم الناصرية؛ حيث وجدوها نمورًا من ورق، وجعجعةً بلا طحن، وتحطمت كل أحلامهم على صخرة تهافت المشروع الناصري؛ وفشله في مغامرات أثمرت قلاقل في إفريقيا وآسيا لتصدير التيار التقدمي، ثم بهزيمة يونيو المدوية والتي لم نزل نعاني من آثارها داخليًا وعالميًا، وهزئنا بسكارى لا يفيقون من وهم هذا المشروع الهلامي؛ الذي قَزَّمَ مصر واقعيًا بعدما رفعها بشعاراته الزائفة لنشر التقدمية من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر؛ فما هدر المحيط ولا ثار الخليج! ثم وجدوا بغيتهم في العودة إلى هويتنا الإسلامية الأصيلة التي هي محور المشروع الإسلامي، ولمسنا معهم السماء عزة؛ بأننا لا نستطيع فقط أن نغير أنفسنا، بل نستطيع تغيير هذا الكون كله بفكرتنا.

هل عبرنا العقبة؟
وذات مساء حضرت حفل زفاف صديق إسلامي ابن صديق إسلامي؛ عاشوا معنا حلمنا الجميل عقودًا، وفوجئنا أن الحفل لا يختلف عن حفلات غير الإسلاميين؛ فهي نفس الموسيقى ونفس الاختلاط ونفس البرنامج عدا الفقرات الراقصة المعتادة،  ففتحنا حوارًا حول هذا السؤال: لقد عشنا حلمًا لنغير المجتمع؛ فهل غيرناه أم هو الذي غيرنا؟ وهل جذبناه إلينا أم هو الذي جذبنا إليه؟

وتنوعت الآراء.. منها أننا بلا شك غيرنا مفاهيم شخصية ومجتمعية كثيرة مثل انتشار الحجاب وإعمار المساجد بالشباب وازدحام رحلات الحج والعمرة طوال العام، وظهور البديل الفني الإسلامي مثل الإنشاد، وظهور الفضائيات الإسلامية ورواجها، وتراجع المشاريع القومية والناصرية وانحسارها، و... ولكن كان من بين الآراء الأخرى؛ أننا عندما انتقلنا من مرحلة بناء الفرد إلى مرحلة أسلمة المجتمع؛ قد واجهنا على أرض الواقع عوائق وتحديات أجبرتنا على بعض التنازلات المرحلية.

وتحت مطارق المرونة وفقه الموازنات وفقه الأولويات؛ انساحت التنازلات إلى جوانب كثيرة كانت تميزنا كأصحاب مشروع رباني، وكأنها موجة تراجعات غمرتنا وغمرت مشروعنا! وبالتدريج والتأثير التراكمي ذابت فروقًا كثيرة حتى غابت روح التميز التي كنا نعتز بها، ونستشعرها داخليًا ونفسيًا! وتساءلنا هل تعثرنا في عبور العقبة من مرحلة الأفكار والتنظير إلى مرحلة التنفيذ والتطبيق؟

الثورة والسياسة كشفت المستور:
ثم جاءت الثورة وظهر على السطح ما كان مخبوءًا تحته من قوى واتجاهات وشخصيات وأفكار وسلوكيات.
وفضحت السلوكيات أفكار جميع الشخصيات والقوى؛ بما فيهم الإسلاميين أنفسهم، لأن السلوكيات هي التي تترجم ما يؤمن به الفرد أو الحزب من أفكار، حتى سمعنا كلامًا رائعًا من د. عمر عبد الكافي: أن الإمام الغزالي والإمام ابن القيم رحمهما الله قد شرحا بابين عظيمين في علم السلوك؛ وهما شهوة الفرج وشهوة البطن؛ ولو كانا بيننا الآن لأضافا بابًا خطيرًا وفاتنًا، قد أتعبنا وفضحنا جميعًا وهو باب شهوة الكلام؛ وما يتفرع منه من شهوة التصريحات والإشاعات؛ لدرجة الأكاذيب بل والبذاءات والفضائح ونيل الأعراض!

وهذا الباب الجديد كما أصاب الجميع؛ فلقد أصاب الإسلاميين في مقتل؛ فبعدما انجرفوا إلى غمار السياسة وفن الممكن؛ فقد اندفعوا إلى فن التبرير والتكذيب، فهم دومًا إما مبررون لأخطاء سياسية وشرعية وسلوكية يرتكبونها، أو مدافعون عن أعاصير من الأكاذيب والإشاعات تقصفهم ليل نهار من خصومهم! وكان من حصاده المر؛ هو مزيد من التنازلات، ومزيد من الخلافات والتلاسنات والتراشقات إلى حد الضرب تحت الحزام ليس مع الآخر فقط بل بين الإسلاميين بعضهم البعض، فهل كشفت الثورة وبحر سياساتها المستور من شهوة الكلام وآثارها المدمرة الحالقة؟! كم حذرنا صلى الله عليه وسلم: «إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة» (الترمذي: 2508، وحسنه الألباني). وسوء ذات البين أي العداوة والبغضاء، والحالقة أي تحلق الدين.

إنهم يعينون الشيطان!
ثم انساح إعصار التنازلات وسنونه إلى أخطر حائط صد كان يميز الإسلاميين ومشروعهم؛ وهو الجانب التربوي والدعوي! فتحولنا إلى منفرين، وبسلوكيات تجبر الجماهير على بغضنا ومهاجمتنا والتعدي على خطوطنا الحمراء العقدية كالقرآن والسنة؛ بل وطال الرزاز السياسي شخصه صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين وصحبه رضي الله عنهم، ونسينا ما تربينا عليه من فنون استيعاب الآخر مع المحافظة على الثوابت؛ كما جاء عن أبي هريرة قال: «قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وأهريقوا على بوله سجلًا من ماء، أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين» (البخاري: 6128).

بل تحول بعضنا بشهوة الكلام وزلات اللسان إلى عونٍ للشيطان؛ كما جاء عن أبى هريرة قال: «أُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشارب، فقال: اضربوه. فمنا الضارب بيده ومنا الضارب بنعله فقال بعض القوم: أخزاك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا الشيطان عليه» (ابن حبان).

فكما تساءلنا ذات يوم بحسرة: (ماذا حدث للإسلاميين؟!) فإننا نعترف بمرارة: أن هناك إِسْلامِيِّين يُعِيِنُونَ الْشَيّْطَانَ!


 

د. حمدي شعيب
 

المصدر: جريدة المصريون