تقيّة الليبراليين!
لابد مِن التأكيد على أن الليبرالية لا تساوي الحرية كقيمة ومثال، بل هي مذهب يتبنى تطبيقها؛ فالحرية إذن ليست حكرًا على الليبراليين وحدهم، بل هي دعوى يدعيها كل أحد، ولكن الليبراليين يأبون إلا أن يُفهموا الناس أنهم بمجرد تبنيهم لـ -المذهب الليبرالي- يكونون محققين لقيمة الحرية فورًا!
(Fukuyama, la fin de l histoire, commentaire, n47, octobre1989, p457)
إننا نجد الليبراليين المصريين يخفون كثيرًا من الحقائق الليبرالية على مستويات ثلاثة:
1- مستوى المذهب نفسه:
فالليبراليون يقدمون الليبرالية لنا كنموذج واحد متفق عليه في الغرب؛ دون إشارة إلى الغموض الذي يحتويه مصطلح الليبرالية عند الكثير مِن فلاسفة الغرب أنفسهم فضلاً عن غيرهم؛ يقول برتراند رسل: "ويُطلق على هذا الموقف الجديد تجاه مشكلات الميدان الثقافي والاجتماعي اسم الليبرالية، وهي تسمية أقرب إلى الغموض" (حكمة الغرب ج2 ص:103).
ويقول دونالد سترومبرج: "والحق أن كلمة الليبرالية مصطلح عريض وغامض" (تاريخ الفكر الأوروبي ص:337).
مما ترتب عليه غموض الحركات الليبرالية نفسها، ففي (الموسوعة البريطانية): "ونادرًا ما توجد حركة ليبرالية لم يصبها الغموض، بل إن بعضها تنهار بسببه". (Encyclopedia Britannica liberalism)
ودون إشارة إلى وجود مذاهب داخل الليبرالية يناقض بعضها بعضًا كـ الليبرالية الاشتراكية أو الاجتماعية، والتي تعرف بـالليبرالية الجديدة، والتي تتعارض مع الليبرالية الاقتصادية، وتناقضها تناقضًا صارخًا.
ومن أكبر الأمثلة على هذا التناقض: نقد الجانب الاقتصادي من الليبرالية التقليدية بواسطة كثير من الليبراليين، وأبرزهم في العصر الحديث: جون كينز، وبولانيي اللذان يريان وجوب تدخل الدولة؛ لضبط السوق.
ودون ذكر أن الكثير من الغربيين يرون الليبرالية قناعًا يختبئ وراءه جشع الرأسماليين والداعون إلى الانحلال الخلقي، ويرون أيضًا أن الليبرالية غير قادرة على تحقيق حتى دورها الاقتصادي، بل ويرى الكثير في الغرب وفي أمريكا خاصة أن الليبرالية أصبحت لفظة قبيحة، فقد أكد -مثلاً- جون لوكاكس أن كلمة ليبرالي أصبحت كلمة قبيحة في نظر ملايين الأمريكيين، بل وتستخدم في الاستهزاء كقولهم على الليبرالي: "الليبرالي ذو القلب الذي ينزف".
وهو تهكم يعنون به أن الليبراليين يتظاهرون برقة قلوبهم على المستبعدين والمهمشين، ويسمون الليبرالي، بـالليبرالي الرعديد. أي: شديد الجُبن.
بل إن المستشار السياسي الجمهوري آرثر جيه فنكلشتين معروف بتكراره وترديده لكلمة ليبرالي في الإعلانات التليفزيونية بشكل سلبي قدر الإمكان، ويشعر الكثيرون من الساسة الليبراليين بالخجل من وصفهم بأنهم ليبراليون، ويفضلون مصطلحات من قبيل تقدمي أو معتدل.
واستخدمت آن كولتر كلمة ليبرالي كسباب في كتابها: "كيف تتحدث إلى ليبرالي إذا كنت مضطرًا لذلك"، وشبّهتْ الليبرالية بالخيانة، ويبيع مكتب مطبوعات المحافظين دُمية لـ آن كولتر تقول: "الليبرالي يكره أمريكا".
ويستخدم بعض مقدمي البرامج من أمثال: راش لميبوا، وشين هانيتي شعارات معادية لليبرالية، وأصدر الأخير كتابًا بعنوان: (أنقذونا من الشر، اهزموا الإرهاب والطغيان والليبرالية) (للمزيد انظر: "ألف - باء الليبرالية"، ترجمة آمال الكيلاني ص:114-115).
أما آن الأوان أن يحكوا لنا: أن الليبرالية عندما نشأت كانت حرية العمل المقصودة بالنسبة لها هي: تحرير العمال من الاستعباد الإقطاعي؛ كي يعملوا في مجال يحقق أهداف الثورة الصناعية، فتحوَّل العمال إلى الاستعباد الصناعي؟!
أما جاء الوقت الذي يقررون فيه مبدأ الحرية المطلقة، التي تنادي بها الليبرالية دون قيد حتى من أحكام الشريعة الإسلامية؟
فما رأي الليبراليين المصريين في شرب الخمر؟!
وما موقفهم من التعامل بالربا؟!
وكيف ينظرون إلى الزنا؟!
وهل يرفضون الشذوذ الجنسي أم يسوغونه؟!
أسئلة تحتاج إلى إجابات، فإن أباحوا ذلك؛ فهم ليبراليون حقًّا، وإن لم يبيحوه؛ فليسوا من الليبرالية في شيء؛ لأنهم يحدون من حرية الأفراد باسم الدين، والليبرالية لا تسمح بذلك.
2- مستوى المفكرين الليبراليين:
فلا يذكر لنا ليبراليون -مثلاً- أن الفيلسوف الإنكليزي جون لوك، المنظّر الأكبر لـ حرية الفرد هو في الحقيقة تاجر رقيق!
ولم يُطلعونا على ما في كتاب جون لوك الشهير، (رسالة في التسامح) من الحديث عن فضائل التسامح وميزاته، ثم إنهائه رسالته: "بأن هذا التسامح لا يمكن أن يمتد للـكاثوليك، ولا اليهود، ولا بالطبع المسلمين"، وإنما كلامه منصب على التسامح بين البروتستانت في إنجلترا!
ولا يطرحون علينا رأي مونتسكيو، وهو من أساطين الليبرالية، ومؤسس فكرة الفصل بين السلطات، في تعليم الفقراء، عندما قال في (روح القوانين):
"يبدو لي من الضروري أن يوجد فقراء جاهلون، فالتعليم ينبغي ألا يكون موجهًا إلى اليد العاملة، ولكن يجب تعليم البرجوازي الجميل وساكن المدن، أما عندما يهتم الرعاع بالتفكير؛ فعندئذ يضيع كل شيء".
أو رأيه في التفريق بين العامة وعلية القوم على أساس النسب، والغِنى والفقر؛ حيث يقول في (روح القوانين):
"دائمًا يوجد في الدولة أفراد متميزون إما بالنسب، أو بالثروة، أو بالشرف، فإذا جرى تسويتهم بعامة الشعب، ولم يعطوا سوى صوت واحد مثلهم مثل الآخرين، فإن هذه الحرية المعممة تصبح بالنسبة لهم رقـًا؛ لذا لابد أن يكون لهم حق في التشريع يناسب ما يمتلكون من امتيازات" (نقلا عن د. طيب بو عزة، "نقد الليبرالية" ص:73).
بل ولم لا يخرجون أفكار مالتوس، التي كانت تنتقد المعونة الاجتماعية للفقراء في بريطانيا عام 1795م، وكان يقول: "إن الفقر ناتج عن خطأ الفقراء أنفسهم، والحل عنده منع المعونات؛ كي يسهم ذلك في تقليل النسل بموتهم" (السابق ص 100-101).
متى سيخبرنا الليبراليون المصريون، بنظرة الليبراليين إلى الإنسان على أنه حيوان اقتصادي تتحكم فيه الدوافع الاقتصادية كما يقول آدم سميث، وفوكوياما، وموريس فلامان وغيرهم مِن كبار المفكرين الليبراليين الغربيين؟!
لم لا يحدثنا الليبراليون المصريون، عن رؤية بعض الليبراليين الدوليين أن من حق القوى الليبرالية العظمى أن تتدخل في شئون الدول الصغرى أو الضعيفة؛ لفرض مبادئ الليبرالية كما يرونها؟!
3- مستوى جرائم الليبراليين:
فلم نجدهم يفسرون لنا إبادة الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، واستعباد واحتلال ونهب شعوب إفريقيا، وغيرها بواسطة الأوروبيين، بالتزامن مع انهيار الإقطاع وظهور الليبرالية والدعوة إلى الحرية في أوروبا.
والآن وبعد تطور الليبرالية نجد أكثر من مليون قتيل في العراق وحدها حتى الآن بواسطة "دولة الحرية الأولى" أمريكا، بالإضافة إلى احتلال أفغانستان ومعاونة اليهود في احتلال فلسطين، وغير ذلك مما هو معلوم ومشهور.
على الليبراليين المصريين أن يكونوا واضحين ما داموا مؤمنين بفكرة ما، ولْيتركوا الناس بعد ذلك لِيختاروا، أما الغموض سعيًا لإيجاد الحضور لدى بعض الناس، واستخدام حل: ليبرالية على ما تُفرج! فلن يستمر كحلٍّ كثيرًا.
- التصنيف:
- المصدر: