{يا ليتَني كُنتُ تُراباً}

منذ 2013-03-30

كلمة سيقولها يوم القيامة الخاسرون، المشركون، المفرطون، الخائبون، المفلسون، الطغاة، فبعد أن قبلوا بأن يُخدعوا في الدنيا برضاهم وهم بكامل قواهم العقلية، سيرَون الحقيقة َعين اليقين يوم القيامة، فيقولون قولتهم: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}.


كلمة سيقولها يوم القيامة الخاسرون، المشركون، المفرطون، الخائبون، المفلسون، الطغاة، فبعد أن قبلوا بأن يُخدعوا في الدنيا برضاهم وهم بكامل قواهم العقلية، سيرَون الحقيقة َعين اليقين يوم القيامة، فيقولون قولتهم: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}.

وأصل هذه الكلمة وردت في القرآن الكريم، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: من الآية 40]، فلماذا يقول الكافر يوم القيامة هذا الكلام؟

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: "إذا كان يوم القيامة مُدَّت الأرض مدَّ الأديم، وحَشرَ اللهُ الخلائق، الإنسَ والجنَّ والدواب والوحوش، فإذا كان ذلك اليوم جعل الله القصاص بين الدواب، حتى تقتص الشاة الجماء من القرناء بنطحتها، فإذا فرغ الله من القصاص بين الدواب، قال لها: كوني تراباً، فتكون تراباً فيراها الكافر، فيقول: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [المستدرك على الصحيحين للحاكم - كتاب الأهوال].  

إذن فالذي يتمنى يوم القيامة أن يكون تراباً، كأنه يتمنى أن لو كان حيواناً، يُعلف ويُركب وربما يُؤكل، لأن الحيوانات بعد الاقتصاص من بعضها البعض يوم القيامة، يجعلها الله تعالى تراباً، فعندما يرى الكافر هذه النهاية التي يراها سعيدة بالنسبة لأمثاله، لهول العذاب الذي ينتظره ويراه بأم عينه يتمنى لو أنه كان تراباً.

وهذا الغافل الجاهل ومن غير أن يدري كان قد وضع نفسه مقام الحيوان في حياته الدنيا، لأنه لم يستخدم عقله في التمييز بين الحق والباطل، ولم يفرِّق بين لذة عبادة الله تعالى وبين مرارة معصيته، لم ينصاع لنداء الفطرة التي جعلها الله تعالى في قلبه بأنه يحب الفضيلة ويكره الرذيلة.

وحتى هذه الفرصة التي يمنحها الله تعالى لبعض مخلوقاته بأن يُعيدها تراباً رحمة بها، إنما هي لمخلوقات خلقها الله تعالى حيوانات، أما من خلقه الله إنساناً ثم يختار بإرادته أن يكون غير ذلك مخالفاً لقانون الخلق والفطرة فلن يُمنح تلك الفرصة إطلاقاً.

وما زال السؤال يطرح نفسه: وأي شيء يهرب منه الإنسان؟ ومتى يتمنى أن يكون تراباً؟

سيتمنى أن يكون تراباً ذلك الذي ينافق أمام الناس، فيظهر البراءة والفضيلة ويتكلم بها ويدعو الناس لها، وحين يختلي بنفسه يجترح كل المعاصي التي كان ينهى الناس عنها، ويتخلى عن كل الفضائل التي كان يأمرهم بها.

مثلُ هذا ستُشق بطنه وتقع أحشاؤه في جهنم، فيدوس عليها برجليه، ويدور عليها كالحمار، فيجتمع عليه هذا الألم الرهيب مع ألم نار جهنم العظيم، مع ألم الفضيحة، فلئن يكون هذا تُراباً لهو أهون عليه من هذا العذاب الأليم، فعن أسامة بن زيد رضى الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتابُه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنتَ تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنتُ آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه» [صحيح البخاري - كتاب بدء الخلق - باب صفة النار].

سيتمنى أن يكون تراباً ذلك الذي كان يلبس ثياب الدين والتقوى (ظاهراً)، يخدع الناس ليأخذ أموالهم زوراً وخديعة، وذلك الذي يكنز أمواله ولا ينفق بعض منها في سبيل الله تعالى، أو يجمعها لينفقها ضد منهج الله تعالى وأوليائه، فسيُؤتى بالأموال وتسخن ثم تسخن حتى تحمر ثم تبيض ثم تسود من شدة الحرارة، فيُكوى بها في أكثر المناطق تحسساً في الجسم، سيُكوى في منطقة الجبهة والوجه والجنب من أجل المزيد من الألم، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34-35].

لا شك أن المتكبرين في الدنيا سيكون لهم حظ وافر من تلك الأمنية يوم القيامة، فيتمنون أن لو كانوا تراباً أكثر من غيرهم، بعد أن يروا أنفسهم وقد صغروا وصغروا حتى كأنهم ذرات صغيرة، تدوس عليهم الخلائق، وهم ذليلون، وفوق كل هذا العذاب هناك نار الأنيار أعدت خصيصاً لهم، ثم إذا عطشوا «يُسقون طينة الخبال» وهي مما يخرج من أهل النار من عصارة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: « يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذلُّ من كل مكان، فيُساقون إلى سجن في جهنم يُسمّى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسقون من عصارة أهل النار، طينة الخبال» [سنن الترمذي الجامع الصحيح - الذبائح - أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم].

ستتمنى تلك المرأة التي كان شُغلها الشاغل عناد زوجها، ومعصيته وعدم إطاعة أوامره، وتستأنس وهي ترفع صوتها في حضرته وكأنها في معركة، تتمنى أن لو كانت تراباً بعد أن ترى أنها دفعت إلى جهنم وما فيها من أهوال وعذاب، من أجل كلمة واحدة قالتها لزوجها الذي أحسن لها عمره كله، ثم تأتي لتقول له: «ما رأيتُ منك خيراً قط»، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أُريت النار، فإذا أكثر أهلها النساء، يَكْفُرْنَ قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيتُ منك خيراً قط» [صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب كفران العشير].

وأولئك الذين اشتغلوا في الدنيا بالغيبة، وذِكرُ الناس بما فيهم وما ليس فيهم، وجعلوا فاكهة أمسيات سهراتهم الطعن في الناس وفي أعراضهم، فيطعنون في شرف هذه وعفَّة تلك، وفي نُبل هذا وصدق ذاك، وكرم هذا وبخل ذاك، من غير أن يرمش لهم جفن، هؤلاء سيتمنون لو كانوا تراباً، فعن أنس بن مالك رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما عُرج بي مررتُ بقومٍ لهم أظفار من نُحاسٍ يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلتُ: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم» [سنن أبي داود - كتاب الأدب - باب في الغيبة].  

وحين يجد المتعامل بالربا أنه يسبح ببحر من الدماء، كلما أراد أن يصل إلى حافة النهر ليخرج توضع في فمه حجارة، فيعاد من حيث أتى، حينها سيتمنى لو أنه كان تراباً، يقول النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم: «رأيتُ الليلة رجلين أتياني، فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه، فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر، فيرجع كما كان، فقلتُ ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا» [صحيح البخاري - كتاب البيوع - باب آكل الربا وشاهده وكاتبه].

وحتى ذلك الذي هو أهون أهل النار عذاباً، والذي تكون تحت قدمه جمرة، يغلي منها دماغه، فهو يتمنى أن يكون تراباً، لأن ذلك ليس بقليل، يقول النعمان بن بشير الأنصاري رضى الله عنه: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل، توضع في أخمص قدميه جمرة، يغلي منها دماغه» [صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب صفة الجنة والنار].

وهكذا فإن كل من كان من أهل النار وكفر بشيء من الشريعة الإسلامية أوجبت دخوله النار، سيتمنى أن يكون تراباً، لأنه لا يمكن أن يطيق أهون عذابها، فعن أبي هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الحميم ليُصبُّ على رؤوسهم، فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه، حتى يمرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان» [سنن الترمذي الجامع الصحيح - الذبائح - أبواب صفة جهنم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  باب ما جاء في صفة شراب أهل النار].

ثم تأتي الطامة الكبرى على كل من في نار جهنم، حتى أولئك الذين كانوا يمنّون أنفسهم في الخروج منها، فقد انتهت الشفاعات، وتبددت كل الأحلام، وبدأت حالة الخلود، فيتمنون لو كانوا تراباً، فتأكل قلوبهم الحسرة، ويفتت أحشاءهم الندم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: وهل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت»، ثم قرأ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39]، -وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا وهم لا يؤمنون- [متفق عليه].

والإنسان يوم القيامة سيبقى إنساناً، ولكن من قُضي عليه بدخول جهنم، سيُهيأ تهيئة بدنية مناسبة للموضع الذي سيكون فيه، حتى يتحمل هذا العذاب العظيم، فسيُضخَّم حجم جسمه حتى تكون المسافة ما بين كتفيه مسيرة ثلاثة أيام لفرسٍ سريعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المُسرِع» [متفق عليه]، وأما جلده فمسيرة ثلاثة أيام، وأما ضرسه فيكون بحجم الجبل، فعن أبي هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضرس الكافر، أو ناب الكافر، مثل أُحُد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث» [صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء].

وهكذا فعضد يد من في النار كالجبل، وفخذه كالجبل من أجل أن يتحمل النار، فهذه المعلومات الخطيرة التي سيقت في هذا المقال، لهي نذير خطير يجب أن تعمل عملها فينا لنحذر وننتبه، قبل أن يفوتنا الأوان، فنكون ممن نقول: {يا ليتَني كُنتُ تُراباً}.


عبد الستار المرسومي