الحالة اليهودية في إيران.. أفكار وسياسات

منذ 2013-04-02

باستثناء دول عربية وإسلامية قليلة، بل ودول غربية، ومراحل تاريخية محددة تمثل السيطرة اليهودية على مجريات الأمور في غالب بلدان العالم ظاهرة تستحق البحث والدراسة، وليس معنى هذا أن العالم بأسره قد تهَّود أو تصهين، أو أنه يعمل بكافة دوله لخدمة اليهود، وإنما في الأمر تفاصيل غاية في التعقيد، لكننا على أية حال يمكننا القول أن مبدأ المصلحة والنفعية هو المبدأ الأكثر تأثيرا في هذه المعادلة، إلى جانب ذلك لا يمكننا بحال من الأحول إغفال الدور الخطير الذي قام به اليهود من ذوي السلطة والمال المنتشرين في كافة أقطار الدنيا، الإسلامي منها وغير الإسلامي.


باستثناء دول عربية وإسلامية قليلة، بل ودول غربية، ومراحل تاريخية محددة تمثل السيطرة اليهودية على مجريات الأمور في غالب بلدان العالم ظاهرة تستحق البحث والدراسة، وليس معنى هذا أن العالم بأسره قد تهَّود أو تصهين، أو أنه يعمل بكافة دوله لخدمة اليهود، وإنما في الأمر تفاصيل غاية في التعقيد، لكننا على أية حال يمكننا القول أن مبدأ المصلحة والنفعية هو المبدأ الأكثر تأثيرا في هذه المعادلة، إلى جانب ذلك لا يمكننا بحال من الأحول إغفال الدور الخطير الذي قام به اليهود من ذوي السلطة والمال المنتشرين في كافة أقطار الدنيا، الإسلامي منها وغير الإسلامي.

وكان للدور اليهودي في الدول الإسلامية على وجه التحديد أثره البالغ قديمًا وحديثاً، سيما في الشأن الإيراني، وفي هذا المقال ليس مقصودي تحميل الكلام فوق معناه أو التكلف في إثبات الأثر اليهودي في الحالة الإيرانية، وإنما المراد نقل الصورة كما هي، مع إعطاء مساحات تفسيرية لبعض المواقف والربط بينها وبين مواقف أخرى من شأنها أن توسع الرؤية لمشاهدة أوضح وأدق لواقع اليهود في الدولة الإيرانية، وأثرهم في مجريات الأمور هناك ومن ثم على الساحة الإسلامية بصفة عامة.

فتاريخيا تشير كثير من المصادر-يهودية وغير يهودية- إلى أن إيران، أو بلاد فارس كما كانت تُعرف في القديم تحتل حيزًا هامًا في التاريخ اليهودي، ويرجع هذا الأمر إلى قدم الوجود اليهودي في إيران-كما تزعم المصادر اليهودية- إلى جانب ذلك فاليهود الإيرانيون يعتزون بصنيع الملك (كوروش الكبير) معهم، حيث سمح لهم بالعودة إلى القدس عام 538 م بعد سبيهم على يد (نبوخذ نصر) البابلي في أعقاب تدمير الهيكل قبل ذلك بنحو بضعة عقود من الزمن، على حد قول الرواية اليهودية (1).

وبتخطي عدة قرون تشير الإحصائيات الرسمية الإيرانية إلى أن تعداد اليهود في إيران بلغ 85 ألف يهودي في أواخر العهد البهلوي (2)، وقد تناقص هذا العدد إلى قرابة الخمس في السنوات الأخيرة، نظرًا لتحول البعض إلى ديانات أخرى كـ(الإسلام، والبهائية)، وهجرة البعض الأخر إلى إسرائيل، ومع ذلك يعتبر اليهود في إيران أكبر تجمع يهودي في الشرق الأوسط خارج إسرائيل (3)، وعن هذه الهجرة يقول مؤلف كتاب اليهود في إيران: "إن هذه الهجرة جاءت في سياق هجرة عامة ليهود بلاد الشرق الإسلامي إلى فلسطين" (4)، وقسم الكاتب بعد ذلك هذه الهجرة إلى مراحل خمسة، حددها في كتابه..

اليهود المتخفون، أو (المسلمون الجدد):
أما مسألة التحول للإسلام والديانات الأخرى فقد مر اليهود في هذا الجانب بعدة محطات، ومن هذه المحطات مرحلة الفتح الإسلامي حيث تمتع اليهود في هذه المرحلة بالحرية التامة في اختيار معتقدهم وممارسة شعائرهم، فلم يجبر اليهود على الدخول في الإسلام ومن دخل منهم دخل طواعية، وهو الأمر الذي تغير بعد ذلك بعد تمكن الحكم الشيعي من إيران متمثلا في الدولة الصفوية، فتم التضييق على اليهود وإجبارهم على اعتناق الإسلام (الشيعي)، ما أدى إلى إخفاء عدد كبير من اليهود معتقدهم والتظاهر بالإسلام خشية الاضطهاد.

فمن المحطات الفارقة في تاريخ يهود إيران مرحلة التخفي، التي بدأت منذ عصر الاضطهاد الشيعي لليهود بعد قيام الدولة الصفوية، ولم تنته إلا قبيل الثورة الإيرانية بقليل، حيث تحول كثير من اليهود إلى الإسلام ظاهريًا مع بقائهم على اليهودية سرًا، ومن اليهود من تحول إلى الإسلام لأهداف خاصة، ومنهم من تحول للتمويه على الشيعة ولزيادة الإفساد في معتقدهم، وأطلق على اليهود المتحولين إلى الإسلام -وتحديدًا في مدينة مشهد- في القرنين السابع والثامن عشر لهذه الأسباب (المسلمون الجدد، أو اليهود المتخفين).

يقول الدكتور المسيري في موسوعة (اليهود واليهودية) موضحاً هذه الظاهرة: "اليهود المُتخفّون هم اليهود الذين يتظاهرون باعتناق دين آخر غير اليهودية، بسبب الظروف المختلفة، ويظلون على دينهم في الواقع، ومن أهم فرق اليهود المتخفين (المارانو)، ويُشار إليهم أيضاً باسم (المسـيحيون الجـدد، والكونفرسـوس، والبرتغاليين) في شـبه جزيرة أيبريا، كما يُشار إليهم باسم (الدونمه) في تركيا، وباسم (جديد الإسلام) في إيران، وباسم (التشويتاس) في جزيرة مايوركا" (5).

ويوضح الصورة أكثر أحد كتاب اليهود فيقول في مقال له بعنوان: (قصة اليهود المقسورين من المشهد: بطولة يهودية) يقول: "عاش المقسورين -اليهود المتخفين- من مشهد حياة مزدوجة ظاهرياً، تصرفوا كمسلمين تماماً، ذهبوا إلى المساجد كل يوم جمعة، لكن استمروا بممارسة العادات والطقوس اليهودية في داخل منازلهم، وفي المساء استقبلوا يوم السبت، اعتادوا قبل الذهاب من أجل الصلاة في المسجد أن يتضرعوا إلى الله طالبين المغفرة من رب إسرائيل، استخدموا وسائل متنوعة لكي يتفادوا إلقاء القبض عليهم" (6).

وكان اليهود المتخفون، أو المسلمون الجدد في بادئ الأمر معروفين من قبل الشيعة، وكان الشيعة يتعمدون اجتنابهم شكا منهم في بقائهم على يهوديتهم، ثم سرعان ما تغير الأمر فمن المسلمين الجدد من رحل إلى فلسطين بغير رجعه عائداً إلى يهوديته، ومنهم من ذاب في المجتمع الشيعي حفاظاً على وضعه أو مكانته أو ثروته، ومنهم من رأي في التخفي نصراً ليهوديته وخدمة لأرض صهيون.

يقول الدكتور المسيري: "ولا نعرف شيئاً عن مصير اليهود الذين اعتنقوا الإسلام عنوة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والظن الغالب أنه تم استيعابهم في المجتمع الإسلامي، أما جماعة مشهد فقد احتفظت بهويتها ولم يتزاوج أعضاؤها إلا فيما بينهم، ثم هاجر بعضهم إلى القدس عام 1890م، أما بقية الجماعة فقد ظلت في مشهد حتى أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، وكونت جماعة اقتصادية مستقلة" (7).

يهود إيران في خدمة البهائية:
بجانب التحول إلى الإسلام قناعة أو تخفيًا وتقية، تحول عدد كبير من اليهود إلى البهائية، ويرجع هذا- في الغالب- إلى سعي اليهود وراء إغراءات البهائيين المادية رغبة منهم في تدشين وضع اقتصادي جديد يرتقي بهم وبأحوالهم، ويجعل لهم سلطة وسطوة في القرار السياسي الإيراني، إلى جانب ذلك كان اليهود يظنون أن تحولهم إلى البهائية سيغير النظرة الشيعية لهم -وهو ما لم يحدث- ويجعل لهم من الحصانة ما يحفظ حقوقهم ويصد عنهم تجاوزات الشيعة، غير أن سببا آخر قلما يشار إليه من قبل الباحثين، نستطيع إضافته إلى هذه الأسباب، وهو سبب ديني بحت، يرتبط من زاوية بالرغبة في مواجهة رجال الدين الشيعة، ومن زاوية أخرى مثل هذا التحول دعمًا قوياً للدولة اليهودية -إسرائيل- وقد ظهر هذا الأمر بشكل واضح من خلال دعم البهائيين لإسرائيل لاحقا.

وصنيع البهائية مع اليهود جاء من باب رد الجميل حيث ساهم اليهود بشكل كبير في نشأة هذه الملة ودعمها بكافة السبل وشرعنة وجودها، وهو الأمر الذي أشار إليه المستشرق اليهودي جولدزيهر في كتابه (العقيدة والشريعة)، حيث قال: "إنه قد بلغ الأمر ببعض اليهود المتحمسين للبهائية أن استخلصوا من دفائن العهد القديم وتنبؤات أسفاره ما ينبئ بظهور بهاء الله وعباس، وزعموا أن كل آية تشيد بمجد يهوه أنها تعني ظهور مخلص للعالم في شخص بهاء الله"، ثم يقول: "وهذا فضلاً عن أنهم -أي اليهود- لم ينسوا أن يستخرجوا مما يحتويه سفر دانيال من الرؤى ما ينبئ بقيام الحركة التي أوجدها الباب، وأن يلتمسوا بتأويلها ما يدل على وقت حدوثها" (8).

وردا للجميل الذي قام به اليهود في مراحل النشأة والتأسيس لهذه الملة رأينا نصوصاً بهائية كثيرة تخدم فكرة الصهيونية، ومن ذلك دعوة البهاء لليهود في كتابه الأقدس للذهاب إلى إسرائيل، يقول في كتابه: "هذا يوم فيه فاز الكليم بأنوار القديم، وشرب زلال الوصال من هذا القدح الذي به سجرت البحور، قل: تالله الحق إن الطور يطوف حول مطلع الظهور، والروح ينادي من في الملكوت هلموا وتعالوا يا أبناء الغرور، هذا يوم فيه أسرع كرم الله شوقاً للقائه، وصاح الصهيون: قد أتى الوعد وظهر ما هو المكتوب في ألواح الله المتعالي العزيز المحبوب" (9).

مراحل العلاقة بين السلطة الإيرانية واليهود الإيرانيين:
تحدثنا عن بعض المحطات التي مر بها اليهود الإيرانيين في علاقاتهم مع الإيرانيين والدولة الإيرانية على وجه التحديد، وإتمامًا للصورة نبين أن اليهود كانوا يعيشون في المجتمع اليهودي كأقلية في حالة أشبه ما تكون بـ(المنفي)، ثم سمح لهم فيما بعد بالعودة في عهد الملك كوروش، ولما فُتحت فارس على يد الفاتحين المسلمين، تمتع اليهود بكامل حقوقهم وعوملوا بما تنص الشريعة عليه تجاه أهل الكتاب، ولعل هذا العصر يكون من أزهى عصورهم في القديم، ثم جاء عصر الاضطهاد على يد الدولة الصفوية الشيعية، وأجبر عدد كبير منهم على اعتناق التشيع، ولم يختلف العهد البهلوي لاحقاً -بالنسبة لليهود- عن عهد الدولة الصفوية، غير أن النقلة الكبرى في تاريخ اليهود الإيرانيين كانت في عهد رضا شاه وتحديدًا عام 1925 م حيث سمح لهم بممارسة النشاط الصهيوني داخل إيران، كما سمح لهم بالتمثيل في البرلمان الإيراني، إلى غير ذلك من الامتيازات.

وبعد قيام الثورة الإيرانية تعثرت العلاقة الإيرانية اليهودية قليلاً نظرًا لقطع العلاقات الإيرانية الإسرائيلية بعد أن كانت بين البلدين علاقات تجارية وسياسية واقتصادية، فتم إغلاق السفارة الإيرانية ومنع كافة أشكال التواصل بين البلدين، وحظر كافة الأنشطة الصهيونية التي سمح بها في السابق.

غير أن كثيرًا من الباحثين قد شككوا في طبيعة هذه القطيعة واعتبرها البعض حيلة لجذب انتباه العالم الإسلامي نحو إيران، في محاولة من الخميني ومن معه لتصدير فكرة الثورة الشيعية إلى كافة أقطار العالم الإسلامي، وليس أنجع في ذلك -بحسب فهمهم- من اللعب بالورقة الإسرائيلية الفلسطينية، ودليل ذلك أن عهد الثورة الإيرانية بالنسبة لليهود الإيرانيين هو العهد الأزهى من بين عهودهم، ففي عهد الثورة الإسلامية، حصل اليهود على ما لم يحصلوا عليه في أي عهد سابق من كافة النواحي، ويسجل هذا الواقع ما تم في اللقاء الذي جمع الخميني بخمسة من كبار حاخامات يهود إيران، ففي هذا اللقاء قدم الخميني وعدا: "بأن اليهود لن يكونوا عرضة للأعمال المعادية وأنه سيعامل المواطن اليهودي الصالح معاملة المسلم الصالح" (10).

وكان الشرط الضمني وراء هذه المؤاخاة! -بين اليهود والشيعة- على حد وصف أحد الحاخامات، هو تحريم النشاط الصهيوني وتجريم كل من يقوم به ويدعو إليه، واليهود بدورهم فهموا المعادلة ومن ثم جاءت مواقفهم المعلنة تجاه إسرائيل متطابقة مع الموقف الإيراني الرسمي، فاليهود الإيرانيون يرون أن إسرائيل دولة مغتصبة لحقوق الفلسطينيين وأن الفلسطينيين ضحايا للعدوان المتكرر من قبل الإسرائيليين، ويفرق اليهود الإيرانيين -كما تفرق الحكومة الإيرانية والشعب الإيراني- بين اليهودية والصهيونية، فيرون أنه لا مشكلة في التعايش مع اليهودي غير المؤدلج في بلد إسلامي كإيران أو غيرها، إنما المشكلة مع اليهودي ذوي المرجعيات الصهيونية المتطرفة، وإسرائيل بدورها راضية عن هذا الوضع، ولم تبد أي امتعاض من هذا الموقف، ولذا لم نر أثرا لهذا الخلاف -الظاهري- بين يهود إيران وإسرائيل، وهي مسألة تحتاج إلى بحث شديد -ليس المجال هنا مجالها- لبيان طبيعة العلاقة بين اليهود الإيرانيين وبين الكيان الصهيوني، وما يدار في كواليس العلاقة بينهما.

أهل السنة واليهود الإيرانيون والشيعة:
في مقابل المؤاخاة الشيعية اليهودية وجد عداء شيعي سني، سعى الشيعة إلى تعميقه عبر العديد من الممارسات التعسفية تجاه أهل السنة في إيران، حيث تم حرمانهم من كثير من الحقوق (الدينية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية) رغم أنهم ثاني أكبر جماعة دينية في إيران بعد الشيعة، وليس أدل على تلك المعاداة من خلو مدن إيرانية كبرى كـ(طهران، وقم) من مساجد لأهل السنة، إضافة إلى المعاملة السيئة التي يلقاها أهل السنة من قبل الشيعة (أفرادًا وسلطة).

ولعل شهادة الأعداء في هذا المقام تكون أوقع في بيان الحال، لذا سأكتفي في هذه النقطة بنقل نصَّين من مقال توثيقي للكاتب الإسرائيلي (عاموس عوز) يوثق فيه ما شاهده في زيارته لإيران العام الماضي، مقارنا فيه أوضاع أهل السنة بأوضاع اليهود الإيرانيين، يقول الكاتب: "بدأنا بجولة تفقدية للمعابد اليهودية في طهران، واستغربت كثيرا مما شاهدته في هذه المعابد من فخامة في البناء والزخارف المعمارية، والتي طُعِّمت بلون الفن المعماري الفارسي، واستغربتُ أكثر عندما سمعت بأن في طهران لوحدها أكثر من 12 معبد -كنس- لليهود، كما توجد 10 مراكز لبيع لحم الكاشر المذبوح على الطريقة اليهودية في طهران، كما يوجد أكثر من 85 معبد -كنس- لليهود في مختلف المدن الإيرانية، فوجدت أن اليهود في إيران يعيشون حياة شبه عادية، برغم وجود بعض المضايقات من قبل الحكومة إلا أنها لا تذكر" (11).

وفي المقابل من هذا بين الكاتب: "أن عدد السنة في طهران لوحدها مليون ونصف مسلم سني، ولا يمتلكون مسجد سني واحد لهم في طهران كلها، كما أن عدد السنة الذين تم تنفيذ حكم الإعدام بحقهم خلال الخمس سنوات الماضية يزيد عن 1500 شخص، وأن عدد المعتقلين السنة في السجون الإيرانية يزيد عن 4000 شخص، كما أن النظام الإيراني يجرم أي سني يحاول نشر المذهب السني في إيران!" (12)، وبين الكاتب أنه في المقابل من هذا لا توجد حالة إعدام واحده بحق أي يهودي حدثت منذ سنوات عديدة بالإضافة إلى عدم وجود أي معتقلين سياسيين يهود في السجون الإيرانية، كما أن لليهود الحرية في إنشاء المدارس والمعابد اليهودية، وخلص الكاتب من مقاله إلى حقيقة مفادها: "أن اليهودي الفارسي أحسن حالاً من وضع المسلم السني في إيران".

حقيقة العداء الصهيو شيعي بين الدولة الإيرانية والكيان الإسرائيلي:
نأتي الآن إلى قطب الرحى وقضية القضايا في المسألة الإيرانية الإسرائيلية، ألا وهي طبيعة العلاقة بين النظامين الإيراني والإسرائيلي، هل هي علاقة عداء، أم علاقة وفاق، أم أن كلا الجوابين (إيجاباً وسلباً) لا يصحان؟ حقيقة الأمر إن العلاقة بين اليهود والشيعة علاقة في غاية التعقيد، لأن كلا الجانبين حريص كل الحرص على تصدير خطاب إعلامي مضلل، كما أن مبدأ التقية معمول به عند كل من الشيعة واليهود، وفوق هذا وذاك فالسياسية لا أخلاق لها، والمصلحة تعلو كل مبدأ مهما سما.

وبتحليل كلا الخطابين (الإعلامي والسياسي) المتبادلين بين إيران وإسرائيل، ومقارنة مضامينهما بما هو حاصل على أرض الواقع نكتشف زيف الادعاء القائل بأن إيران وإسرائيل عدوتان، غير أن هذه المقارنة لا تصب على أية حال في الاتجاه المعاكس، بل إن خلاصة ما يخرج به الباحث من هذه الإشكالية أن للدولتين مصالح مشتركة يتوافقان عليها، وإلى جانب هذه المصالح هناك خلاف على أمور أخرى، فهما عليها ما بين شد وجذب، في جو يسوده في غالب الأحيان لغة التوافق وتمرير المصالح.

نخلص من هذا إلى نتيجة مفادها: أن العلاقة الإيرانية الإسرائيلية علاقة مصالح، وأن الخلافات بين إسرائيل وإيران لم تصل على أية حال إلى مربع العداء، ولن تصل على ما يبدو طالما بقي العدو المشترك بين اليهود والشيعة، والذي تمثله الدول العربية والإسلامية التي تدين بالمذهب السني، والملاحظ أن هذه العلاقة في أسوأ أحوالها لا تعدو أن تكون مناوشات عسكرية على أرض محايدة، وهذا ما حدث في حرب لبنان 2006 م، فلم يكن للبنان في هذه الحرب ناقة ولا جمل، وإنما هي مناوشات بين الثالوث (الأمريكي والإسرائيلي والإيراني)، وقد كسب منه الجميع والخاسر الوحيد كان لبنان، وكثير ممن انطلت عليهم هذه الكذبة، فظن خيرا بحسن نصر الله (كومبارس) هذه المسرحية.

وهناك الكثير من الشواهد المؤيدة لهذا الرأي، ومنها قوة العلاقات بين البلدين على كافة المستويات، وفي مجالات عدة منها الزراعة والصناعة، بل إن إيران استعانت بخبراء إسرائيليين في المجال الحربي وهو الأمر الذي كشفته تقارير صحفية داخل إسرائيل وخارجها، وقديما دوت في الأفاق فضيحة (إيران جيت) التي كشفت زيف الادعاءات الإيرانية، حيث كُشف للعالم أن سيلا من الأسلحة وقطع الغيار كان يشحن من أمريكا عبر إسرائيل إلى طهران أثناء حربها مع العراق.

يهود أصبهان أتباع الدجال، فمن يتّبع الشيعةُ؟:
نأتي للنقطة الأخيرة في هذا المقال والتي تخص معتقد الشيعة واليهود في مسألة (المهدي) من الوجهة الشيعية، و (المسيح الدجال) من الوجهة اليهودية، أو ما يعرف عندهم بـ(المسيا المنتظر)، وقبل الحديث عن هذا الأمر نذّكر بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا: «يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة»، ففي هذا الحديث إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بأن يهود إيران سيكونون من أتباع المسيح الدجال، بل سيكونون من أول أتباعه وسيخرج الدجال فيهم، بحسب روايات أخرى، وفي ذلك يقول الحافظ ابن كثير: "يكون بدء ظهوره من أصبهان، من حارة منها يقال لها اليهودية، وينصره من أهلها سبعون ألف يهودي عليهم الأسلحة والتيجان وهي الطيالسة الخضراء" (13).

وواقع اليهود في إيران يبرهن على صدق هذا الحديث من حيث وجود كثرة عددية لليهود في إيران، فيهود إيران هم ثاني أكبر تجمع يهودي في المنطقة، كما أنهم يعتبرون الأقلية الأكثر سعادة من بين أقليات العالم، وفوق ذلك فهم يعتقدون أن إسرائيل كيان غير شرعي مخالف لإرادة الرب التي تشترط مجيء المسيح لكي تقوم دولتهم، والشيعة تعتقد أن محمد بن الحسن العسكري -وهو الإمام الثاني عشر عندهم- هو المهدي المنتظر، ويزعمون أنه ولد سنة (255 هـ)، واختفى في سرداب (سُرَّ من رأى) سنة 265 هـ، ومنذ هذا الوقت وهم ينتظرون خروجه لينتقم لهم من أعدائهم" (14)، غير أن ما صح في قصة المهدي أنه رجل من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يأتي في آخر الزمان يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وظلما (15).

وبمقارنة معتقد الشيعة في المهدي وما يعتقده اليهود في مسيحهم المنتظر، يتبين لنا أن كلا المنتظرين خرافة، فمسيح اليهود المنتظر كان عيسى عليه السلام لكنهم أعرضوا عنه، ومهدي الشيعة أكذوبة من بدعهم، وبناء على ذلك يمكننا القول أن مهدي الشيعة ما هو إلا الدجال الذي ينتظره اليهود، وليس بمستبعد أن يكون لليهود يد في ترسيخ هذه العقيدة في أذهان الشيعة، فقد أفسدها في البدء عبد الله ابن سبأ اليهودي، فأضلهم وانحرف بهم عن صحيح الدين، وحمل اللواء بعد ذلك عنه عدد من اليهود المتخفين.

ومن نقاط الاتفاق في المعتقد بين مهدي الشيعة ومسيح اليهود: أن هناك من كلا الفريقين من يرى حرمة إقامة أي شكل من أشكال الدولة في وقت غيبة المنتظر، فهناك فريق من الشيعة يرى أن وجود دولة شيعية خطيئة وجريمة تنافي عقائدهم (16)، والأمر نفسه عند اليهود حيث ترى جماعة من المتدينين اليهود أن دولة إسرائيل قد قامت على يد نفر من الكافرين الذين حرفوا مشيئة الله بعلمهم بدلا من انتظار المسيح الموعود (17).

خاتمة:
بعد هذه الجولة في أحوال اليهود في الدولة الفارسية لعل السؤال الأكثر إلحاحا على ذهن القارئ هو: هل لليهود الإيرانيين دور في السياسة الإيرانية الداخلية أو الخارجية؟ وللإجابة على هذا السؤال نقول: إن اليهود الإيرانيين كأي أقلية في العالم تسعى إلى فرض رؤاها وأطروحاتها الفكرية والعقائدية والسياسية، غير أن هذا الأمر مع أقلية كاليهود في بلد كإيران تحديدا له طبيعة خاصة يجعل من أي تحرك لليهود عملا مشبوها، واليهود يدركون هذا الأمر جيدا لذلك فقد اكتفوا بالمطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية مع إعطائهم الحرية في أقامة شعائرهم الدينية، إلى غير ذلك من الحقوق التي لا تأثير لها بشكل مباشر على السياسية الإيرانية، غير أننا لا يمكننا أن نبرئ ساحة اليهود تماما من تدخلات غير مباشرة عن طريق بث الموالين لهم في مراكز صنع القرار الإيراني داخل المطبخ السياسي وبين العمائم المنظرة للدولة الشيعية.

ــــــــــــــ

الهوامش:
(1) ينظر: اليهود في إيران- مأمون كيوان: (ص:17) - بيسان للنشر– بيروت- ط1- 2000م.
( 2) دراسات في تاريخ إيران الحديث- د. كمال مظهر أحمد: (ص:183)- طبع الأمانة العامة للشباب- بغداد- 1985م.
(3) ينظر: الموسوعة الحرة ويكيبيديا- سكان إيران.
(4) اليهود في إيران- مأمون كيوان: (ص:79).
(5) موسوعة اليهود واليهودية للدكتور عبد الوهاب المسيري: (2/189).
(6) مقال: "قصة اليهود المقسورين من المشهد: بطولة يهودية" - د. ريفكا شيفك - مركز أورشليم- القدس للشؤون العامة.
(7) موسوعة اليهود واليهودية للدكتور عبد الوهاب المسيري: (2/199).
(8) العقيدة والشريعة في الإسلام جولد زيهر: (ص:280) – دار الكتب الحديثه- د.ت.
(9) الأقدس– للبهاء: (ص:50).

(10) اليهود في إيران- مأمون كيوان: (ص:57).
(11) كاتب إسرائيلي:وجدت الصبية يلعبون الكره في مسجد لأهل السنة في طهران- شهادة للكاتب عاموس عوز
(12) المرجع السابق.
(13) النهاية في الملاحم والفتن للحافظ ابن كثير: (1/88)- دار الكتب العلمية- لبنان بيروت.
(14) ينظر: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية- للدكتور ناصر القفاري: (2/841).
(15) أشراط الساعة ليوسف الوابل: (ص:249).
(16) كالحال عند جماعة الحجتية الإيرانية المتطرفة.
(17) ‏اليهود تاريخ وعقيدة- كامل سعفان: (ص:167)- دار الاعتصام-1981م.
 

رمضان الغنام

كاتب إسلامي مصري التحصيل العلمي: "باحث بالدكتوراه"، تخصص الدراسات الإسلامية، جامعة طنطا.