العلاّمة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
العلاّمة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (1347هـ - 1421هـ) شاع علمه في الآفاق، وشهد القاصي والداني بفضله وعلو مكانته، إن سيرة هذا الشيخ الجليل وغيره من العلماء المخلصين الناصحين السائرين على نهج السلف الصالح رضوان الله عليهم تعتبر حافزاً إيمانياً للتأسي بهم واقتفاء آثارهم والاستفادة من الدروس التي تزخر بها أيامهم.
شاع علمه في الآفاق، وشهد القاصي والداني بفضله وعلو مكانته، إن سيرة هذا الشيخ الجليل وغيره من العلماء المخلصين الناصحين السائرين على نهج السلف الصالح رضوان الله عليهم تعتبر حافزاً إيمانياً للتأسي بهم واقتفاء آثارهم والاستفادة من الدروس التي تزخر بها أيامهم.
الشيخ محمد بن عثيمين ذلك العالم الجليل والمربي الفاضل والقدوة الصالحة في العلم والزهد والصدق والإخلاص والتواضع والورع والفتوى.
هو شيخ التفسير والعقيدة والفقه والسيرة النبوية والأصول والنحو وسائر العلوم الشرعية.
هو العالم الداعي إلى الله على بصيرة، الذي انتفع بعلمه المسلمون في شتى أنحاء العالم الإسلامي والذي أجمعت القلوب على قبوله ومحبته وفضله وعلو مرتبته.
نسبه ومولده
هو صاحب الفضيلة الشيخ العالم المحقق، الفقيه المفسّر، الورع الزاهد، محمد ابن صالح بن محمد بن سليمان بن عبد الرحمن آل عثيمين من الوهبة من بني تميم. ولد في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك عام (1347هـ) في عنيزة -إحدى مدن القصيم- في المملكة العربية السعودية.
نشأته العلمية
ألحقه والده رحمه الله تعالى ليتعلم القرآن الكريم عند جدّه من جهة أمه المعلِّم عبد الرحمن بن سليمان الدامغ رحمه الله، ثمَّ تعلَّم الكتابة، وشيئًا من الحساب، والنصوص الأدبية في مدرسة الأستاذ عبدالعزيز بن صالح الدامغ حفظه الله، وذلك قبل أن يلتحق بمدرسة المعلِّم علي بن عبد الله الشحيتان رحمه الله حيث حفظ القرآن الكريم عنده عن ظهر قلب ولمّا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره بعد.
وبتوجيه من والده رحمه الله أقبل على طلب العلم الشرعي، وكان فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله يدرِّس العلوم الشرعية والعربية في الجامع الكبير بعنيزة، وقد رتَّب اثنين (هما الشيخان محمد بن عبد العزيز المطوع، وعلي بن حمد الصالحي رحمهما الله تعالى) من طلبته الكبار؛ لتدريس المبتدئين من الطلبة، فانضم الشيخ إلى حلقة الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع رحمه الله حتى أدرك من العلم في التوحيد، والفقه، والنحو ما أدرك.
ثم جلس في حلقة شيخه العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، فدرس عليه في التفسير، والحديث، والسيرة النبوية، والتوحيد، والفقه، والأصول، والفرائض، والنحو، وحفظ مختصرات المتون في هذه العلوم. ويُعدّ فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله هو شيخه الأول؛ إذ أخذ عنه العلم؛ معرفةً وطريقةً أكثر مما أخذ عن غيره، وتأثر بمنهجه وتأصيله، وطريقة تدريسه، واتِّباعه للدليل.
وعندما كان الشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان رحمه الله قاضيًا في عنيزة قرأ عليه في علم الفرائض، كما قرأ على الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله في النحو والبلاغة أثناء وجوده مدرّسًا في تلك المدينة. ولما فتح المعهد العلمي في الرياض أشار عليه بعضُ إخوانه (هو الشيخ علي بن حمد الصالحي رحمه الله تعالى) أن يلتحق به، فاستأذن شيخَه العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله فأذن له، والتحق بالمعهد عامي (1372 – 1373هـ). ولقد انتفع خلال السنتين اللّتين انتظم فيهما في معهد الرياض العلمي بالعلماء الذين كانوا يدرِّسون فيه حينذاك ومنهم: العلامة المفسِّر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ الفقيه عبد العزيز بن ناصر بن رشيد، والشيخ المحدِّث عبد الرحمن الإفريقي رحمهم الله تعالى.
وفي أثناء ذلك اتصل بسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله، فقرأ عليه في المسجد من صحيح البخاري ومن رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، وانتفع به في علم الحديث والنظر في آراء فقهاء المذاهب والمقارنة بينها، ويُعدُّ سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله هو شيخه الثاني في التحصيل والتأثُّر به. ثم عاد إلى عنيزة عام (1374هـ) وصار يَدرُسُ على شيخه العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ويتابع دراسته انتسابًا في كلية الشريعة، التي أصبحت جزءًا من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة، حتى نال الشهادة العالية.
تدريسه
توسَّم فيه شيخه النّجابة وسرعة التحصيل العلمي فشجّعه على التدريس وهو ما زال طالبًا في حلقته، فبدأ التدريس عام (1370هـ) في الجامع الكبير بعنيزة. ولمّا تخرَّج من المعهد العلمي في الرياض عُيِّن مدرِّسًا في المعهد العلمي بعنيزة عام (1374هـ). وفي سنة (1376هـ) توفي شيخه العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى فتولّى بعده إمامة الجامع الكبير في عنيزة، وإمامة العيدين فيها، والتدريس في مكتبة عنيزة الوطنية التابعة للجامع؛ وهي التي أسسها شيخه رحمه الله عام (1359هـ).
ولما كثر الطلبة، وصارت المكتبة لا تكفيهم؛ بدأ فضيلة الشيخ رحمه الله يدرِّس في المسجد الجامع نفسه، واجتمع إليه الطلاب وتوافدوا من المملكة وغيرها حتى كانوا يبلغون المئات في بعض الدروس، وهؤلاء يدرسون دراسة تحصيل جاد، لا لمجرد الاستماع، وبقي على ذلك، إمامًا وخطيبًا ومدرسًا، حتى وفاته رحمه الله تعالى. بقي الشيخ مدرِّسًا في المعهد العلمي من عام (1374هـ إلى عام 1398هـ) عندما انتقل إلى التدريس في كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وظل أستاذًا فيها حتى وفاته رحمه الله تعالى. وكان يدرِّس في المسجد الحرام والمسجد النبوي في مواسم الحج ورمضان والإجازات الصيفية منذ عام (1402هـ) ، حتى وفاته رحمه الله تعالى.
وللشيخ رحمه الله أسلوب تعليمي فريد في جودته ونجاحه، فهو يناقش طلابه ويتقبل أسئلتهم، ويُلقي الدروس والمحاضرات بهمَّة عالية ونفسٍ مطمئنة واثقة، مبتهجًا بنشره للعلم وتقريبه إلى الناس.
منهجه العلمي
لقد أوضح الشيخ رحمه الله منهجه، وصرّح به مرات عديدة أنه يسير على الطريقة التي انتهجها شيخه العلامة عبد الرحمن الناصر السعدي، وهو منهج خرج به عن المنهج الذي يسير عليه علماء الجزيرة عامتهم أو غالبيتهم، حيث اعتماد المذهب الحنبلي في الفروع من مسائل الأحكام الفقهية والاعتماد على كتاب (زاد المستقنع) في فقه الأمام أحمد بن حنبل، فكان الشيخ عبد الرحمن السعدي معروفًا بخروجه عن المذهب الحنبلي وعدم التقيد به في مسائل كثيرة. ومنهج الشيخ السعدي هو كثيرًا ما يتبنى آراء شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم ويرجحهما على المذهب الحنبلي، فلم يكن عنده جمود تجاه مذهب معين، بل كان متجردًا للحق، وقد انطبعت فيه هذه الصفة وانتقلت إلى تلميذه محمد الصالح العثيمين.
أضواء على منهج الإمام ابن عثيمين
إن العلماء في الأمة لقليل وإن الأمة الربانيين في العلماء لنادرون وإن الشيخ الإمام العلامة محمد العثيمين رحمه الله من هذا النادر من ذلك القليل، وإن الشيخ وقد انتقل إن شاء الله إلى واسع رحمة الله ومغفرته قد بقي بين أيدينا علمه وإنتاجه وعطائه نبراساً وضياء ونوراً تنهل منه أجيال الأمة ما شاء الله لها أن تنهل وإن منهج أي عالم من علماء الأمة الربانيين هو الإطار الذي من خلاله يتم ترتيب وتنظيم عطائه العلمي وتفاعله مع قضايا الحياة ومستجدات الأحداث ونوازل الأمور ومن هنا فإن من أهم ما ينبغي الاهتمام به والالتفات إليه في البحث في تراث الأئمة الأعلام كأمثال شيخنا رحمه الله هو منهجهم، وإن نظرة عجلى على منهج الشيخ تظهر لنا من معالم ذلك المنهج السديد:
1- الإخلاص لله سبحانه وتعالى ورجاء ما عنده وإن كان الإخلاص أمراً قلبياً خفياً إلا أن شواهده وأدلته والقرائن التي تشير إليه في حياة الإنسان، يمكن أن تخفي من التواضع والزهد وحسن الخلق والإحسان إلى الناس والورع والابتعاد عن مواطن الشبه والإعراض عن عما لا ينفع عند الله، والاستغراق في العبادة والتمسك والتقليل من متاع الدنيا وكل من عرف شيخنا رحمه الله عرف فيه كل هذه الخلال.
2- الاحتكام إلى الدليل والبرهان والحجة والبيان في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا المعلم من معالم منهج الإمام رحمه الله، ارتفع به عن حضيض التقليد وارتقى به إلى مقام الأئمة المجتهدين. وإن المتتبع لدروسه وفتاواه ومؤلفاته ليدرك اطلاعه الواسع على علوم الكتاب والسنة ورسوخه في معرفة مذاهب العلماء وأقوالهم، وتفريقه بين مواطن الإجماع ومواطن الخلاف، وما ينبغي لكل نوع من هذه المسائل، وفي الوقت الذي غاية العلم والفقه عند الكثير حفظ أو قراءة متن فقهي والاقتصار عليه، نجد أن الشيخ رحمه الله يخوض عباب العلوم الأصلية وينفتح على جميع المذاهب ويبحث ويناقش، ويرجح بناء على منهج علمي دقيق وقواعد أصولية راسخة، ومن هنا لقي الشيخ من القبول في جميع بلدان العالم الإسلامي ما لم يلقه كثير من معاصريه.
3- السلفية المستبصرة، والتي من خلالها حافظ الشيخ على منهجه في الفهم لنصوص الشرع وسلامة منهجه في الاستدلال، بحيث أن المتابع لعطائه العلمي يلمس التفعيل الراشد لعلم أصول الفقه في مرحلة صفائه ونقائه وسلفيته. فقل أن يذكر رحمه الله حكماً فقهياً أو فتوى شرعية إلا ويذكر معها دليلها ووجه الاستدلال، ورد الاعتراضات الواردة على ذلك والقواعد الأصولية والفقهية التي يبني عليها حكم هذا الفرع الفقهي، فأعاد لعلم الاجتهاد رونقه وبهاءه وثمرته العلمية.
4- استيعابه لقضايا العصر ومستجدات الحياة وانفتاحه على كل جديد، والاتصال بأهل التخصص وسؤالهم عن خفاياه قبل الفتوى والحديث فيه، ولقد رأيت له فتاوى اجتهادية خالف فيها بعض ما اشتهر عند العلماء السابقين، حين ثبت له طبياً عدم صحة مستندهم الذي بنوا عليه اجتهادهم، ولذلك كان بحق رحمه الله - أحد أئمة الصحوة المعاصرة ولا زال.
5- احترامه لغيره من العلماء وثناؤه عليهم وإن اختلفوا معه، وحسن تأدبه معهم حتى وإن كانوا أقل منه علماً أو سناً أو منزلة وشهرة عند الناس. وقد رأيت منه رحمه الله في هذا الأمر في مجالس كثيرة خاصة وعامة العجب العجاب مما جمع القلوب حوله، ويسر للنفوس الاستفادة من علمه الجم الغزير.
6- حسن خلقه مع الناس عامة مما نتج عنه لطف عبارته ودوام ابتسامته وسعيه الدؤوب إلى مل ما يجمع ولا يفرق ويوحد ولا يشتت، وإنها لخصلة افتقدها الكثير من أهل العلم في تأليفهم ودروسهم، فنفرت منهم القلوب وجفلت عنهم النفوس. بينما نجد شيخنا رحمه الله اجتمعت عليه قلوب الخاصة والعامة، ووضع الله له القبول في الأرض ولم يؤثر عليه رحمه الله أن جرح أحداً في كتاب أو منبر، وإنما كان النصح اللطيف الرفيق لإخوانه المسلمين.
7- استغراقه وقته كله في النافع المفيد تعلماً أو تعليماً أو ذكراً أو عبادة، في مجلسه وسيارته ومسجده وحله وترحاله. كنا في إحدى السنوات معه في مخيم التوعية في الحج في يوم عرفة في ثلة من العلماء الأخيار، فقضى وقته كله في إفادة وذكر وعبادة حتى أنني تابعته بدقة، فلم أجده فرّط في شيء من وقته من الصباح حتى غروب الشمس، وبهذا الاجتهاد المنقطع النظير في زماننا إلا في القلائل من أمثاله بلغ ما بلغ رحمه الله.
8- عدم فصله بين العلم والدعوة والتربية، فهو عالم فقيه وداعية مبلغ ومربٍّ حاذق، وهذا السمت النبوي الراشد الذي تميز به الرعيل الأول من الصحابة والتابعين، والذي كان به علماء السلف حملة رسالة ودعاة هداية قلّ في العصور المتأخرة فتحول العلم إلى مهنة احترافية لكسب العيش.
إلا أن شيخنا رحمه الله من أحيا سمت النبوة هذا، فكما أنه غرة العلماء فهو أستاذ المربين والمعلمين، قضى في ذلك جلّ حياته في المعهد والجامعة وحلقات التدريس، وهو كذلك من رؤوس الدعاة وأئمتهم من خلال الخطابة في المسجد والمحاضرات والندوات في المناطق المختلفة وفي وسائل الإعلام. وبهذا فعّل رحمه الله علمه وحوله إلى وسيلة لهداية الناس وإصلاح أحوالهم وحل مشكلاتهم (موقع المختار الإسلامي على الإنترنت).
آثاره العلمية
ظهرت جهوده العظيمة رحمه الله تعالى خلال أكثر من خمسين عامًا من العطاء والبذل في نشر العلم والتدريس والوعظ والإرشاد والتوجيه وإلقاء المحاضرات والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. ولقد اهتم بالتأليف وتحرير الفتاوى والأجوبة التي تميَّزت بالتأصيل العلمي الرصين، وصدرت له العشرات من الكتب والرسائل والمحاضرات والفتاوى والخطب واللقاءات والمقالات، كما صدر له آلاف الساعات الصوتية التي سجلت محاضراته وخطبه ولقاءاته وبرامجه الإذاعية ودروسه العلمية في تفسير القرآن الكريم والشروحات المتميزة للحديث الشريف والسيرة النبوية والمتون والمنظومات في العلوم الشرعية والنحوية.
أعماله وجهوده الأخرى
إلى جانب تلك الجهود المثمرة في مجالات التدريس والتأليف والإمامة والخطابة والإفتاء والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى كان لفضيلة الشيخ أعمال كثيرة موفقة منها ما يلي:
· عضوًا في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية من عام (1407هـ) إلى وفاته.
· عضوًا في المجلس العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في العامين الدراسيين (1398 – 1400هـ).
· عضوًا في مجلس كلية الشريعة وأصول الدين بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في القصيم ورئيسًا لقسم العقيدة فيها.
· في آخر فترة تدريسه بالمعهد العلمي شارك في عضوية لجنة الخطط والمناهج للمعاهد العلمية، وألّف عددًا من الكتب المقررة بها.
· عضوًا في لجنة التوعية في موسم الحج من عام (1392هـ) إلى وفاته رحمه الله تعالى حيث كان يلقي دروسًا ومحاضرات في مكة والمشاعر، ويفتي في المسائل والأحكام الشرعية.
· ترأس جمعية تحفيظ القرآن الكريم الخيرية في عنيزة من تأسيسها عام (1405هـ) إلى وفاته.
· ألقى محاضرات عديدة داخل المملكة العربية السعودية على فئات متنوعة من الناس، كما ألقى محاضرات عبر الهاتف على تجمعات ومراكز إسلامية في جهات مختلفة من العالم.
· من علماء المملكة الكبار الذين يجيبون على أسئلة المستفسرين حول أحكام الدين وأصوله عقيدة وشريعة، وذلك عبر البرامج الإذاعية من المملكة العربية السعودية وأشهرها برنامج (نور على الدرب).
· نذر نفسه للإجابة على أسئلة السائلين مهاتفه ومكاتبة ومشافهة.
· رتَّب لقاءات علمية مجدولة، أسبوعية وشهرية وسنوية.
· شارك في العديد من المؤتمرات التي عقدت في المملكة العربية السعودية.
ولأنه يهتم بالسلوك التربوي والجانب الوعظي اعتنى بتوجيه الطلاب وإرشادهم إلى سلوك المنهج الجاد في طلب العلم وتحصيله، وعمل على استقطابهم والصبر على تعليمهم وتحمل أسئلتهم المتعددة، والاهتمام بأمورهم.
وللشيخ رحمه الله أعمال عديدة في ميادين الخير وأبواب البرّ ومجالات الإحسان إلى الناس، والسعي في حوائجهم وكتابة الوثائق والعقود بينهم، وإسداء النصيحة لهم بصدق وإخلاص.
مكانته العلمية
يُعَدُّ فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى من الراسخين في العلم الذين وهبهم الله بمنّه وكرمه تأصيلاً ومَلَكة عظيمة في معرفة الدليل واتباعه واستنباط الأحكام والفوائد من الكتاب والسنّة، وسبر أغوار اللغة العربية معانِيَ وإعرابًا وبلاغة. ولما تحلَّى به من صفات العلماء الجليلة وأخلاقهم الحميدة والجمع بين العلم والعمل أحبَّه الناس محبة عظيمة، وقدّره الجميع كل التقدير، ورزقه الله القبول لديهم واطمأنوا لاختياراته الفقهية، وأقبلوا على دروسه وفتاواه وآثاره العلمية، ينهلون من معين علمه ويستفيدون من نصحه ومواعظه.
وقد مُنح جائزة الملك فيصل رحمه الله العالمية لخدمة الإسلام عام (1414هـ)، وجاء في الحيثيات التي أبدتها لجنة الاختيار لمنحه الجائزة ما يلي:
أولاً: تحلِّيه بأخلاق العلماء الفاضلة التي من أبرزها الورع، ورحابة الصدر، وقول الحق، والعمل لمصلحة المسلمين، والنصح لخاصتهم وعامتهم.
ثانيًا: انتفاع الكثيرين بعلمه؛ تدريسًا وإفتاءً وتأليفًا.
ثالثًا: إلقاؤه المحاضرات العامة النافعة في مختلف مناطق المملكة.
رابعًا: مشاركته المفيدة في مؤتمرات إسلامية كثيرة.
خامسًا: اتباعه أسلوبًا متميزًا في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وتقديمه مثلاً حيًّا لمنهج السلف الصالح؛ فكرًا وسلوكًا.
وقد جعل الله تعالى لكتبه وفتاويه قبولاً بين علماء المسلمين وعامتهم، وهذه علامةُ خير، ودليلُ قبولٍ إن شاء الله تعالى؛ فإن الله تعالى إذا أحب عبداً بسط له القبول في الأرض، وسخّر قلوبَ العباد لمحبته. وهكذا نحسب الشيخ رحمه الله، ونظن أنه من المقبولين ولا نزكي على الله أحداً؛ فكم فُجع الناس لما تسامعوا بمرضه، ودعوا له بظهر الغيب، وتزاحموا على زيارته، وأكثروا السؤال عنه وما كانوا يرجون منه مالاً ولا جاهاً، ولا يخافون منه سطوة أو انتقاماً؛ ولكنها المحبة التي داخلت قلوبهم من غير اختيار منهم، وإلا لما فُجعوا به، وحزنوا عليه وبكوه، وقلوب العباد بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء!!
إن شيخنا الذي ودّعنا إلى الدارِ الآخرة لم ينل مانال من منزلةٍ عند الناس بمالٍ اشترى به محبتهم، فما كان رحمه الله يملكُ الكثير من المال، وقد دفع غيرهُ الأموال الطائلة وفرقوها على الناس وما نالوا عشرَ معشار محبةِ الناس له. ولا حصل على تلك الرفعة بمنصب كان الناسُ يرجون من ورائه نفعاً، وقد تبوأ غيره عالي المناصب،وما حصّلوا ما حصّل من رفعة .
لم يكن شيخنُا الراحلُ شخصية صنعها لنا إعلامٌ كاذبٌ، أو أظهرتها لنا صحافةٌ صفراءُ عودتنا على الكذب والتزوير ورفع أسافل الناس من ممثلين ومغنين وراقصات! كلا؛ بل شيخنا رحمه الله تعالى أكرمُ وأجلُّ من ذلك، ويستحقُ ما صَرَفه الناس له من محبة وزيادة، وهو حريٌ بما قيل فيه، وأُثني به عليه، ولا يفيه المسلمون حقه مهما قالوا فيه ؛ إذ هو إمام كانوا يأتمون به في العلم، وفقيهٌ يلجؤون إليه في السؤال عن أمور دينهم، وإذا كان للأطباء حقٌ أن يُحترموا ويوقروا؛ لأن الناسَ يحتاجونَ إليهم في أبدانهم، ويستشيرونهم في أمراضهم فمن الآكد والأولى أن يوقر شيخنا وإخوانه من العلماء ؛ لأنهم أصلحوا قلوبنا بمواعظهم ودروسهم وفتاويهم، وهدونا إلى الصراط المستقيم بالدلالة على طريق الجنة؛ المذكورة في الكتاب والسنة، وحفظونا بعد حفظ الله تعالى من الإنحراف عن الإسلام ببيان حقيقته، وبيان ما يناقضه ويخالفه.
وهذه هي مهمةُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما قال الله تعالى مخاطباً رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
والعلماءُ ورثةُ الأنبياء، ورثوا الهدى الذي أُنزل عليهم، ووَرثِوا تبليغ هذا الهدى للناس كما كان الأنبياء يفعلون؛ فحقٌ على الأمة تبجيلهم وتوقيرهم، ورفعَ مكانتهم، والدعاء لهم فنسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يغفر لشيخنا، وأن يرفع ذكره في الملأ الأعلى، وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة إنه سميع مجيب (مجلة الجندي المسلم العدد 102 ).
عندما بكى ابن عثيمين
يقول أحد تلامذة الشيخ: الرقة ولين الفؤاد صفتان جميلتان مدح بهما الرسول صلى الله عليه وسلم قوماً من الناس، وذمّ آخرين يوم أن اتصفوا بنقيضها، وشيخنا العلامة الكبير محمد بن صالح العثيمين رحمه الله ممن عُرف بالقوة والحياة الجادة والثبات والشدة في الحق والكل يعرف عنه ذلك، لكن مما اتصف به شيخنا رحمه الله مع ذلك رأفة القلب وصفاء النفس ومحبة الخير والسعي لنفع الناس.. وعدد ما شئت مما يتصف به العلماء.
وبين يدي قصة عشتها وأثرت فيَّ أحداثها
عبد الرحمن بن داوود من خيرة طلاب شيخنا وأحاسنهم أخلاقاً من يمن الإيمان والحكمة، له في قلوب الجميع محبة ومكانة حصل له حادث توفي على إثره وهو في طريقه لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حزن الجميع للنبأ وسلمنا لقضاء الله وقدره ووضعت الجنازة بعد صلاة المغرب ليتقدم شيخنا رحمه الله ويصلي عليه، ثم تُحمل الجنازة إلى المقبرة. وفجأة بعد الصلاة افتقدنا الشيخ رحمه الله فقال البعض: "لعله تبع الجنازة" وقال آخرون: "لعل الشيخ صائم فذهب للإفطار كما هي عادته وسيعود بعد ربع ساعة" أما البعض فقد رأوا شيخنا عندما نزل بعد الصلاة إلى قبو المسجد، فجلسوا حول كرسي الشيخ في انتظار صعوده للدرس اليومي.
ثم قام أحد الأخوة من طلبة الشيخ المعروفين ممن لم ير الشيخ فنزل إلى القبو ريثما يعود الشيخ، وفجأة وهو ينزل إذ بالشيخ رحمه الله يصعد من القبو وهو يمسح الدموع عن وجهه، وقد ظهر على وجهه التأثر الشديد والبكاء، هنا ألقى صاحبنا على شيخنا السلام ثم صعد، أما الشيخ فقد كفكف دمعه وصعد إلى مكان الدرس وجلس على كرسيه والجميع حوله ثم ترحم على أخينا عبد الرحمن وذكره بخير ثم استمر في درسه وكأن شيئاً لم يكن.
ماذا نقول؟! ثبات وقوة في رقة و إيمان، رحم الله عبد الرحمن بن داود ورحم الله شيخنا فقد لحق المعلم بالطالب ونحن على الأثر .
مشاهدات من حياة الشيخ
هذه مشاهدات من كاتب هذه الأسطر مع الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، وأعلى درجته في عليين، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
دعي مرة لإلقاء محاضرة في المعهد الملكي الفني بالقصيم؛ فلما أنهى المحاضرة صار الخروج من باب غير باب الدخول؛ فسارع أحد الطلبة للإتيان بحذاء الشيخ وقال ذلك الطالب: سأحمل الحذاء حتى تخرج؛ فرفض الشيخ وقال مازحاً: "أتريد أن تأخذها لك."
قلت: "ما أحسن هذا الخلق والتواضع"؛ فكم من وجيه يُحْمَلُ حذاؤه ومشلحه؛ حتى خلع المشلح تجده لا يخلعه بنفسه؛ بل لا بد أن يؤتى من خلفه ويؤخذ!! أما الشيخ رحمه الله فكما رأيت تواضعه. وكان أيضاً إذا دخل المسجد حمل حذاءه بنفسه، ووضعه بجواره حيث يوجد عازل؛ لئلا تؤذي المأمومين.
في محاضرة أخرى أُعِدَّ في المسجد شيء من البخور فلما حضر الشيخ قدم له أحد الأخوة المبخرة، وأراد أن يزيد من العود؛ فرفض الشيخ وقال مازحاً: "إن كنت مصراً فأعطنيها".
أتيته مرة أنا وأحد المدرسين لنأخذه أيضاً لإلقاء محاضرة؛ فلما ركبنا السيارة قلت له: "عندي مجموعة من الأسئلة" فقال: "هل أحضرت مسجلاً؟" قلت له: "لا". فنزل ودخل البيت، وأتى بمسجل صغير لأسجل الأسئلة، ثم بعد الانتهاء أخذت الشريط، وأرجعت المسجل.
كنا مرة نطلعه على جوانب مبنى من المباني، وطلب ماءً فأتي به؛ فلما أراد الشرب ولم يكن هناك كرسي جلس على الأرض ليطبق سنة الشرب جالساً.
كان يحرص على ألا يُدنس العلم الذي بما يشينه؛ فحينما هَمّ أن يدخل أحد المكاتب رأى فيه صوراً معلقة فعدل إلى مكتب آخر ليس فيه صور. وكذلك لا يرضى بحضور مناسبات فيها منكرات.
يحرص الشيخ كثيراً على تصحيح الأخطاء عملياً؛ فكان الناس في السابق إذا أرادوا أن يصلوا على جنازة قاموا من حين يسلم الإمام، وقد تعلمت من الشيخ التريث لاسيما إذا كان من المصلين من يقضي ما فاته.
كذلك صلى الشيخ مرة على جنازة ولاحظ أن بعض المأمومين يرفع صوته بالتكبير إذا كبر الإمام؛ فلما فرغ الشيخ من الصلاة على الجنازة نبه الناس إلى عدم الجهر بالتكبير.
في بداية أحد دروسه رحمه الله في المسجد الحرام قال: "إني ألاحظ أن أيدي بعض الناس قد قطعت"؛ فشد الانتباه بذلك، ووضح: أن البعض من احترامهم وتبجيلهم ربما سارع بتقبيل الرأس قبل المصافحة، وبيّن أن هذا خلاف الهدي النبوي. فلا بد من البدء بالمصافحة.
كان إذا فرغ من الصلاة يأتي إليه البعض وربما استعجل أحدهم في السؤال؛ فيطلب منه الشيخ التريث حتى الفراغ من الأذكار.
يحرص على الجهر في أذكار ما بعد الصلاة، ويرى عدم تخصيص قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" بالجهر؛ بل بالتسبيح والتكبير والتحميد.
كان رحمه الله بعيداً عن التكلف، ولقد كان يقصد أحياناً أن يأتي إلى المسجد حافياً بلا حذاء ويروي حديثاً عن رسول الله أنه كان ينهى عن كثرة الإرفاه، ويأمر بالاحتفاء أحياناً.
يحرص الشيخ على اعتدال الصفوف؛ حتى إن المصلي لأول مرة خلفه قد يمل، ويظن أن هناك مبالغة؛ ولكن لاشك أن الشيخ يطبق سنة الرسول بذلك. فمما يفعل الشيخ كثيراً ألا يكبر حتى يقال له: قد تم الصف الثاني. أي: قبل أن يبدأ الناس صفاً ثالثاً.
رتب الشيخ وقته ترتيباً دقيقاً؛ فتجد أنه جعل الوقت في الذهاب إلى المسجد له خاصة: إما قراءة قرآن، أو ورد من الأذكار، أو استذكار محفوظات. أما في العودة من المسجد إلى المنزل فإنه يتلقى استفسارات الناس وذلك لمدة عشر دقائق أو أكثر لبعد المسافة، وربما جعل أحد الطلبة يقرأ عليه، ويعلق الشيخ لاسيما في صلاة الفجر.
بالنسبة لتلقي المعاريض أو الأسئلة المكتوبة فقد خصص لها بعد صلاة العصر؛ فبعد أن يفرغ من شرح الحديث اليومي يبقى لتلقي المعاريض، ويسمع ما عند أصحابه ويعمل ما يراه مناسباً.
أما الإجابة على أسئلة الهاتف فقد خصص لها الشيخ وقتاً يومياً قبل الظهر بنصف ساعة، وبعد الظهر إلى حوالي الساعة الثانية.
وكان إذا سافر خارج عنيزة يضع في هاتفه رداً تلقائياً يوضح الرقم والوقت الذي يمكن الاتصال به عليه.
أما التدريس فيومياً بين المغرب والعشاء، وهناك بعض الأيام يزيد درساً بعد صلاة العشاء، كذلك يستقبل المستفتين كل يوم خميس في بيته قبل الظهر لمدة ساعة إلا ربع تقريباً، منها عشر دقائق يفسر فيها آيات من القرآن الكريم. وله لقاء شهري بعد صلاة العشاء يوم السبت أظنه آخر سبت من كل شهر. هذا غير ما يعكف عليه الشيخ من التأليف والتصحيح في بيته.
يحرص الشيخ على الانتظام في الحلقة وأن تكون حلق الطلبة منتظمة، وينبه من كان متقدماً على إخوانه أو متأخراً، كذلك عند بدء الدرس وملاحظة وجود فراغات؛ فإنه يطلب أن تسد ولا يرى حقاً لمن يحجز المكان في الحلقة إذا بدأ الدرس، ويحث الطلبة على الإنصات؛ فإن لاحظ أحداً غير منصت فإنه ينبهه وربما سأله، كذلك يؤكد على أهمية الكتاب فيعتب على من لم يحضر كتابه لأهمية المتابعة والتعليق.
بالنسبة للأسئلة في الدرس يطلب أن تكون بعد الفراغ من الدرس، وكان متيحاً لكل درس ثلاثة أسئلة، ثم إنه جعل الأسئلة لمدة خمس دقائق.
كان يربي في طلبته أهمية الحفظ؛ فكثيراً ما يبدأ الدرس بالتسميع من الطلبة المتن الذي يدرسه، وكثيراً ما أكد على الحفظ. وسمعته يقول: ما استفدنا من شيء أعظم من الحفظ؛ لأن المسائل تنسى. ولقد حكى عن شيخه عبد الرحمن بن سعدي رحمهما الله أنه خصص مبلغ مائة ريال لمن يحفظ البلوغ، وكانت مائة ريال في ذلك الزمان تعدل عشرة آلاف ريال حالياً أو أكثر. وكان الشيخ أيضاً يحرص على أن يحفظ الطلبة ما نُظِمَ في القواعد العامة في الفقه أو العقيدة أو اللغة أو غيرها.
كان له رحمه الله في كل فن من فنون العلم القدح المعلى؛ ففي الأصول مثلاً شرح كتاب القواعد الجامعة للشيخ عبد الرحمن السعدي، وشرح القواعد النورانية لابن رجب، وله كتاب الأصول وشرحه، وله منظومة في أصول الفقه والقواعد الفقهية وشرحها، وفي التفسير فسر سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة، وله شرح للقرآن الكريم على تفسير الجلالين وقد أجاد واستدرك على الجلالين بعض ما فاتهما من تفسيرهما ونبه على ما هو خلاف عقيدة أهل السنة. وله تفسير للأجزاء الثلاثة الأخيرة عم وتبارك وقد سمع.
من حرص الشيخ على الترتيب والتوثيق كان يحرص على تسجيل الدروس والمحاضرات، والغالب أنه في بدء المحاضرات يبدأ بذكر اليوم والتاريخ والمكان وهذا لاشك أن فيه فائدة؛ حيث يمكن للمتابع والموثق أن يذكر الشيخ بالشيء الذي يريد أن يراجعه فيه.
كثيراً ما أكد الشيخ أهمية حماية أعراض العلماء؛ لأن استنقاصهم استنقاص للشريعة التي يحملونها، وكان يطلب من أي أحد رأى على عالم ما يستغربه أو سمع فتوى أنكرها أن يراجع فيها العالم نفسه؛ فربما نسبت للعالم ولم يقلها، أو ربما أخطأ الناقل، أو فسر القول على غير وجهه.
- كان يرجع إلى الصواب إذا رأى أن ما أفتى به غير صواب؛ ففي مسألة الرطوبات التي تخرج من المرأة قال: "كنت أفتي بنجاستها، واتضح لي عدم ذلك".
وكان لا يتردد أن يقول: "لا أعلم"، للشيء الذي لا يعلمه. فقد سئل يوماً عن القيام للجنازة إذا رؤيت من بعيد، فقال: "لا أدري".
من حرصه على اتباع السنة كان أكثر ما يلبس البياض من الثياب، ويتطيب ويستاك، ويجهر بالآية أحياناً في الصلاة السرية، ويفشي السلام، ويتضح ذلك على الرغم من طول المسافة بين المسجد والبيت؛ فتجده عندما يخرج من المسجد يتبعه الكثير بين سائل علم، أو مال ويحيطون به: كل منهم ينتظر دوره، ومع ذلك فلا يشغله ذلك عن إفشاء السلام.
وكان من لين جانبه أنه إذا قال له السائل: "إن عندي سؤالاً خاصاً"؛ كان يطلب من بقية من يمشي أن يستأخروا، وأحياناً يكون هناك من النساء من تنتظره للسؤال؛ فيقف حتى يجيبها.
كان ربما حفز الطلاب ونشطهم بإقامة مسابقة علمية كما في دروسه في الحرم المكي وتعد جوائز لذلك.
في الختام أوصي كل من قرأ هذا الكلام، وكل من يحب الشيخ، ويحس بخسارة العلم بفقده أن يقبل وينهل من العلم الذي خلفه؛ فلقد خلف والله علماً غزيراً، ولا أعلم من أهل العلم الأحياء من جمع الله له في حفظ علمه مثل هذا الشيخ؛ فهاهي كتبه كثيرة وفي كل فن، لاسيما كتابه (الشرح الممتع)، وها هي أغلب دروسه قد سجلت، وقد تخصصت فيها تسجيلات الاستقامة في عنيزة، ولها فرع في الرياض، وتوزع على باقي التسجيلات. وقد فرحنا بما عزم طلابه عليه من نشر علمه في موقع له في الأنترنت، علما أن ذلك بدأ في حياته ووضع رحمه الله مقدمة لذلك وقد وعد ورثته بإكمال هذا المشروع الذي يتيح بإذن الله تناول علمه للقريب والبعيد.
كذلك مما يحسن ذكره عن الشيخ حرصه على تبجيل ولاة الأمر، وعدم تشويه سمعتهم ومع ذلك فهو يسارع إلى إنكار أي منكر يراه بالكتابة والاتصال، وهو رحمه الله جمع بين تبجيل ولاة الأمر، وعدم المغالاة في الإطراء بمناسبة وغير مناسبة وهذه والله وسطية عزيزة.
قد علمت أخي القارئ بالخسارة الفادحة لفقد العلماء وأحب أن أذكر أن العلماء جعلهم الله سفينة نجاة وبر أمان؛ لأمور لعل من أبرزها: ما يحدث أحياناً من وجود اجتهاد يخطئ محله من بعض الغيورين؛ فيبين العلماء الحق بطريقة تقنع ويرجع فيها إلى الصواب، وفي المقابل طالما نصحوا الولاة وبينوا ما يرونه من خطأ، فبذلك تدرأ الفتن.
أما إذا ضعفت مكانة العلماء، واهتز قدرهم وفقدت المرجعية المحترمة المتفق عليها من الجميع؛ فإنه لا يؤمن من تنامي الفرقة، وظهور الاختلاف الذي هو بذرة الفتن، نسأل الله العافية.
مما رأيته في شيخنا
كان يذهب إلى المسجد ماشياً، ويرجع إلى بيته ماشياً كذلك، والمسجد يبعد عن بيته ميلاً واحداً تقريباً، فهذه عشرة أميال يقطعها رحمه الله يومياً ماشياً، ونادراً ما نراه إلا ومعه عدد من طلبة العلم الذين يسألونه أو يقرأون عليه متوناً، ولقد قرأت عليه مما قرأت وهو يمشي أكثر من مائة قاعدة فقهية جمعتها وأخي الشيخ مازن الغامدي، وشرحها الشيخ كاملة لنا في أشرطة مسجلة وكنت أتعجب من صبره وأريحية نفسه، وربما كان ذلك في يوم شديد البرودة حتى أنني ذات مرة كاد لساني أن ينعقد عن الكلام من شدة البرد، وهو لا يأبه لذلك ولا يهتم، صابراً محتسباً رحمه الله .
وكان يكره الجدال في العلم والمخاصمة فيه، وإيراد الإيرادات على النصوص الشرعية وربما حصل ذلك من بعض الطلاب فيزجره زجراً شديداً وكان ينهانا أن نذكر عنده رأي أحد من العلماء المعاصرين الأحياء باسمه خوفاً من الفتنة وتنقيص رأيه وفي ذلك مفاسد لا تخفى.
تمليذه- خالد بن صالح النزال
اليوم ينهد جانب عظيم من الحكمة والفقه
ولما كان كثير من المسلمين خارج المملكة يشق عليهم الحضور عند الشيخ، فقد سعى عدد من محبي الشيخ والحريصين على علمه والتلقي عنه إلى عقد دروس شهرية عبر الهاتف من مكان إقامة الشيخ في المملكة إلى المساجد والمراكز الإسلامية في عدد من الدول في الخارج، بحيث يتم الإعلان المسبق عنها، والتنظيم الدوري لها في زمان محدد كل شهر مثلاً ثم يجيب الشيخ عن أسئلة الحضور، وقد عظم نفع هذا العمل واستفاد منه خلق من الناس.
خالد بن عبد الرحمن الشايع
ابن عثيمين علامة العصر رحمه الله
من المواقف البارزة في حياة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله هي طلبه للعلم منذ صغره، والذي لم ينافسه شيء في حياته المنصبة على طلب العلم وبذل الوقت له ثم إلى تعليم العلم ونشره لدى طلابه، ولم يسأم رحمه الله يوماً من بذل العلم وتدريسه بالرغم من عزوف كثير من الطلبة عن طلب العلم إبان الفرص الكبرى للمكاسب المادية في التسعينات وقبلها بقليل. لكنه رحمه الله استمر قبيل وفاة شيخه (ابن سعدي) بالتدريس ولمدة تزيد على 45 سنة لا أحسب أنه انقطع خلالها عن التدريس إلا لسفر أو عذراً طارئ.
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي (مشاهدات من حياة الشيخ مجلة الجندي المسلم (السعودية) العدد 102).
شهادات خير وبركة
يقول الأستاذ وليد الطبطبائي: "أما الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فلا يمكن حصر مناقبه وفضائله، أما ما أعرف أنا شخصيًّا عن الشيخ فهو تواضعه الجم رغم علمه الغزير، وقد نذر عمره وحياته للتعليم والتدريس واحتضان التلاميذ والإنفاق عليهم، وأذكر بأن الملك خالد بن عبد العزيز عندما زاره في بيته في عنيزة، رآه في منزل قديم ومتهالك، فأمر ببناء منزل جديد وكبير للشيخ، فلم يشأ أن يرفض عطية الملك ولكنه جعل هذا البيت وقفًا على تلاميذه، فجعله سكنًا مجانيًّا لهم، ووفَّر الشيخ ابن عثيمين لهم جميع أسباب الراحة، وافتتح لهم مطعمًا داخل السكن، وفرَّغ لهم عاملاً يُعِدّ لهم الطعام في الوجبات الثلاث اليومية، كما هيأ لهم مكتبة حافلة بالمراجع والكتب النادرة والمخطوطات الأصلية، ومعها مكتبة سمعية من أشرطة لدروس الشيخ، وصالة للقراءة، وكان الشيخ يهتم بمتابعة طلابه لاسيما المغتربين منهم، فيخصص لهم مساعدات مالية لمواصلة مسيرتهم التعليمية".
يقول الشيخ الدكتور حمد العثمان: "كان الشيخ رحمه الله شديد الذكاء، متوقد الذهن، حاضر البديهة، سريع الجواب مع قوة في البيان وحسن العبارة، شغفًا بطلب العلم منذ صغره وحفظ القرآن الكريم. وفقه الله لتلقي العلم عن أئمة الهدى كالعلامة عبد الرحمن السعدي، والعلامة المُفسر محمد الأمين الشنقيطي، وسماحة الإمام عبد العزيز بن باز. كان مُعظِمًا مُبجِلاً لشيوخه لا يذكرهم إلا بالجميل، وكان شديد الإعظام لتزكيات وشفاعات الشيخ عبد العزيز بن باز.
أدرك من العلوم حظاً لم ير في العصر الحديث أجمع للفنون منه، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، وبرز في كل فن على أبناء جنسه، لا سيما الفقه، ولم تر العيون مثله.
أوتي علمًا وحلمًا، فكان شديد التثبت حليمًا لا تستفزه الأمور ولا يستخفه أهل الطيش والخفة والجهل، كان من أعظم الناس جاهًا عند الولاة، ولم يستعمل ذلك لحظ نفسه وعمارة دنيته، بل استعمله في قضاء حوائج المسلمين لا سيما طلبه للعلم. وكان مع ذلك عزيز النفس لا يشفع إلا فيما يغلب ظنه قبول شفاعته.
كان شديد الرعاية لطلابه وإكرامهم، وإيصال النفع والعلم إليهم كلما سنحت الفرصة حتى في حال السفر والمرض.
كان على جادة السلف اعتقادًا وسلوكًا ومنهجًا، شديد التحري للسنة حتى صار علمًا عليها.
كان شديد الاعتناء بالمشهور الصحيح من الأخبار قوي النقد للمتون الضعيفة، وبيان معارضتها للكتاب والسنة.
كان مهيبًا وضئ الوجه شديد التواضع، حتى أني مرة كتبت خطابًا ليشفع لي فيه، وكنت قد وسمته بـ (العلامة)؛ فعاتبني في ذلك".
فضائله وشمائله وأخلاقه وأحواله لا تحويها ورقات، لكن هذه تنبيهات وإشارات. فرحمه الله رحمه واسعة، وأسأل الله عز وجل الخلف فيمن بقي من كبار علمائنا.
يقول د. جاسم الياسين: "فلله در الشيخ عالمًا، فكم أفاد وأجاد، وكشف عن دقائق الفقه، وجلّى عن أصول عقيدة السلف، وأخرج فيها قواعد مُثلى، ولآلئ حُسنى، في توحيد الله سبحانه، نفع الله بها العباد والبلاد.
ولله در الشيخ قامعًا للبدعة، مقيمًا لبناء السنة وذابًا عنها، وباعثًا لمعالمها، وحاميًا لجنابها، وباسطًا لرحابها.
ولله در الشيخ من عابد زاهد، معرضًا عن اللهو والمفاسد، مخبتًا لربه منيبًا، وقّافًا عند حكمه مستجيبًا، نحسبه عند الله كذلك.
ولله دره من معلم ومرب له مريدوه ومحبوه، الذين نهلوا من فيضه، وعبوا من نبع علمه، وملئوا طباق الأرض علمًا، وعنهم أخذ الناس، وهم بقية الخير الباقية.
ولله دره من صاحب مؤلفات حسان، علت بها شريعة الرحمن، ما بين مقال وكتاب ورسالة ومحاضرة، تشهد بعلو قدمه، وثقابة ذهنه، وبعد غوره، وسداد فكره.
والله يعلم كم فاتنا من الخير بوفاته، وكم نلتاع حسرة لفراقه!!!
سيذكرني قومه إذا جدّ جدهم *** وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
فكم أحيا الله على يديه من سنن، وكم أبان بفتاواه حججًا شرعية، وقواعد مرعية علت في الآفاق، وجُبر بها صدع الدين واستبان صراطه المستقيم.
يقول أحد محبي الشيخ: "في شتاء 1391 هـ على ما أذكر دعينا، ونفر من مدرسي المعاهد العلمية إلى منزل الشيخ محمد بن عثيمين في مدينة عنيزة بمناسبة زيارة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله وبعد أن سلمنا على الشيخ الألباني وجلسنا ونحن نحب أن نرى الشيخ ابن عثيمين لاحظنا أن في زاوية المجلس رجلاً نحيفاً أقرب إلى القصر يجهز الشاي والقهوة فظنناه من أصدقاء الشيخ أو من أقاربه، ولكن ما إن بدأت الأسئلة والمحاورات العلمية حتى علمنا أن هذا الرجل هو الشيخ محمد ولم نكن قد رأيناه من قبل أوردت هذه الحادثة لأدلل على مدى تواضع الشيخ محمد في ملبسه ومنزله، وكان هذا سمته طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحمة الله".
ثم كانت زيارات متقطعة، لابتعادنا عن مكان الشيخ، وصرنا نسمع ونقرأ ما هيأ الله له من القبول، وكثر طلبة العلم الناهلون من علمه وازدحموا عليه، وكثرت الدروس في المسجد والمنزل والجامعة، وبدأت مؤلفات الشيخ تظهر في التوحيد والفقه والأصول والحديث والوعظ العام.
ولكن الذي برز فيه الشيخ بروزاً ظاهراً هو الفقه، فقد ألين له الفقه تدريساً وكتابة وفتوى، وله باع في الاجتهاد، وفتاوى يتبع فيها الدليل ولا يتقيد بمذهب معين.
ومن أبرز صفات الشيخ رحمه الله هذا الإنتاج العلمي الغزير، تأليفاً ومحاضرات وأشرطة سمعية، وهذا الجهد المتواصل في التعليم وتربية الأجيال لمدة خمس وأربعين سنة، ومما أفاده في ذلك انشغاله التام بالعلم وتنظيم الوقت فلا يضيع منه شيئاً بغير فائدة، وبارك الله له في ذلك، في مرضه الأخير، وهو مرض خطير ومؤلم لم ينقطع عن الدرس والإفادة، وألقى درساً في آخر ليالي رمضان، ومما تميز به الشيخ الزهد في المال، فقد عرض عليه منزل فخم فلم يقبل واستمر في منزله المتواضع، وعندما أهديت له عمارة جعلها وقفاً لطلبة العلم، كما عرف عنه توقيره لأهل العلم وعفة لسانه وحبه لطلبته ومداعبتهم والسؤال عنهم ومساعدتهم عند الحاجة.
قال الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس: "أذكر أني مرة في إحدى الدول الغربية دخلت أحد المراكز الإسلامية وفيه مكتبة متواضعة فإذا أنا بمجموعة من طلاب العلم في هاتيك الديار من محبي الشيخ رحمه الله وهم لم يروه وقد عكفوا على كتبه ومؤلفاته ورسائله يقرؤونها ويبذلون جهدهم في ترجمتها بلغتهم فقلت سبحان الله الذي كتب لشيخنا القبول حتى في مجاهل الغرب وأقاصي الدنيا، ولقد بشرته بذلك فسرّ كثيراً وهذا من عاجل بشرى المؤمن". (مجلة الجندي المسلم العدد 102).
الشيخ ابن عثيمين عرف عنه غزارة العلم والتقوى والالتزام بالمواعيد والتعاون: "عينت مديراً للمعهد العلمي بعنيزة عام (1391هـ) في الوقت الذي كان فيه الشيخ محمد بن عثيمين لا يزال في موقعه كمدرس، ولاحظت بأنه رحمه الله كان يتحرج من دخول المسابقات في الوظائف (نظام المراتب القديم) لاقتناعه الكامل فيما جاء بالأثر: "ما جاءك من هذه الدنيا فخذه وما لم يأتك فلا تتطلع إليه"، ولزهده في الدنيا وقدراته العلمية والرغبة في الاستفادة منها في مجال التعليم". (محمد العبد الله الحميدي - مجلة الجندي المسلم العدد 102).
"أذكر أنني كنت مرة في بريطانيا وكان هناك اجتماع للطلبة السعوديين في لستر، وكان من ضمن البرنامج ذلك اليوم محاضرة وأسئلة تتم بالهاتف مع فضيلة الشيخ وهو في عنيزة. وقال: إنني زرت الشيخ رحمه الله ليلة سبع وعشرين في الحرم وكان يرد على الأسئلة وهو متعب تعباً شديداً نتيجة المرض وكان عالي النفس ومسروراً لأنه يؤدي مهمة عظيمة وهي الرد علي السائلين وأن الله سبحانه وتعالى وفقه وأعانه على أداء هذا الواجب". (د. محمد بن سعد السالم - مجلة الجندي المسلم العدد 102).
وفاتـه
رزئت الشعوب الإسلامية عامة والشعب السعودي خاصة قبيل مغرب يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر شوال سنة (1421هـ) بإعلان وفاة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، وأحس بوقع المصيبة كل بيت في كل مدينة وقرية، وصار الناس يتبادلون التعازي في المساجد والأسواق والمجمعات، وكل فرد يحس وكأن المصيبة مصيبته وحده، وأخذ البعض يتأمل ويتساءل عن سر هذه العظمة والمكانة الكبيرة والمحبة العظيمة التي امتلكها ذلك الشيخ الجليل في قلوب الناس رجالاً ونساء صغاراً وكباراً؟
امتلأت أعمدة الصحف والمجلات في الداخل والخارج شعراً ونثراً تعبر عن الأسى والحزن على فراق ذلك العالم الجليل فقيد البلاد والأمة الإسلامية.
وصلى على الشيخ في المسجد الحرام بعد صلاة العصر يوم الخميس السادس عشر من شهر شوال سنة (1421هـ) الآلاف المؤلفة، وشيعته إلي المقبرة في مشاهد عظيمة لا تكاد توصف، ثم صلي عليه من الغد بعد صلاة الجمعة صلاة الغائب في جميع مدن المملكة وفي خارج المملكة جموع أخرى لا يحصيها إلا باريها، ودفن بمكة المكرمة.
إن القبول في قلوب الناس منة عظيمة من الله لمن يشاء من عباده، ولقد أجمعت القلوب على محبته وقبوله وإنا لنرجو الله متضرعين إليه أن يكون الشيخ ممن قال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (متفق عليه).
وخلّف الشيخ خمسة من البنين هم عبد الله وعبد الرحمن وإبراهيم وعبد العزيز وعبد الرحيم، فضلًا عن ثلاث بنات، جعل الله فيهم الخير والبركة والخلف الصالح. وبوفاته فقدت البلاد والأمة الإسلامية علماً من أبرز علمائها وصلحاء رجالها الذين يذكروننا بسلفنا الصالح في عبادتهم ونهجهم وحبهم لنشر العلم ونفعهم لاخوانهم المسلمين.
نسأل الله أن يرحم شيخنا رحمة الأبرار ويسكنه فسيح جناته وأن يغفر له ويجزيه عما قدم للإسلام والمسلمين خيراً ويعوض المسلمين بفقده خيراً والحمد لله على قضائه وقدره وإنا لله وانا إليه راجعون وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين .
علم من القصيم يهوي (الشيخ عبد الرحمن الخميسي)
علم من أعلام العصر، ونابغة من نوابغ العلم، وإمام من أئمة الدين احتضنه الثرى، وغيبه الموت بعد أن أمضى عمره كله في تعلم العلم وتعليمه، لم ينقطع عن التعليم حتى في آخر لحظة من حياته كان يجود فيها بنفسه ويجود فيها بالعلم، رحل عنا ولم يخلف بعده مثله في علمه وفقهه وخلقه وتواضعه فقد كان غزير العلم بل بحراً لا تكدره الدلاء، يضرب في كل فن بسهم.
وله في كل مجال مشاركة وقد غلب عليه من ذلك علم العقيدة وعلم الفقه وأعظم بهما من علم: « » (حديث شريف متفق عليه)
فقد كان في هذين العلمين البحر الذي لا ساحل له، والفرس الذي لا يجارى ومع كونه رحمه الله أخذ العلم عن علماء الحنابلة، ويدرس كتب المذهب الحنبلي إلا أنه لم يكن متعصباً للمذهب، بل كان يتبع الدليل ويفتي به، يعرف ذلك كل من يقرأ كتبه أو يسمع فتاواه، وكان يغرس هذا المنهج في أذهان طلابه ومستمعيه، ويعلمهم إياه، ويحملهم على عدم التعصب، وعلى طلب كل مسألة بدليلها، وكان واسع الأفق بعيد النظر يسعى لجمع كلمة الأمة وينأى عن كل ما يفرقها.
حدثني أحد اليمانيين أنه سمعه يُسأل من أحد الغرباء عن عادة سيئة منتشرة في بلده فأجابه الشيخ رحمه الله بقوله: "سل علماء بلدك يفتونك فيها" قال محدثي: "فأعجبت بجوابه وعظم في عيني وأحببته من أعماق قلبي"، وفي سنة من السنين في أيام الحج جاءته طائفتان بمنى، وكل طائفة مكونة من ثلاثة أو أربعة أشخاص، وكل واحدة تتهم الأخرى بالكفر واللعن وهم جميعاً من الحجاج. وملخص قصتهم أن إحدى الطائفتين اتهمت الطائفة الأخرى أنها إذا قامت تصلي وضعت اليد اليمنى على اليسرى فوق الصدر وهذا كفر بالسنة حيث أن السنة عند هذه الطائفة إرسال اليدين على الفخذين وتقول الطائفة الأخرى أن إرسال اليدين على الفخذين دون أن يجعل اليمنى على اليسرى كفر مبيح للعنة وكان النزاع بينهم شديداً، ولكن بفضل الله تعالى ثم بفضل جهود الشيخ وآخرين معه حسم النزاع بينهم وبُين لهم الحق وما يجب أن يكونوا عليه من الائتلاف، وتفرقوا وقد رضيت كل طائفة عن الأخرى بعد أن كانت تكفرها وتلعنها.
وكان رحمه الله مقصداً لطلاب العلم يأتونه من كل فج عميق ينهلون من علمه ويتفقهون على يديه، ويتعلمون منه، ومنهم من كان يلازمه ملازمة الظل لصاحبه فما ضاق بهم ذرعاً ولا تأفف منهم، بل على العكس كان يسعد بهم ويتبسط معهم ويقوم على شئونهم ويواسيهم خاصة الوافدين منهم، ولم يكن شيء أحب إليه من الجلوس معهم حتى أن ذلك زهده في المناصب كلها، وكان يستعمل مع طلابه أسلوباً تربوياً هو أسلوب المناقشة فيسألهم عما سبق شرحه، ومن لم يجب منهم يطلب منه أن يقف على قدميه حتى يسمع الإجابة الصحيحة من شخص آخر، وكان يمازحهم ويضاحكهم من غير إثم ولا إسفاف، ومع كونه منقطعاً للتدريس والفتوى وإفادة طلاب العلم إلا أنه مع ذلك كان عضواً في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية وعضواً في المجمع الفقهي، وفي رابطة العالم الإسلامي.
وكانت له محبة خاصة في قلوب الناس قريبهم وبعيدهم، وتلك علامة محبة الله تعالى له إن شاء الله، فإن الله تعالى كما في الحديث الصحيح: «إذا أحب عبداً وضع له القبول في الأرض»، فتحسب أن كل من يجالسه أو يسمعه أو يراه يحبه، ولقد رأيت امرأة عجوزاً تبكي عليه كما تبكي الثكلى فقيدها الوحيد، وكان بكاؤها عليه أشد من بكائها على زوجها يوم مات.
وكان لمنهجه ومدرسته أثر كبير خارج بلده، حيث تأثر به كثيرون في أنحاء متعددة من العالم الإسلامي، فكانوا يسيرون على نهجه، وينشرون منهجه، ويفتون بآرائه، ويرجحون ترجيحاته. وقد بلغ بإحدى الجمعيات الخيرية في اليمن أن اتفقت مع الشيخ أن يلقي عليهم محاضرة عبر الهاتف ودعت إلى ذلك الناس وغص المسجد بطلاب العلم وكثير من العوام، وجاء الصوت عبر آلاف الكيلومترات فحيا الناس بتحية الإسلام، ووعظهم وذكرهم، وجميعهم منصتون، وكأنما الشيخ أمامهم، وبعد انتهى من محاضرته فتح باب الأسئلة، ولما انتهى الوقت المحدد غادر صوت الشيخ المكان وغادر الناس المكان وهم في ارتياح كامل، ذلكم هو الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين عالم عنيزة وفقيهها ومفتيها، وبقية السلف الصالح الذي بقبضه يقبض كثير من العلم كما قال صلى الله عليه وسلم: « » (متفق عليه).
وإن العين لتدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا ابن عثيمين لمحزونون، اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار..آمين.
من مصادر الترجمة
- العلاّمة محمد بن صالح العثيمين اللجنة العلمية في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
- الموسوعة الحرة على الإنترنت ويكيبيديا
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: