سلسلة مقالات المشروع الإسلامي بين النظرية والتطبيق (1)

منذ 2013-04-05

الإخوة الأحبة أضع بين أيديكم سلسلة من المقالات، أعلم ان البعض قد يرى أنها بعيدة عن سياق الأحداث الساخنة.. إنما هي عندي ليست بعيدة بل هي صانعة لتلك الأحداث


الإخوة الأحبة أضع بين أيديكم سلسلة من المقالات، أعلم ان البعض قد يرى أنها بعيدة عن سياق الأحداث الساخنة.. إنما هي عندي ليست بعيدة بل هي صانعة لتلك الأحداث. وللأسف لم تأخذ منا الوقت والجهد الكافي لدراستها والاستفادة منها أو بالأحرى لم يتاح للأمة البحث فيها عمدًا أو تقصيرًا، إنما بالتأكيد نعيش نتائجها السيئة بكل معنى الكلمة. وأرى هي الآن من أهم الأدوات اللازمة لتصحيح المسار لعلنا نصنع قواعد منهجية تتيح لمن يأتي بعدنا إعادة صياغة وبناء المشروع الإسلامي على أسس سليمة. ولعل قدرنا الآن في هذه المرحلة هو إزالة الألغام التي زرعها أعداء هذه الأمة عبر التاريخ لتأمين الطريق لمن يأتي بعدنا لتحقيق الهدف الأسمى والمنشود، وهو قيام المشروع الإسلامي العظيم واستعادة دور الأمة الإسلامية لريادة العالم وإنقاذ البشرية من الدمار والخراب المحقق والذي نعيشه واقعًا في شتى المجالات. فكرت أن يكون ذلك من خلال كتابة بحث ودراسة كاملة تحليلية، إلا أنني قررت أن يكون في صورة سلسلة من المقالات، للتغلب على بعض ما أصاب تركيبة الأمة النفسي والذهني وصعوبة الإقبال على القراءة (وهو جزء من هذا البحث) ولتيسير الأمر في النشر عبر المواقع المختلفة ولا سيما برامج التواصل الاجتماعي، التي كانت فعلًا أداة من أدوات المساعدة في تقليل الرغبة في القراءة ولا سيما الابحاث والدراسات. وأدعو الله عز وجل أن يجعل في تلك السلسلة فائدة عملية لتصحيح المسار ومحاولة إيجاد الحلول الممكنة وترسيخ قواعد مستقبلية على الأمد البعيد. لعل الله أن يفتح شهية شبابنا وعلمائنا باقتحام هذا النوع من العلوم، إلى جانب العلوم الشرعية وعلم التوحيد والحديث وخلافه وإحياءه وتكملة ما سأبدأ فيه بإذن الله وتصحيح ما قد أقع فيه من أخطاء. وما كان من خطأ فهو من نفسي وما كان من توفيق فهو من عند الله .
 كتبه م.خالد غريب - 1 / 4 / 2013

 

الفجوة بين النظرية والتطبيق

نعم، هي الفجوة الأزلية منذ خلق آدم الى قيام الساعة هي التي حيرت البشرية والفلاسفة عبر القرون. نعم، أيها الإخوة هي الفجوة بين النظرية والتطبيق، تلك الفجوة التي تكون متاهات الواقع وتذيب النظريات عند تطبيقها، هي بدء تدخل النفس البشرية بجموحها وشهواتها وحدود ادراكها .

والفجوة التي أقصدها هنا هي ما يحدث فيها الصراع الأزلي بين الحق والباطل، و الصراع بين الفلسفات التاريخية المختلفة والمعتقدات في إدارة شئون الحياة، والتخبط في إيجاد نسقاً من المعتقدات والمفاهيم (واقعية وعيارية) يسعى إلى تفسير ظواهر اجتماعية معقدة من خلال منطق ينظمها ويوجه ويبسط الاختيارات السياسية/الاجتماعية للأفراد والجماعات بل يتدخل منظار آخر وهو نظام الأفكار المتداخلة كالمعتقدات والأساطير التي تؤمن بها جماعات معينة أو مجتمعات ما وتعكس مصالحها واهتماماتها الاجتماعية والأخلاقية والدينية والسياسية والاقتصادية وتبررها في نفس الوقت.

وتلك الفجوة ثابتة ولا تتغير عند إنزال أي من تلك الصراعات الفكرية، والتي ينشأ عنها نظريات ربما بعد حروب يموت فيها ملايين البشر على واقع الحياة .

إذًا يعيش البشر منذ الأزل إشكاليتين: الأولى في الصراعات حول النظرية، والثانية عند إسقاط تلك النظرية على واقع الحياة ومناحيها المختلفة فيقعون في الصراع الأعنف وهي الفجوة بين النظرية والتطبيق .

أما نحن المسلمون فحالنا قد يكون مختلف عن باقي الأمم حيث تقابلنا إشكالية واحدة وهي تلك الفجوة بين النظرية والتطبيق، فالنظرية محسومة بالنسبة لنا وهي شرع الله الذي لم يتركنا عرضة لتلك الصراعات الفكرية فالنظرية محسومة عقائديًا وحياتيًا، وعمليًا وتاريخيًا، ونفسيًا وعقليًا، اذًا علينا أن لا ننشغل بالإشكالية الأولى (الصراعات الفكرية والايدولوجية) كما هو حادث الآن في واقعنا، ولا نستدرج الى تلك الصراعات التي لا تخصنا، وأن نصب جلّ اهتمامنا في حل إشكالية التطبيق .

أيها الاخوة الاحبة

أعلم أن المسألة قد تبدو معقدة شيء ما، ولكن بتحليل مكوناتها واستبعاد التشويش المتعمد من أعداء الأمة ستبدو أبسط بكثير مما نظن، هذا أيضًا مع افتراض الإخلاص في الجميع. أو بمعنى آخر بعد تنقية وتطهير الصفوف داخل مستويات العمل الاسلامي على كافة المستويات، ولكن كيف سيكون ذلك التطهير! هذه إشكالية أخرى تحتاج الى نقاشات أخرى ليس محلها هذا المقال على أية حال .

الرحلة بين النظرية والتطبيق، تلك الرحلة التي أسفرت عبر عصور الضعف والهوان والاستعمار والاختراق والمؤامرات التي مرت بها الأمة الإسلامية، عن ظهور رؤى متعددة للنظرية الواحدة الخالدة الثابتة، وهذه الرؤى المتعددة أفرزت بطبيعة الحال مناهج مختلفة، والتي بدورها أعدت برامج مشتتة للوصول إلى الهدف الواحد وهو المشروع الإسلامي. وهذا درب من الخيال لا يقبله عقل ولا منطق ولا شرع، والأغرب أننا الآن في مرحلة زيادة التشتيت وزيادة عدد البرامج وفتح ثغرات أخرى عبر ما يسمى بالتعددية الحزبية الإسلامية، لدرجة أننا قد يبدو علينا أننا نسينا أصل النظرية وقررنا بعد ذلك التشتيت أن نستخدم أدوات التطبيق لنظريات أخرى لعلنا نصل إلى نظريتنا وهذا أيضًا درب من الخيال لا يقبله العقل ولا حتى المنهج العلمي التحليلي كما سيأتي في هذه السلسلة من المقالات شرحه بالتفصيل.على أية حال تمر الرحلة بين النظرية والتطبيق عبر ثلاث مراحل رئيسية وهي :

الرؤية - المنهج – البرنامج. ولذلك يكمن هنا بيت الداء وهو اختلاف الرؤى وبالتالي المنهج ومن ثم البرنامج، وبالتالي لابد من اجراء الخطوات التالية :

- النظرية نفسها وتحويلها من كليات الى جزئيات قابلة لاستنباط المنهج.

- المنهج نفسه وهو المحاور الرئيسية لتحديد البرنامج التطبيقي والذي يتم رسمها من جزئيات النظرية.

- البرنامج التطبيقي نفسه والذي يتم وضع آلياته من المنهج .

وإذا أسقطنا هذه الصورة على مشروعنا الاسلامي سنجد أن كافة التيارات الإسلامية من أهل السنة والجماعة تتفق تمامًا في النظرية سواء الكليات او حتى الجزئيات، أما لبّ القضية هو استنباط المنهج والمحاور التي سترسم البرنامج التطبيقي للاشتباك السياسي الواقعي، ومن ثم يأتي البرنامج التطبيقي مختلف كل على حسب المنهج المستنبط. هنا يحدث الاختلاف دائمًا، فالنظرية هي مجموعة من الثوابت، أما المنهج والمحاور تخضع للواقع وهنا تبرز القاعدة الفقهية: (إن الحكم على الشيء فرع من تصوره) والتصورات متغيرة، ويستلزمها معايير عقلية ونفسية وعلمية خاصة كما سيأتي ايضاحه بالتفصيل.

وقد ذكر الفقيه السياسي والشرعي والنفسي بحق (ابن القيم) في بيان ضرورة هذه المزاوجة بين الواجب –الشريعة- والواقع، وكان يلح على ذلك إلحاحاً شديداً عند سنوح أدنى ملابسة، فيقول: "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتففه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله. ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله" (إعلام الموقعين 2/165 -166).

وفي سياق آخر يقول: "فهاهنا نوعان من الفقه لابد للحاكم منهما: فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس يميز به بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل، ثم يطابق بين هذا وهذا، فيعطى الواقع حكمه من الواجب ولا يجعل الواجب مخالفًا للواقع" (الطرق الحكمية 1/7).

فالمعنى المراد هو: أن التصرف السياسي قوامه بثلاثة أمور لا يجوز الإخلال بواحد منها هي: معرفة الشريعة، معرفة الواقع، المطابقة بين الشريعة والواقع فيعطى لهذا الواقع المعين حقه من الشريعة والواجب، ولذلك فقد وصف ابن القيم الفقه الحقيقي بأنه: "تنزيل المشروع على الواقع" (زاد المعاد 5/422).

هذه الثلاثة الأمور يستوي فيها التصرف السياسي القضائي، والتصرف السياسي المتعلق بحيلة الناس أو بالمعاني الحديثة العلوم السياسية، وإن اختلفت التفاصيل والصور إلا أن الجوهر واحد في حقيقة الأمر.

وأيضا ينقل العلامة ابن القيم مقولة هامة جدًا لابن عقيل ربما ستوضح المعنى المراد اكثر: يقول ابن القيم: "وقال ابن عقيل في الفنون: جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية: أنه هو الحزم، ولا يخلو من القول به إمام، فقال شافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك: "إلا ما وافق الشرع" أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل مالا يجحده عالم بالسنن، ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف فإنه كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة، وتحريق علي رضي الله عنه الزنادقة في الأخاديد فقال:

 

إني إذا شاهدت أمرًا منكرًا *** أجَّجْت ناري ودعوت قَنْبَرَا


(الطرق الحكمية 1/29)

الإخوة الأحبة

الشاهد من كل ذلك هو إيجاد نقطة الخلل والثغرة التي وضعت المشروع الإسلامي في هذا الوضع المتردي بين الأمم، وإيجاد مصادر الخلل التي كانت سببًا في تشتيت طاقات الأمة عبر حركات متشرذمة متناحرة لأننا نعتقد يقينًا أن الإسلام يحمل نظامًا متكامل قوي قادر على توحيد أبناءه واحتواء كل الأنظمة والنظريات الأخرى. إذًا المشكلة ليست في النظرية ولكنها تكمن في إسقاط تلك النظرية على الواقع، وهذا الأمر الذي يستوجب دراسة الواقع وأحوال الناس وحتى العلوم الانسانية والنفسية والاجتماعية كما اشار ابن القيم ليمكن بناء التصور الصحيح للواقع ومن ثم إسقاط الحكم والتوجيه الشرعي عليه، ولذلك هذا ما سنهتم به في هذا المقال وما سيتبعه من سلسلة مقالات اخرى بإذن الله.

الإخوة الأحبة

أبدأ بالمعضلة الأولى في هذا الشأن، وهي التي تعد من أهم أسباب تلك الفجوة التي تعانيها الأمة في التطبيق. وللوصول الى مصادر القوة الكامنة في المشروع الإسلامي وبالتأكيد في ترجمة الواقع وفهمه وهي: معضلة المصطلحات تحريرها

هناك قاعدة تقول أن من يضع معاني المفردات هو من يملك أدواتها، وهو أيضًا من يرسم حدود إدراكها داخل العقل البشري، ومهما اجتهدنا بتلك المفردات لن نستطيع تخطي حدود واضعي معانيها، فقد تم وضعها بدقة ترسم طرق محددة من المستحيل تغيرها، فإذا استخدمنا مفردات وأدوات التطبيق لن يكون بمقدورنا تغيير أصل النظرية، وبالتأكيد وبشكل لا إرادي وغير مقصود سنجد أنفسنا نسير في الطرق المعدة سلفًا لنصل الى النظرية المراد تعميمها في الأذهان.

وفي ظلّ تدهور الحالة السياسية للأمة الإسلامية في ظلّ الدولة العثمانية وبدعاوى الإصلاح حسنة النية آنذاك وبدء صعود الحضارة الأوربية، بدأنا نستخدم مصطلحات ومفردات لم نكن نحن من وضع معانيها، ولكننا استوردنا المصطلح ومعناه من أمم أخرى لها نظرياتها التي كما سبق الذكر هي مصدر تلك المصطلحات، ولذلك عند شرح ووصف الواقع تستخدم تلك المصطلحات وبناءًا على النظرية الخاصة بها بصورة لا إرادية يتكون انطباعها المعرفي (المعنى) والحق أن معظم تلك المصطلحات وضع بعناية فائقة ودقة متناهية ليحاصر مستخدميه فيه، ويدفعه دفعًا ليخدم فلسفة نظريته، وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر بعض المصطلحات والتعريفات السياسية الواردة في العلوم السياسية. وبالمناسبة العلوم السياسية علم وضعه الأمريكان في أوائل القرن العشرين (راجع تاريخ تلك الفترة ومدى تفوق الغرب) وضعوه لتكريس نظريات الفلاسفة في فهم الحياة أو كآليات تطبيق وقوانين لتلك الفلسفات والنظريات لتعميمها لتنظيم حياة البشر وأهم هؤلاء الفلاسفة هو الفيلسوف الإيطالي (نيكولا ميكافيللي) صاحب نظرية الغاية تبرر الوسيلة، وأن السياسة فن الممكن، وأن القبض على السلطة غاية في ذاته ولا داعي للخوض في ما وراء ذلك وبدراسة تلك الجمل والمصطلحات والتدقيق فيها سنجد أنها تحمل فلسفات ونظريات. فتعال إلى تعريف السياسة الذي نتشدق به نحن المسلمون ليل نهار (وهو أن السياسة فن الممكن!!) وحاول استنباط الفلسفة والنظرية وراء هذا التعريف.

فهو يدفعك دفعًا الى النظرية المادية الغربية، وإلى عين الفكر العلماني دون أن تدري أو تشعر فالسياسة هي فن الممكن أي أنها ليست فن اللا ممكن، واللا ممكن هنا هو الغيب، هو الإيمان بالغيب هو مصدر القوة الحقيقي للأمة. إذا هذا التعريف يحمل في طياته ما يسمى بتفريغ مضمون غير ظاهر، حيث يفرغ معنى داخلي اعتقادي، وإذا أعدنا صياغة التعريف ولكن بوجهة نظرنا الإسلامية فيكون السياسة فن الممكن وفن اللا ممكن، حيث فن الممكن هو الأخذ بالأسباب، وفن اللا ممكن هو التوكل على الله. ووجدنا من بني جلدتنا من يقول بفصل الدين عن السياسة بل حتى عن الحياة. لأن الدين هو علم الغيب بل الأكثر من ذلك وجدنا قادة في العمل الإسلامي يغرقون في تلك المعاني وأدواتها للمنافسة السياسية والاشتباك الواقعي الأمر الذي كون صور ورؤى مشوهة عن التصور الإسلامي مثل ما يسمى بالإسلام الليبرالي أو الوسطي أو المعتدل. وهذه التسميات هي أكبر دليل على وفاء تلك المصطلحات المستوردة لأصل نظرياتها فاستطاعت أن تغير قناعات وتدفع ثقافات الى السير اللاإرادي نحو نظرياتها.

هذا وغيره الكثير من الأمثلة من المصطلحات (وتفريغ المضمون الخفي) التي سنتعرض لها عبر سلسلة المقالات القادمة في هذا الموضوع بإذن الله.

المهم هنا لابد من التغلب على هذه المعضلة سريعًا، وذلك ببساطة دراسة جميع المصطلحات السياسية الحديثة من مصادرها الأصلية وليس من ما يسوق له البعض وما يطلق عليهم أساتذة العلوم السياسية فهم أساتذة نظريات ميكافيلي وجون ستويرت وروسو وماركس وغيرهم ... فهؤلاء الأساتذة وإن كان منهم مسلمين إنما سلبت عقولهم رغمًا عنهم إلا من رحم ربي. فالخطأ الكبير أن يسارع بعض التكوينات السياسية الإسلامية وخصوصًا الأحزاب في تلقي تلك العلوم الخبيثة جدًا بدعوى الاتساق وزيادة الخبرة وتأهيل الكوادر. فهذا تخريب للكوادر وليس تأهيل كما رأينا مؤخرًا من بعضهم إنما لابد على علماء الأمة وخصوصًا علماء اللغة العربية وأساتذة الترجمة واللغات من المسلمين المخلصين ويساندهم باحثين مطلعين، عمل قواميس لغوية تصحح مفاهيم المعاني السياسية ومصطلحاتها المتداولة حديثًا، لكي لا نترك شبابنا عرضة للاستلاب التدريجي الخبيث وتفريغ مضمون محتوياته الثقافية عبر تلك المصطلحات.

معضلة الكوادر الإسلامية واختيارها

الإخوة الأحبة

إن العقل البشري ينقسم الى قسمين، أو بالأحرى الى نصفين كما وصفه علماء العلوم النفسية والعصبية: قسم خاص بالتفكير والتنظير، والقسم الآخر بالتنفيذ والتطبيق. هذا ليس من الزاوية التشريحية الطبية وانما من الناحية النفسية العقلية. أشهر النظريات في مجال عمل العقل والتي تسمى نظرية روجر سبيري نسبة لاسم مبتكرها، تقوم هذه النظرية على فكرة تقسيم العقل إلى فصين أيمن وأيسر (يوجد هذا التقسيم كذلك فسيولوجيًا حيث يتحكم الفص الأيمن في حركة النصف الأيسر من الجسم والعكس بالعكس). وأثبت هذا العالم أن كل نصف له الوظيفة المخلوق من أجلها، فالأيمن مسؤول عن: الإبداع، التفكير، التنظير، الرؤية للصورة الكلية الشاملة، التخطيط طويل الأجل كما أنه مسؤول عن وظائف أخرى كالأحاسيس والمشاعر والرغبات والخيال والعادات وخلافه. ولكن ما يعنينا في هذا المقال التحليلي هو التفكير والتنظير والقدرة الاستنباطية وترجمة الواقع، أي بناء التنظير الصحيح للأحداث المتشابكة السريعة. أما الفص الأيسر فهو مسؤول عن: الأرقام والإحصاءات، التركيز، الهيكلة، التفصيلات، الانضباط، الترتيب الإجراءات والخطط القصيرة، إدارة الوقت، وما يعنينا أيضًا هنا هو عملية الحركة والتنفيذ أي الإدارة ميدانية.

وتتباين النسبة بين النصفين، فمن زاده الله بسطة في نصف التفكير والتنظير يملك القدرة القوية لقراءة الأحداث والتنظير وربط المعلومات بعضها ببعض واستنباط المعاني والتحليلات، وإنما يكون ذلك عادة على حساب النصف الآخر الخاص بالتنفيذ والتطبيق، فتجده قليل الحركة لا يملك القدرات التنظيمية والتنفيذية لأن مساحة العقل ثابتة، وعلى العكس تمامًا إذا أزيد بسطة في نصف التنفيذ والتطبيق فيكون بالتالي على حساب نصف التنظير والتفكير فتجده كثير الحركة، لديه عبقرية التنظيم والهيكلة، يملك ملكات تطبيق النظرية المستنبطة من الصنف الأول على الواقع بحرفية ومهنية لا تناسب الانطباع الناشئ عند محاورة هذا الصنف في القضايا الفكرية.

وبطبيعة الحال نستنتج من هذا أن من يستطيع استنباط النظريات والأفكار لا يستطيع تطبيقها على الواقع، ومن يستطيع تطبيقها بحرفية عالية، لم يكن هو من أوجدها, وهذه قاعدة هامة جدًا في العمل البشري عمومًا، ولا شك أنه ظهر بشكل واضح في الأداء السياسي للحركة الإسلامية وخصوصًا دفعها المفاجئ في المشهد السياسي. وحتى تاريخيًا للحركات التي بدأت الاشتباك مع الواقع مبكرًا كردة فعل طبيعية لسقوط دولة الخلافة الاسلامية، ومن الضروري جدًا التركيز والبحث في تلك القاعدة من الناحية الشرعية وكذلك من الناحية النفسية والمنهج العلمي التحليلي، فإذا تأملنا في قوته تعالى في محكم الكتاب: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] لوجدنا أن الاستنباط وهو ما يمثل إخراج وفهم النظريات ليس للجميع، إذًا هناك من هم مؤهلين خلقًا لذلك فضلًا عن أدوات هذا الاستنباط والتراكم المعرفي المهم والمكمل للبناء العقلي، كأدوات الاستنباط من علوم شرعية مختلفة وإيضا علوم دنيوية (معرفة إحوال الناس).

ولكن هل يمكن أن يتجمع في شخص واحد التنظير والتطبيق أي زيادة في مساحة النصفين؟ نعم، ولكن وجهة نظري أنها من الحالات النادرة جدًا واستثنائية. ولكني عندما تأملت في قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247]. ومن سياق الآيات فإننا نجد أن الله قال لهم في البداية: {بَعَثَ لَكُمْ} حتى لا يحرج أحدًا منهم في أن طالوت أفضل منه خلقًا، ولكن عندما حدث عناد ونقاشات قال لهم: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} وهو بهذا القول يؤكد أنه لا يوجد فيكم من أهل البسطة والجسامة من يتمتع بصفة العلم (التراكم المعرفي) وكذلك لا يوجد من أهل العلم فيكم من يتمتع بالبسطة في الجسامة (القدرة التنفيذية والقيادة الميدانية)، إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، وكان يجب أن يستقبلوا اصطفاء الله طالوت للملك بالقبول والرضى، فما بالك وقد زاده بسطة في العلم والجسم؟ أي الكفاءة الكاملة لأداء المهمة التي من الصعب توافرها في شخص واحد!! والبسطة في العلم والجسم هي المؤهلات التي تناسب المهمة التي أرادوا من أجلها ملكًا لهم، ولذلك يقول الحق: {وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ}، والشاهد هنا هو الزيادة في العلم (القدرة على التفكير وتراكم معرفي والتنظير واستقراء الواقع) والزيادة في الجسم (القدرة على الحركة والإدارة الميدانية والتنفيذية).

وكما ذكرت ربما يختار الله من عباده ثم يمنّ عليهم بتلك النعم لتأهيلهم إلى مهمة خاصة ربما تكون فيصلية وتاريخية في حياة البشر، إلا أن ذلك لن يكون متيسر في شخص إنما هو يقينًا يمكن توفيره في الجماعة ولذلك كانت أهمية العمل الجماعي، والحرص عليه والأمر به من الناحية الشرعية لأنه يمكن إيجاد التكامل العقلي والنفسي في العمل الجماعي، بشرط أن يكلف كل فرد حسب طبيعة تأهيله العقلي والنفسي والمعرفي. فبذلك يحدث التناغم وبالتالي القوة الحقيقية للفظ الجماعة، وليس بشكل يفرغ المضمون لقوة الجماعة، وهو تعطيل القدرات المتنوعة لأفراد الجماعة على خلفية الإدارة المركزية كما هو حادث الآن في معظم الحركات والأحزاب الإسلامية، وللأسف الكثير من قادة العمل الإسلامي الآن يسيرون بمنطق (طالوت) مع أنه باختبار صغير جدًا سيكتشف ذلك القائد أنه ليس كطالوت ولم يؤتى بسطة في العلم والجسم بالمعاني السابقة، ولكن من الممكن أن يكون حاصل على أحداهما وفي الغالب الخاصة بالفص الأيمن، وهو العلم وأيضًا في معظم الأحوال تكون تلك البسطة في العلوم الشرعية دون العلوم الدنيوية وأحوال الناس واستقراء الواقع وبناء التصورات الكافية لترجمتها وعرضها على العلوم الشرعية مما تجعل تلك البسطة غير كافية حتى للفص الأيمن، هذا بالتأكيد مع افتراض حسن النوايا والإخلاص في الجميع.

وأذكر هنا اختباراً واحدًا في هذا الصدد: حاول أن تقرأ الكلمات التالية وفقا لألوانها وليس بحروفها، بجدية وبصوت مرتفع وبسرعة، (اذا لم تظهر الوان الكلمات التالية عند النشر اعد كتابتها بلون مخالف لمعناها وقم بالاختبار):

أحمر - أصفر - أخضر - أزرق - برتقالي - سماوي - لبني - بنفسجي - أبيض - بني - أصفر

إذا قمت بالتمرين بشكل جيد فستكتشف أنه من الصعوبة القيام بهذا التمرين؛ لأنك في بعض الأحيان تحاول قراءة الكلمات بالحروف مكان الألوان، وستختلف القدرة بين الأشخاص في التأهيل العقلي بين التفكير والتنظير والاستنباط، وبين التنفيذ والتطبيق. فالذي يستطيع قراءة الألوان دون التأثر بالحروف بسهولة سيكون مميز في جزء التنظير والتفكير وما يسمى حديثًا (الإبداع) بينما الذي يجد صعوبة في قراءة اللون وستجذبه حروف الكلمات بلا شك لديه نشاط أكبر في الجزء الأيسر والخاص بالتنفيذ فقط، وتظل تلك التجارب نسبية ولها أبحاث ودراسات غاية في الأهمية ربما ستتلاقى حتمًا مع الشريعة الإسلامية وكنوزها. الجدير بالذكر هنا، كما سبق الذكر، أن المسألة ليست تراكم معرفي فقط أو حصيلة علمية، بل المسألة أيضا تأهيل عقلي ونفسي.
{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] وبالرجوع إلى الاستثناء كما ذكرنا (قصة طالوت) هو قراءة الكلمات السابقة بسهولة وفقًا لألوانها ووفقًا لحروفها. وهنا يأتي أيضا دور الخبراء والمختصين في تلك العلوم الإنسانية من المسلمين المخلصين، وفي رأيي أن دورهم هو في الصدارة، ولابد من البحث عنهم وتفعيل دورهم الآن وتحديدًا عند اختيار الكوادر وتكوين البناء الجماعي المتناغم لقيادة المشهد.

ولذلك عند وضع معايير الكوادر وتنظيم العمل لابد لنا من اتباع الأصول العامة والغالبة في هذا الشأن، وليست الاستثنائية. ولنا في رسولنا الكريم قدوة حسنة في هذا السياق. فكان صلى الله عليه وسلم يراعي التركيبة النفسية والبناء العقلي عند اختيار الكوادر والتراكم المعرفي العلمي، سواء العلوم الشرعية المأخوذة عنه صلى الله عليه وسلم، والدراية بأحوال الناس، فها هو سيدنا خالد بن الوليد يختار للقيادة العسكرية الميدانية، بينما يكلف سيدنا معاذ بن جبل لدعوة أهل اليمن الى الإسلام، ويستبعد سيدنا أبي ذر الغفاري من المسؤوليات السياسية والميدانية برغم ما عرف عنه من تقوى وثناء المصطفى عليه في أكثر من مرة، رضي الله عنهم اجمعين.

انتهى المقال الأول .
بحمد الله ....... يتبع

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام