موسم القرآن
من عادة العقلاء في المواسم التي تختص بنوع من النعم أنهم يستكثرون فيها من تلك النعم، فإذا جاء موسم تكثر فيه فاكهة ما، توجه الناس إليها، وهذا مقتضى العقل.
من عادة العقلاء في المواسم التي تختص بنوع من النعم أنهم يستكثرون فيها من تلك النعم، فإذا جاء موسم تكثر فيه فاكهة ما، توجه الناس إليها، وهذا مقتضى العقل.
وكذلك فإن للطاعات مواسم ينبغي أن يستكثر الناس فيها منها، إما عموم الطاعات وإما طاعات بعينها، فللصلاة النافلة فضل في أوقات دون أوقات، فليست ناشئة الليل كغيرها من النافلة، وليست ركعتي الفجر كغيرها من الرواتب، وليس الوتر كغيره من سائر النوافل، وللصيام كذلك مواسم وأوقات؛ كالعشر من ذي الحجة وست من شوال وعاشوراء وتاسوعاء، وليست عمرة في رمضان كعمرة فيما سواه، وليست صدقة في ساعة عسرة وفاقة كصدقة في ساعة غنى ووُجْدٍ، ولهذا ما ضر عثمان رضي الله عنه ما فعل بعد أن جهز جيش العسرة، كما في حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: "جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة، ففرغها عثمان في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول: « »،قالها مراراً (رواه الترمذي:3701، والحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني)، وللاتباع في ساعة العسرة فضله، قال الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، وقد رتب الله كثيراً من العبادات على أوقات، وأولى ما يفعل في تلك الأوقات تلك العبادات.
والشاهد أن للعبادات مواسم تزكوا فيها ويعظم أجرها ويضاعف فضلها، والعاقل ينبغي أن يحرص عليها فيها.
وشهر رمضان وإن كان موسماً لسائر العبادات، فإن للقرآن فيه مزيد مزية وخصوصية، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3]، ولهذا كان للقرآن عند السلف خصوصية في موسمه، قال ابن رجب في لطائف المعارف: "كان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، منهم قتادة، وبعضهم في كل عشرة منهم أبو رجاء العطاردي، وكان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها، كان الأسود يقرأ في كل ليلتين في رمضان، وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث، وكان قتادة يختم في كل سبع دائماً، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر كل ليلة، وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة، وعن أبي حنيفة نحوه، وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان، وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: "فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام"، قال ابن عبد الحكم: "كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف"، قال عبد الرزاق: "كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادات وأقبل على قراءة القرآن"، وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان فإذا طلعت الشمس نامت، وقال سفيان: "كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه".
وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة؛ كشهر رمضان، خصوصاً الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة، كمكة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن، اغتناما للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره (لطائف المعارف: ص183).
ومن هذا يظهر ما للقرآن في رمضان من الخصوصية عند السلف، وكيف كان رمضان موسم القرآن عندهم، فيقبلون عليه، ويتزودون منه، ويعرضون عمّا سواه مما قد يزاحمه وإن كان من العبادات الفاضلة؛ كقراءة كتب العلم.
وينبغي أن يكون لنا في أولئك أسوة، وأن ترفع أخبارهم الهمة، للإكثار من قراءة القرآن وتدبره في شهر القرآن، ولم لا وكتاب ربكم فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا تنفد عبره، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً . يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن: 1-2]، قال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ . قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 29-30]، كتاب ربنا مَنْ عَلِمَ عِلْمَه سبق، ومن قال به صدق، ومن خاصم به فلج، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.
أفلا يتعين علينا أن نقبل على تلاوته، ونتغنى بقراءته، وهل ثمّ كلام أعلى منه وأجل وأجمل فنتركه إليه؟! لا والله! فأقبل أخا الإسلام عليه، واغتنم أوقات الشهر قبل رحيله، واحرص على ألا يفوتك الموسم.
ناصر بن سليمان العمر
أستاذ التفسير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سابقا
- التصنيف: