مع كتب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى

منذ 2013-04-21

لست هنا أمتدح كتبَ شيخي، أو أبتغي لها رواجًا بكلامي، فهو عنِّي غني، ولكنه بعض ما يجب علي تجاهه؛ أن أذكِّرَ نفسي بعظيمِ منته على ثقافتِنا وأدبنا العربي الإسلامي، وأن أقفَ وقفةَ وفاء تليق بمثله ممن رزقهم الله الخلود الأدبي بخلودِ لغة القرآن والذود عن حياضها.


من أعظمِ ما يسعدني أن أجدَ من يشاركني متعةَ القراءة، وأن يجد من المعاني والعلم ما أجد أو خيرًا منه، ولعلي لم أكن أعرف هذه الجنان من قبل، ولم أطرق بابها إلا يسيرًا، حتى قرأت شيئًا من مؤلفاتِ شيخي؛ الشيخ الأديب: علي الطنطاوي رحمه الله فازددت حبًّا لها وشغفًا بها.

ولقد كنت أقرأ من قبل، وأجد الكاتبَ يتفاخرُ عليَّ بكلامِه قليلِ النفع، أو يغرب عن الموضوعِ الذي يرمي إليه ويشرق، أو يستخدم لغةً يتقعر فيها بالمعاني؛ حتى لتعيدها مرارًا، فما تكادُ تفقه ما يقول إلا بعد لأْيٍ وعنت!

 

ولقد كنتُ أقرأ للنَّاس، فأحمل همَّ الأسلوبِ الغليظ، أو البارد، أو الميت، أو العامي، هذا إن كان ممن يرجى أن تسلم كتاباته من الأخطاء اللغوية والإملائية والنحوية والصرفية والعروضية، إلى أن وصلتُ في هذه الأيامِ أن أرضى من الكاتبِ بسلامةِ المعتقد وأحمده له وإن أضرَّ بالعربية، وأزرى بقواعدِها، واستهتر بقوانينِها، فعلى اللغةِ وأهلِها السلام!

على النقيض من ذلك، أرى ذلكم المتفاصح المتقعر المتشادق، يمطُّ لسانَه بالكلمةِ تلو الأخرى، وما يكاد يقيمُ بنيانَ جملة إلا ويهدم به لبنةً من جدار العقيدة في قلب القارئ، فصرتُ بين نارين: إمَّا أن يطعنَ في عقيدتي، وإما أن أرضخَ لذلِّ العربية في ألسنةِ الأدباء والمتثقفين، وما أعسرهما!

وتجدُ من حملةِ الأقلام الفضلاء من يقعد به قلمه عن ميادين الأدب؛ فتجده يخوضُها بلسانِ الفقيه الذي يفصل ويقسِّمُ ويشرح ويعلل ويفتي، فما تدري - والله - كيف تتألم! وليست حال الجامعاتِ ببعيد؛ فتجد كل الآداب تدرس فيها إلا الأدب الإسلامي! تتعرف على المذاهبِ الأدبية والردود عليها كأنك تدرسُ عقيدةً لا أدبًا، فضلاً أن تدرسَ أدبًا إسلاميًّا! ومثله ذلك الأدب الذي يسيرُ خلفَ الخلفاءِ والدول، لا مع العلماءِ والأدباء!

فعصور الأدبِ عصور تاريخية، تموت بالخليفةِ فلان، وتحيا بالدولةِ تيكم، وتقف عند أعتابِ الوزير أو السلطان، مع أنَّ المعتنين بهذا العلم مجمعون على أنَّ من أزهى عصورِ نهضة الأدب تلك التي تنحطُّ فيها السياسة، ولكنَّها بدعة ورثوها عن المستشرقين.

غير أنَّ أكبرَ مصيبة تواجهنا في ثقافتِنا أنَّك لا تكاد تجد متخصصًا موسوعيًّا في ثقافتنا العربية؛ فتجدُ العلماءَ في كلِّ علم كثيرين إلا في لغتِنا وثقافتنا وآدابنا. بحثتُ كثيرًا وأضناني البحثُ عن الإمام اللغوي الذي يرشدني ويهديني سبُلَ اللغةِ، حتى رضيت من السلامة بالإياب.

إن وجدت معتنيًا باللغة، فجاهلٌ بنطقها، أو معتنياً بنطقها؛ فجاهل بعلومها، أو معتنيًا بثقافتِها، إلا وهو محتقر لقومِها، ومشمئز من عاداتها وقيمها وأخلاقها، وكأنَّا - والله - أعداء لأنفسنا!

أبعدت بك - أيها القارئ الكريم - وما ذاك أردت، ولا إليه قصدت، ولكن لعلَّ في وصفِ الحال منك إعذار.

إنما أردتُ أن أصف كيف تقطعني كتبُ شيخي عن الدُّنيا حتى كأني لستُ من أهلها، حتى إن حاولَ أحد اختراق الجو وجهت إليه من صارفات القول ما تصرفه عني سريعًا بدون وعي تام؛ كي لا ينقطع عن كتابِه وعيي! وجدتُ فيها الإمام الذي لم أجده في غيرها.

أقرؤه آمنة على لغتي وديني وثقافتي وهويتي وعقلي، أقرؤه فما أمله، ولا أستصعبه، ولعلك ترى كيف أن كتبَه مع كل الناس، تخاطب كل الناس؛ بلغة فصيحة بليغة، رحيمة شفيقة، ناصحة واعظة معلمة، فياضة بالتجارِب والقصص والعِظات. لعلَّ بعضَ ما أقرؤه مما كتب ليس جديدًا، ولكني أجدُ عرضَه له عرضاً لم يُسبق إليه فيما وقعت عليه يدي من الكتب، أو بلغ سمعي من القول.

أمَّا اللغة فما ربَّاني أحدٌ على حبها والذود عنها كما رباني الشيخ رحمه الله رحمة واسعة وله عليَّ فيها أعظمُ المنن، ولقد قرأتُ بعضَ كتبه قبل أن أدرس العربية، وقرأتها وأنا أدرسها، وقرأتها بعد أن درستُ شيئًا منها، فما وجدت أجدى علي في العربيةِ ولا أنفع ولا أخير منها.

كنت أدرسُ القاعدة والفائدة العربية وهي تغسل على مغسلة الأموات ليصلى عليها، فإذ به يريني إياها حيةً غضة طرية تتباهى بين أصابعِ ابنها البار الغيور! فجزاه الله عن العربيةِ خير الجزاء.

كنت أستثقل الدنيا فيأخذني على جانبٍ منها؛ يسليني، يقصُّ لي، يعظني، يؤملني، ينصحني، يوجهني، يربيني، يحثني، يحضُّني، يضحكني.

ومن أقسى ما أقرؤه ندم سبطه أن تعبَ في إخراجِ ما كتب جده؛ فبالله كيف يندم؟!

أبلغوه أنَّ الله أحياني بها! إنَّ الله لا يزال يحيي قلبي بكلماتِ شيخي مذ عرفت كتبَه وإلى لحظتي هذه!

هذا وإن طبعات كتبه لتشترى سريعًا، فما أكادُ أجد بعض كتبه إلا بمشقة، هذا إن كنت محظوظة ولم تنفد الطبعة.

ولست هنا أمتدح كتبَ شيخي، أو أبتغي لها رواجًا بكلامي، فهو عنِّي غني، ولكنه بعض ما يجب علي تجاهه؛ أن أذكِّرَ نفسي بعظيمِ منته على ثقافتِنا وأدبنا العربي الإسلامي، وأن أقفَ وقفةَ وفاء تليق بمثله ممن رزقهم الله الخلود الأدبي بخلودِ لغة القرآن والذود عن حياضها.

فهنيئًا له، ورحمه الله وغفر له، وأسكنه فسيح جنانه.

 

آمنة بنت عبدالله بن محمد - 26/7/2011 م - 24/8/1432 هـ