الجَدَّة والسمك، قصة قصيرة

منذ 2013-04-26

فإن من النهج القرآني الرائع في مخاطبة الناس استخدام أسلوب القصص في استخلاص العبر واستقراء سنن الله في خلقه وتقرير المعاني وغيرها بأسلوب سلس أخاذ قلّ أن تجد له نظير، فكم من جبار قصمه الله بعد أن ظن ألا غالب له، وكم من حق نصره الله بعد أن ظن ألا ناصر له، وكم من أخلاق ذميمة فضحها القرآن أو خلق حميد زرعه القرآن بقصة، فإن سنن الله في خلقه لا تتغير وكذلك طبائع الناس وشهواتهم.


بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن من النهج القرآني الرائع في مخاطبة الناس استخدام أسلوب القصص في استخلاص العبر واستقراء سنن الله في خلقه وتقرير المعاني وغيرها بأسلوب سلس أخاذ قلّ أن تجد له نظير، فكم من جبار قصمه الله بعد أن ظن ألا غالب له، وكم من حق نصره الله بعد أن ظن ألا ناصر له، وكم من أخلاق ذميمة فضحها القرآن أو خلق حميد زرعه القرآن بقصة، فإن سنن الله في خلقه لا تتغير وكذلك طبائع الناس وشهواتهم.

كما أن عداوة الشيطان ونهجه ثابت إلى قيام الساعة، ومن هنا يأتي الاعتبار من القصص، وفي الأسطر التالية سأروي قصة حقيقية حدثت مع صديق عزيز حكاها لي بنفسه.

فقد كان في ضيافته بعض المعارف وكانت الزوجة قد أعدت للضيوف سمكًا، ونال السمك إعجاب الجميع، وكعادة النساء بدأن يسألن مضيفتهن كيف أعدت هذا السمك المميز فوق العادة، وبعد عدة أسئلة لم يجدوا في طريقة الإعداد ما يميز السمك، إلا أن إحدى الضيفات انتبهت الى أن السمك قد تم تقطيعه بطريقة معينة قبل قليه وربما كان هذا سبب تميزه الخفي، لقد تم تقطيع كل سمكة الى ثلاث قطع، وعند سؤال زوجة صديقي عن سبب تقطيع السمك بهذا الأسلوب، قالت أنها تعلمته من والدتها التي كانت تفعل مثل ذلك، ومن شغف الضيوف لمعرفة سر هذا التقطيع الذي ربما قد أضفى على السمك هذه النكهة الخاصة طلبن من الزوجة أن تسأل والدتها عن ذلك، ومن أين أتت بهذه الوصفة السرية، والمفاجأة أن الوالدة أيضا أخبرتهم أنها تعلمت تلك الطريقة من والدتها دون أن تسألها عن السبب، وكان من فضل الله أن الجدة لا تزال على قيد الحياة فتوجهن لها بالسؤال: "لماذا يا جدتي تقومين بتقطيع السمك بهذه الطريقة؟" وبعد علم الجدة بسبب السؤال أجابتهم ضاحكة: "لقد قمت بتقطيع السمك ثلاثا لأن المقلاة -طاسة القلي-التي عندي كانت صغيرة ولا تسع السمكة كاملة فكنت أقسمها على ثلاثة!!".

المستخلص من القصة:

أولًا:


أن الزوجة والأم تناقلتا طريقة تقطيع السمك عن الجدة واتبعتاه طيلة حياتهما كطريقة مثلى وأمر مسلم به، وكذلك تفعل الأمم غالبًا مع ما يتوارثونه فإن ذلك من طبائع الناس، قال تعالى عن كثير من الأمم أنهم رفضوا اتباع الرسل لأنهم لا يريدون أن يخالفوا ما وجدوا عليه آباءهم، قال تعال: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُون} [الزخرف:23 ]

ثانياً:


أنه لولا أن الجدة على قيد الحياة وعرفوا منها سر التقطيع بهذه الطريقة ربما كانت توارثته هذه الأسرة والضيوف اعتقادًا منهن أنها طريقة خفية تزيد من تميز السمك توصلت اليها الجدة، وهذا طبعًا خلاف الواقع، فالجدة لم تلجأ لهذا التقطيع إلا لضرورة تناسب حالها هي، وهي صغر حجم المقلاة، وهو سبب ربما لا يتواجد عند ابنتها او حفيدتها التي ربما يمتلكن مقلاة أكبر لكنهما حافظتا على هذا التقليد جهلًا بسببه، واعتقدا مع الوقت أن هذه الطريقة المثلى، بل وربما تجد بعد ذلك من يناضل ويدافع عن هذه الوصفة السرية التي توارثنها عن الجدة!

ثالثًاً:


كم تتكرر هذه القصة في واقعنا الديني والسياسي، وخاصة مع الجماعات الإسلامية والكيانات التي لها ميراث ديني وسياسي يمتد زمانًا طويلًا، ولها قيادات سياسية ودينية تعتبر مرجعيات لها، فنأخذ تقليداً ما كان من اجتهاد في عصرنا أو في غيره كأنه أمر مسلم به، وربما أن ظروف هذا الاجتهاد قد تغيرت، وربما لو كان صاحب هذا الاجتهاد في عصرنا لاختار خلافه، وحتى لو كان العالم في عصرنا، فكل يؤخذ منه ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس اجتهاد عالم ملزماً إلا بما يوافق كتاب الله وسنة رسوله صل الله عليه وسلم، وكيف نعرف موافقته للكتاب والسنة إذا كنا نأخذ كل قوله كأنه أمر مسلم به، فإن الله عندما اختار وصفاً لنهج نبينا صلى الله عليه وسلم ولأتباعه قال تعالى:  {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فإنما الاتباع على بصيرةٍ يا أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.


محمد حمدي الصيفي


 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام