جيل الصحابة الفريد

منذ 2013-05-06

ننا حين نتكلم عن الصحابة فنحن نتكلم عن مئات المعاني في شتى المناحي العلمية والأخلاقية، وبإمكاننا الوقوف على شيء من هذه الجوانب من خلال دراسة الحياة العربية القديمة، وكيف كانت؟ لنعرف كيف نشأ الصحابة الكرام، وفي أي بيئة تربوا قبل أن ينير الإسلام أركان حياتهم، ويثبت لهم ما كانوا عليه من محاسن، وينفي عنهم أدران البيئة العربية المحيطة بهم آنذاك.

 

طالما كتبتُ عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وفي كل مرة يزداد يقيني بعجز أمثالنا عن الإحاطة بفرائد ومحاسن هذا الجيل الفذّ، الذي لم يأتِ له مثيل على طول البشرية، منذ خلق الله آدم وإلى يومنا هذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ» (رواه البخاري[3673]، ومسلم[2541]). وهو حديثٌ معبِّر عن الفارق الهائل بين الصحابة وبين غيرهم.

إننا حين نتكلم عن الصحابة فنحن نتكلم عن مئات المعاني في شتى المناحي العلمية والأخلاقية، وبإمكاننا الوقوف على شيء من هذه الجوانب من خلال دراسة الحياة العربية القديمة، وكيف كانت؟ لنعرف كيف نشأ الصحابة الكرام، وفي أي بيئة تربوا قبل أن ينير الإسلام أركان حياتهم، ويثبت لهم ما كانوا عليه من محاسن، وينفي عنهم أدران البيئة العربية المحيطة بهم آنذاك.

فقد نشأ الصحابة في بيئة عربية محبة للأخلاق، حريصة عليها، معظمة لأهلها، مفتخرة معتزة بها، رغم ما شاب حياتهم من أمراض عقدية وأخلاقية، غير أننا لا نستطيع أن ننفي عنهم حبهم واعتزازهم بالأخلاق العربية، وضربهم في هذا الإطار أروع أمثلة، ويمكننا أن نقف على هذه الحقيقة من مثل قول عنترة:
 

ما استمتُ أنثى نفسَها في موضعٍ *** حتى أُوفي مهرَها مولاهـــا
أَغْشى فتاةَ الحيِّ عنـــدَ حليلِها *** وإذا غَزا في الحربِ لا أَغْشَاها
وأَغُضُّ طَرْفي ما بـدتْ لي جارتِي *** حتّى يُوارِي جارَتِي مأْواهَــا
إِنِّي امرؤٌ سمحُ الخليقــةِ ماجــد *** لا أُتبع النفسَ اللجوجَ هواها

 

فيذكر عفته وسمو نفسه عن الخيانة، خاصة بمنزل جاره، ويذكر سماحة نفسه وتركه الهوى.


وأكتفي بهذا المثال الدال على قيمة الأخلاق لدى العرب، وخطأ الصورة المأخوذة عنهم قبل الإسلام.
وقد عاب (جورجي زيدان) على أصحاب هذه الصورة المغلوطة عن العرب آنذاك؛ فقال: "لم يتصد أحد للبحث في آداب اللغة العربية قبل زمن التاريخ لقلة المواد المساعدة على ذلك، ولاعتقادهم أن العرب -حتى في الجاهلية الثانية- قبل الإسلام كانوا غارقين في الفوضى والجهالة، لا عمل لهم إلا الغزو والنهب والحرب في بادية الحجاز والشام، وفي نجد وغيرها من بلاد العرب، على أننا إذا نظرنا إلى لغتهم كما كانت في عصر الجاهلية نستدل على أن هذه الأمة كانت من أعرق الأمم في المدنية، لأنها من أرقى لغات العالم في أساليبها ومعانيها وتراكيبها.. واللغة مرآة عقول أصحابها ومستودع آدابهم" (تاريخ آداب اللغة العربية-26).

وفي هذه البيئة العربية نشأ أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وورد عن بعضهم التزامه بمثل هذه الأخلاق قبل إسلامه، وكلنا يعلم رفض (أبي سفيان بن حرب) للكذب قبل إسلامه، وقولته المشهورة: "فَوَ اللَّهِ لَوْلاَ الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ" (رواه البخاري7، ومسلم[1773]). فهذه الشخصية التي ترفض الكذب قبل إسلامها رغم الحرب التي كانت آنذاك بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام لا يتصور أبدًا أن تتورط في كذب بعد إسلامها، فهي تصدق ولو على نفسها، وعندنا المثال الرائع لكعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلف عن تبوك وجاء يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: "والله لو جلستُ عند غيركَ من أهل الدنيا لَرَأَيْتُ أَنْ سأَخْرُجُ من سخطِه بعذرٍ ولقد أُعْطِيتُ جدلًا، ولكني والله لقد علمتُ لئن حدثتُك اليومَ حديثَ كذِبٍ ترضى به عني لَيُوشِكَنَّ الله أن يُسخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حدثتُكَ حديثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله"، فلما أنزل الله توبته عليه قال: "إنّ الله إنما نجاني بالصدق، وإنّ من توبتي أن لا أُحَدِّثَ إلا صدقا ما بقيتُ"، ويقول: "فو الله ما أنعم الله عَلَيَّ من نعمة قطّ بعد أن هداني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم" (البخاري[4418]، ومسلم[2769]).

فمثل هذه النفوس الفريدة في طبيعتها وأخلاقها كانت جديرة بأن تحكم العالم وتقنعه برسالة الإسلام فيدخل فيها أفواجًا، وتقيم دولة الإسلام في فترة وجيزة جدًا، وذهبت تفتح المدائن العظام ولم يمض على إنشائها سنوات معدودات! حين التقت نفوسهم الفريدة بأحكام الإسلام السامية، فكان الإبداع في أرقى معانيه.

ولن نقدر على شيء الآن إلا إذا سرنا على طريقتهم، في أخلاقهم ومنهجهم، وهذا معنى قول أئمتنا: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".

 

Editorial notes: Salah_hall@yahoo.com
المصدر: جريدة المصريون