الافتراش في المشاعر: هل هو مشكلة؟

منذ 2013-05-06

الافتراش في المشاعر هل يعتبر مشكلة رئيسية تستحق أن تستأثر بجانب ملحوظ من اهتمام الوعاظ والمرشدين والمكلفين بتوعية الناس وتعليمهم السلوك الصائب في أداء المناسك!!




سوف أترك للقارئ أن يكون رأيه باستقلال بعد قراءة الملاحظات الآتية:

أولاً:

لابد من الشهادة بحق من أن الجهات الأمنية لم تقصر قط في تعاملها مع هذه المشكلة، ولكنها كانت تتعامل معها بحكمة، فتمنع الافتراش عندما يكون ضاراً بالمصلحة العامة، ولعدة سنوات مضت اختفت -بجهود الجهات الإمنية- الظاهرة التي كانت موضوع الشكوى في سنوات مضت حيث كان الافتراش تحت جسر الجمرات وفي طريق المشاة من منى إلى مكة سببًا للإزعاج، وكانت هذه الجهات تلتزم تسامحاً عاقلاً حكيماً تجاه الافتراش في المشاعر حيث لايتجاوز هذا السلوك على حرية أحد، ولا يؤذي أحداً، ولايهدد الأمن والسلامة، وهذه هي الصفة الغالبة على افتراش كل الحجاج تقريباً في المزدلفة ليلتها، وافتراش كثير منهم في منى لياليها.

ثانياً:

لماذا يكون الافتراش (في الساحات والميادين في مزدلفة ومنى لياليهما) مشكلة في أذهان إخواننا من رجال الدعوة والتوعية والصحافة؟


المتتبع لما يقرأ ويسمع ويلاحظ أن القاسم المشترك للمبررات التي تقدم لاعتبار السلوك موضوع البحث مشكلة، أنه يشكل منظراً مشوهاً لايليق بسمعة المملكة، أو أنه -كمايبرر غالباً- على ألسنة الوعاظ والمرشدين (سلوك غير حضاري).

ثالثاً:

إن عبارة (سلوك غير حضاري) عبارة أقرب إلى ألفاظ الشعارات منها إلى الألفاظ المحددة المعاني التي تحمل صورة ذهنية واحدة بين موجّه الخطاب والمتلقي. وألفاظ الشعارات بالرغم من أنها تؤدي إيحاءات ذات فعالية في التأثير على المتلقي، إلا أنها بما تحمل من غموض، ونسبية، وألوان من التصورات مشتبهه وغير متشابهة، تجعل الحاجة ماسة لمحاولة التعرف على المقصود منها في تصور موجّه الخطاب. وأغلب الظن أن مايقصد في عبارة (السلوك الحضاري) سلوك الشخص العادي في البلدان التي اعتدنا أن نصفها بأنها متقدمة أو متحضرة.

رابعاً:

افتراض أن المعنى المشار إليه هو مقصود موجِّه الخطاب حول المشكلة موضوع البحث، فإن من حقنا أن ننازع في أن يكون الافتراش حيث يؤدي غرضاً عملياً جدياً، وحيث لاتؤذي أحداً ولايتعدى على حرية أحد، سلوكاً غير حضاريِّ، بدليل أن البلدان التي جعلناها معياراً للسلوك الحضاري تنتج للمفترشين سلعاً بمليارات الدولارات مثل حقيبة النوم وحقيبة الظهر وغيرهما من السلع التي يحتاج إليها الشخص للافتراش.


بل إن هذه البلدان تجتهد في أن تتيح للمفترشين من الشباب وغيرهم التي لا تساعدهم جيوبهم على تحمل أجور الفنادق، ويرغبون كغيرهم أن يتمتعوا بمباهج الطبيعة، أن تتيح لهم في المنتزهات والمنتجعات السياحية ميادين وساحات ومخيمات للافتراش. ذلك أن هذه البلدان وقد رزق أهلها علماً بظاهر الحياة الدنيا، وأوتوا من الحكمة في تدبير المعاش ماحجب عن الآخرين، لايرون في سلوك الافتراش حيث لايؤذي أحداً ولايضر بمصلحة حقيقية غير موهومة، وحيث يؤدي غرضاً عملياً مشروعاً لايرون فيه مايضر بسمعة بلادهم، ولايخجلون من منظر طبيعي لاشذوذ فيه لدى العقلاء الغير متكلفين.

خامساً:

عندما نستحضر في الذهن أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وخيار أمة محمد صلى الله عليه وسلم طوال القرون الماضية كانوا يفترشون في المشاعر والمساجد ولايستثنى منها مسجد نمرة أو المشعر الحرام أو مسجد الخيف، وتؤثر رمال الحصير في جنب أحدهم ويلصق التراب بجنب الآخر حتى يسمى أبا تراب.

عندما نستحضر هذا في الذهن، فإننا سنعجب أن يهون على لسان أو قلب الواعظ والمرشد من المنتسبين للعلم الشرعي أن يعتبر قضاء الحاج بعض الليل في مزدلفة أو منى مفترشاً على (حصيرة الحاج) في ساحة أو ميدان سلوكاً غير حضاري مهما تغير الزمان، واختلف الظروف، وانقلبت الموازين عند محدثي النعمة المتكلفين.

سادساً:

لماذا يفترش الحجاج في مزدلفة أو منى؟

أجاب أحد المحررين الصحفيين في العام الماضي على هذا السؤال بقوله: "وكالات الطوافه في السبب حيث نجد أن هؤلاء المطوفين يبحثون من الأماكن الرخيصة، مما يدفع الحجاج إلى تركها والاقتراب من الجمرات".

لاشك أن هذا الاتهام ظالم على الأقل في كثير من الحالات، الذي حج في العام الماضي وشاهد ساحة المفترشين قرب مسجد الخيف، وهي أكبر الساحات و لابد أنه شاهد أن نسبة كبيرة من المفترشين من إخواننا الإندونسيين والماليزيين، ولو سألهم عن سبب افتراشهم وتركهم الخيام لأجابوه بأن هذا يتيح لهم متعة وراحةً وأنساً أكثر، إذ أن وجود أحدهم في خيمة مع عدد من الأشخاص بقدر الطاقة الاستيعابية للخيمة، وارتفاع نسبة الرطوبة ونسبة ثاني أكسيد الكربون ونسبة التلوث الميكروبي، وتعرضهم لتيار من الهواء البارد الرطب الذي لم تتعوده أجسامهم، كل ذلك يجعلهم يفضلون الافتراش تحت سماء وليل تهامة الجميل فيحسون بالراحة والمتعة والأنس، وتنطلق أرواحهم محلقة مع ذكر الله في فضاء لا نهائي وغير محدود.

هناك سبب رئيسي ظاهر لمن يتذكر أن الطاقة الاستيعابية الفعلية وليس النظرية للخيام في منى لم تكفِ العام الماضي نصف الحجاج، وهذا يعني حرص الحاج من النصف الثاني لكي يؤدي واجب النسك أن يبقى ساعات في منى مفترشاً في إحدى ساحاتها، ولو لم يجد لجسمه موضعاً إلا منحدراً بخمس وأربعين درجة من الإسمنت أو على ظهر حاوية القمامة كما لاحظ ذلك محرر صحفي، فاستنكره واستعظمه فصوره بالألوان وعلق عليه بسخرية لاذعة.

بين يدي الآن إعلان لأحد المنظمين لحملات السياحة يعلن عن فرص للحج الترفي، حيث يمكن للحاج أن يبيت في خيمة ذات سريرين وأرائك ومتاعٍ آخر وحمام خاص.

أيهما أحرى برضى الله، وأجدر بالعذر لدى عقلاء خلقه؟ هذا الحاج المترف الذي استأثر بمكان خمسة عشر حاجاً، أو الحاج البسيط الذي حرص أن يتقي الله ما استطاع فيؤدي واجب المبيت في منى ولو على منحدر إسمنتي أو ظهر حاوية القمامة.

سابعاً:

مامدى انسجام أو تنافي الافتراش في ليالي مزدلفة ومنى مع مقاصد الحج؟

إذا كانت أحكام العبادة تدل على أهدافها ومقاصدها، فإن لنا أن نقول إن من مقاصد الحج:

أ- البعد عن الترف والترفه، حيث كان الحاج رجلاً أو امرأة يوم فرض الحج يضحى (يبرز للشمس) لمن أحرم له، ويمتنع عن الطيب ومظاهر الزينة عشرة أيام مدة السفر من ذي الحليفة (ميقات المدينة) إلى مكة. ويأتي الحجاج إلى عرفات شعثاً غبراً من كل فج عميق فيباهي الله بهم الملائكة.

ب- رياضة النفس على التواضع وكسر النفس، ونفي الرياء والسمعة. وقد حج النبي القدوة صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم، وقال: «اللهم حجاً مبروراً لا رياء فيه ولاسمعة».

جـ – تهيئة النفس للأنس بالله، وإحساس الإنسان بالقرب من أخيه الإنسان، وتنمية الأخوة الإيمانية، وتحقيق معنى العضوية في المجتمع الكبير (أمة محمد صلى الله عليه وسلم).

د- إتاحة الفرصة لتمييز الإنسان أوهام الحياة من حقائقها، واكتشاف أن الفروق التي يضعها الناس بين الناس فروقٌ مصطنعة لاحقيقة لها، ورؤية الحياة كلها هلى حقيقتها كما سيراها عند الموت، لاشك أن الحاج الذي تواضع لله فكان في غمار الناس مشى مع المشاة وافترش مع المفترشين وتخلى لوقت قصير عن عاداته الترفيه، أحرى بأن يحقق هذه المقاصد.

ثامناً:

هل يمكن أن نقترح على إخواننا المسؤولين عن التوعية والإرشاد، وإخواننا المسؤولين عن التنظيم أن يتخلوا مرة واحدة عن ما تعودوه -فرأوا أنه الحد الأدنى المقبول- أن يجربوا الحج المتواضع، فيمشوا مع المشاة، ويفترشوا مع المفترشين، ويمرون -عملياً- بالتجربة التي يمر بها نصف الحجاج، فلعلهم إن اكتشفوا صورة للحج لم يتخيلوها قبل من الراحة والمتعة والأنس والإحساس بروحانية الحج، أن يتغير بهم كثير من الأمور، فتنحل عقد وتحل قيود، ويرتفع الحرج والعنت عن عباد الله، ويقولوا: "خدمة الحاج شرف لنا"، فيقول الحجاج حينئذٍ: "صدقتم".

 

المصدر: مدونة الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين

صالح بن عبد الرحمن الحصين

الرئيس العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي (سابقا)، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو المجلس الرئاسي لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني بالمملكة العربية السعودية.