الدخول من بوابة الأحزان
جرح ٌعلى جرحٍ تهز كياني *** وتمد لي لهبًا من الأحزانِ
خط من الألم المبرّح ساخنٌ *** يسري من الأقصى إلى الشيشانِ
ويضم كوسوفا التي اكتملت بها *** مأساة هذا العصر في البلقانِ
ويضم باميرا التي شهدت بما *** شهد المدى من حسرة الأفغانِ
ويثير ألف قضية وقضية *** رحلت بأمتنا إلى الطوفانِ
يا صرخة الألم التي اشتعلت على *** شفة الجريح كألسن النيرانِ
يا أدمع الثكلى التي رسمت لنا *** في مقلتيها حسرة الوجدانِ
يا ألف باكية وألف يتيمة *** يا ألف هاربة بلا عنوانِ
يا ألف شيخ في انحناء ظهورهم *** خبر يحدثنا عن الطغيانِ
يا ألف مئذنة توقف نبضها *** يا ألف محراب بلا أركانِ
يا ألف طفل قارئ أمسوا بلا *** كتب ولا نُسخ من القرآنِ
يا ألف مسلمة شربن تعاسة *** ولبسن ثوب مذلة وهوانِ
يا ألف دار ما يزال ركامها *** يُلقي عن المأساة ألف بيانِ
يا ألف ألف قذيفة روسية *** رسمت ملامح وحشة الإنسانِ
يا ألف مؤتمر على أوراقها *** جثم انتهاك شريعة الرحمنِ
ماذا يقول الشعرُ؟ كيف أصوغه؟ *** أتصاغ شعراً ثورة البركانِ
أتصاغ شعرًا أدمع تجري كما *** يجري لهيب النار في الأجفانِ
ماذا يقول الشعر؟ دمع حروفه *** يجري كشلال على الأوزانِ
ويكاد يغرق كلما يلقاه من *** لفظ ومن معنى ومن ألحانِ
يا من تسائلني عن الريح التي *** هبت عواصفها على الأوطانِ
وعن الجحافل ما تريد جيوشها *** من هذه الغارات في الشيشان ِ
أو ما لهم دين يرقق أنفسا *** جُبلت على الإلحاد والكفرانِ
لا تسأليني عن ديانة أمة *** لم تبق للإنجيل فضل بيانِ
هي حرّفته لكي تنال مكانة *** مرموقة في دولة الرومانِ
ما دينهم إلا بقايا من سنا *** دين المسيح وظلمة اليونانِ
مزجت بأهواء الرجال وأصبحت *** دينًا يحقق رغبة الرهبانِ
دينًا تلبّس بالأساطير التي *** تمضي بصاحبها إلى الهذيانِ
أرأيت دينًا صافيًا يحيا على *** أرجوحة صُنعت من الصلبانِ
أوَ بعد هذا تطلبين عدالةً *** ممن يشوّه صورة الأديانِ؟
ما الروس إلا صورة من عُملة *** مشؤومة شُبكت على النكرانِ
هم أول الوجهين والغرب الذي *** يستمرئ التضليل وجه ثاني
آلاف قتلى المسلمين كأنما *** هم في حقول تجارب الفئرانِ!
والغرب يرسم كل يوم خطة *** لرعاية الحشرات والديدانِ!
إعلامه يقتات من أخبارنا *** ويبثها مصحوبة بأغاني!
يا غربُ، يا قلبًا أمات شعوره *** لهب من الأحقاد والأضغانِ
ما بال مجلس خوفكم لا ينطوي *** إلا على التضليل والبهتانِ؟
ما باله يلقى مآسي أمتي *** وجراحها بالصمت والخذلانِ؟
أين القوانين التي برزت لنا *** في أرض تيمور وفي السودانِ؟!
أوَ ليس في الشيشان جرح نازف *** أوَ ما لكم فيها شهود عيانِ؟!
ما ذنب طفلٍ مُزّقت أعضائه *** وغدا قعيدًا ما له قدمانِ؟!
ما ذنب وجه يتيمة أضحى بلا **** ثغرٍ تصوغُ جماله الشفتانِ؟!
ما ذنبها؟! صارت بغير حقيبة *** وبلا يد يمنى ودون لسانِ؟!
ما ذنب مسلمة تحطم قلبها *** لما رأت في الأفق ليل دخانِ؟!
فقدت رفيق حياتها وصغارها *** في ليلة دموية العدوانِ
ما ذنبها؟! فقدت منابع حبها *** وأمام عينيها قضى الأبَوَانِ
ما ذنب أم حينما انكشف الدجى *** وجدت بقايا مقلة وبنانِ؟!
ورأت حذاءً واحداً وظفيرةً *** محروقةً، ودماً على الجدرانِ
ويداً قد انفصلت عن الجسم الذي *** نسفته قنبلةُ العدو الجاني
وبقيةً من معصمِ الزّوجِ الذي *** ضم الصغار بلهفةٍ وحنانِ
ورأت شظايا من قذائف مجرمٍ *** شهدت بما اقترفته كفُّ جبانِ
يا غربُ، إن مات الضمير فإنما *** موت الضمير علامة الخسرانِ
يا ألف مليون بكيتُ لأنني *** أبصرتكم في الأرض دون مكانِ
ولأنني أبصرتُ بعضَ رجالِكم *** يتلذذون بطاعة الشيطانِ
يتسلقون جدار كل إثارة *** ويحسِّنون قبائحَ العصيانِ
ولأنني أبصرتُ بعضَ نسائِكم *** يلقين شرعَ الله باستهجانِ
من حولهن النبع يصفو ماؤه *** وبه تتم سعادة الظمآنِ
وكؤوسَهن مليئةً بطحالب *** وعقولَهن سريعة الذّوَبانِ
ولأنني أبصرتُ ظبيتنا التي *** هربت، تمد يدًا إلى الثعبانِ
وتعيش وهم تحرر وهي التي *** وضعت يديها في يد السجانِ
ولأنني يا ألف مليونٍ أرى *** عين الشموخ بكت على الفرسانِ
وبكت على صهوات خيل إبائنا *** لم تحمل الأبطال في الميدانِ
يا ألف مليون بكيتُ وإنما *** أبكي لأن ضياعكم أبكاني
ماذا يقول الشعرُ في العصر الذي *** يقتات من ألمي ومن أشجاني؟
يا ألف مليون حبال مشاعري *** موصولة بالخالق الديانِ
أنا لست أيأسُ من مصائبنا التي *** تُذكي لهيبَ الحزن في وجداني
أنا ما يئستُ إذا بكيتُ لما أرى *** من وطأة الأحداث في الشيشانِ
فلربما كان الدخولُ إلى العلا *** والمجد من بوابة الأحزانِ
عبد الرحمن بن صالح العشماوي
الشاعر المعروف أستاذ النقد الحديث بجامعة الإمام محمد بن سعود
- التصنيف: