الأحزاب الإسلامية، وغزوة أحد
النفس البشرية وتوجهاتها وقت الشدائد والمواجهات، غزوة أحد أم الأحزاب الإسلامية.
عقب القرآن الكريم على غزوة أحد من معركة الجدل والمناظرة والبيان والتنوير والتوجيه والتحذير، وذهب بنا الى ميدان معركة أحد وغزوة أحد وعلمنا أنها لم تكن معركة في الميدان وحده؛ إنما كانت معركة كذلك في الضمير، كانت معركة ميدانها أوسع الميادين لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانبًا واحدًا من ميدانها الهائل الذي دارت فيه، ميدان النفس البشرية وتصوراتها ومشاعرها وأطماعها وشهواتها ودوافعها وكوابحها على العموم.
وكان القرآن هناك يعالج هذه النفس بألطف وأعمق وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال، وكان النصر أولًا وكانت الهزيمة ثانيًا، لتمحيص النفوس وتمييز الصفوف وانطلاق الجماعة المسلمة بعد ذلك متحررة من كثير من غبش التصور وتميع القيم وتأرجح المشاعر في الصف المسلم، وذلك بتميز المنافقين في الصف إلى حد كبير ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق في القول والفعل وفي الشعور والسلوك، ووضوح تكاليف الإيمان وتكاليف الدعوة إليه والحركة به.
ومقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالمعرفة والاستعداد بالتجرد والاستعداد بالتنظيم والتزام الطاعة، والاتباع بعد هذا كله والتوكل على الله وحده في كل خطوة من خطوات الطريق، وليس التوكل على الاحزاب والصفقات، ورد الأمر إلى الله وحده في النصر والهزيمة، وفي الموت والحياة، وفي كل أمر وفي كل اتجاه. ولا أدري إن كانت هذه الحصيلة الضخمة من وراء التوجيهات القرآنية استقرت في الجماعة المسلمة بعد هذه الأحداث وبعد اكتشاف أن الأحداث أكبر وأخطر بما لا يقاس من حصيلة النصر والغنيمة.
فسنلمس من أحداث المعركة ذاتها أن التصور الإسلامي يجعل الأحداث مجرد محور ترتكن إليه الحقائق، وكان واضحًا الإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة إنما هو حادث عابر وراءه حكمة خاصة، ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها.
وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها حكمة تمييز الصفوف وتمحيص القلوب واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم؛ ووقف المسلمين أمام الموت وجهًا لوجه، وقد كانوا يتمنونه ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي، ثم في النهاية محق الكافرين بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها، سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ . هَـٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ . وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ . إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيُمَحِّصَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ . أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّـهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ . وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } [آل عمران:137-143].
ثم إذا استفدنا من الدرس جيدًا ووعيناه كان النصر الثاني، النصر المبارك، ولكن بعد عقد النية وتنقية العقيدة والعمل لله. ومن هذا السياق الثري العظيم لهذا السرد القرآني عن غزوة أحد، وباتباع الفهم الحقيقي للقرآن وتوجيهاته، وإسقاطه على واقعنا وحياتنا، وهو الأصل الذي فقدناه وأصبح القرآن الكريم يقرأ فقط للتعبد، ويقصى عن توجيه كل حراكنا على أرض الواقع، ولله المشتكى، إذا فعلنا تلك القواعد الذهبية المستنبطة من غزوة أحد على مسارات سياساتنا الحالية ولا سيما وجود تشابه كبير جدًا في المحاور الرئيسية، وما نعيشه الآن مع اختلاف الميدان والادوات، إلا أننا نصارع نفس الخصوم، من يقفون دائمًا بكل قوة لإقصاء الحقيقة الثابتة وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله ومقتضاياتها وإعلاءها فوق كل شيء.
وأيضًا تتحكم فينا نفس العناصر (النفس البشرية وتصوراتها ومشاعرها وأطماعها وشهواتها ودوافعها وكوابحها) وهي مماثلة لنفس ظروف ومكونات غزوة أحد من الناحية السلوكية، و بكل بساطة نستطيع القول إن ميدان العمل السياسي الحزبي الإسلامي هو بلا شك يماثل تلك المعاني، فها نحن الآن تركنا أصل القضية وأسرعنا إلى لمّ الغنائم البراجماتية الحزبية، وها نحن نرى رفقاء الجهاد والدعوة الآن يتقاتلون بينهم على تلك الغنائم السياسية المقيتة المخادعة، وها نحن نرى الإخوة يشوهون بعضهم بعضًا، ويغتابون بعضهم بعضًا بل يبهتون بعضهم بعضًا. ونرى الحراك الإسلامي الآن أشبه بقبائل ما قبل الإسلام، والمنافسات السياسية والتي تلغي كل قيد شرعي يحول بين تفريق الصفوف.
ولكن الأمر الجدير بالذكر هنا، أننا لن نجد محمدًا صلى الله عليه وسلم ليألف بين تلك القلوب، فإذا زرعت العداوات من جديد فمنذا الذي سيؤلف بين قلوبنا؟ وكيف سنصبح اخوانًا؟ ومن ذا الذي سينقذنا من حفر النيران والتي نقف نحن الآن على شفاهها؟ لا أعتقد ولا أظن أننا سنجد إجابات إلا في تلك الآية الكريمة والتي لازلنا نقرأها بل ونحفظها للتعبد فقط ليس إلا، والى الله المشتكى، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].
- التصنيف: