الشيخ صالح الحصين شخصيته وفكره
رجل كأن الملائكة أدبته، وكأن الأنبياء ربته، إن أمر بشيء كان ألزم الناس له، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، ما رأيت ظاهرًا أشبه بباطن منه، ولا باطنًا أشبه بظاهر منه
- شخصيته:
"رجل كأن الملائكة أدبته، وكأن الأنبياء ربته، إن أمر بشيء كان ألزم الناس له، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، ما رأيت ظاهرًا أشبه بباطن منه، ولا باطنًا أشبه بظاهر منه". قال ذلك الحسن البصري عن عمرو بن عبيد، وما أراني قائلًا خيرًا من هذا عن الشيخ صالح الحصين.
كتبت مرة عن الشيخ: "ما عرفت فيلسوفًا حيًا إلا صالح الحصين" إنه من أبرز الحكماء الأحياء، وجاءت الردود لتسأل ما هي مؤلفاته؟ وماذا كتب؟ وما هي النظريات؟ وكأن حكماء البشرية ما عرفوا إلا بالكتابة والتأليف أو أن تقييمهم يتم من خلال كتبهم، فسقراط لم يترك كتابًا وكذا كثير من حكماء البشرية الكبار؛مقابل ذلك نجد أخبار الفلاسفة الحمقى قد ملأت مكتبات العالم. ولذا فإن العقلاء عبر القرون لا يخلطون بين مقولة ذكية أو تركيبة فكرية مهمة وبين حياة حكيم وتعاليمه وسلوكه، أمّا هنا فنحن أمام حكيم من الحكماء عزّ وجود مثله، ولكنه أيضا عالم فطن، ترك آثارًا ورؤى تستحق المعرفة والفهم، ومن هنا قسمت هذه المقالة ما بين الشخصية والفكر تسهيلًا على المهتم، لا لأن الأمر كان سهلًا، فإن من اليسير لمن عرفه أن يمزج الحديث عن فكره بالحديث عن سلوكه، لأنه ما كان يستطيع التفريق ولا الحياة بشخصيتين، كما يفعل كثيرون ممن يلبسون لكل حالة لبوسها. فالحكمة عنده هي أن يعيش الإنسان وفق منهج حكيم يلزم به نفسه ويمارسه، ويحرص على نشره في مجتمعه بواقعه الحي ونقاشه مع من تتلمذ عليه أو اقترب منه -ولا يحب أن يقول أحد إنه تلميذ له، ولا أخذ عنه شيئًا- فالتواضع عنده مسألة محسومة بكل طريق.
والشيخ طالب حكمة كبير، ومنفّذ لما يؤمن به، وأعلى الشجاعة أن تعيش وفق ما تؤمن به، وليس وفق ما يرى الناس أن تكونه، فالغالب أن الناس يعيشون حياة القطيع، لأنها أسهل، ولا تحمّل الفرد صعوبة المخالفة للمجموع. ولعلك تجد في نص طريف كتبه بنفسه ما يدلك على الشخص الذي نتحدث عنه؛ كتب مرة:
"كنت مغرما في مرحلة المراهقة بقراءة كتب الصحة النفسية، والعبارة التي قرأتها في أحد هذه الكتب ولم أنسها حتى الآن هي: (كن كما أنت) أي لا تتظاهر بأنك أغنى، أو أذكى، أو أعلم، أو أتقى، أو أفضل مما أنت في الحقيقة. طبعا لا أدعي بأني -في حياتي الطويلة- التزمت بمضمون هذه العبارة، ولكني أعتقد بأن رياضة النفس وتدريبها على مضمون هذه العبارة وسيلة نافعة للصحة النفسية، والشرط الأول في ذلك محاولة معرفة النفس على حقيقتها، والله الموفق."
وقد سمعت عن الشيخ صالح الحصين كثيرًا قبل أن يزورنا مع أهله في شهر أغسطس في أمريكا من عام 2001م، وقد رتب لهذه الزيارة قريبُه الأستاذ سامي الحصين، فتوجه من نيويورك إلى مدينة (بتسبرج) بالسيارة في طريقه إلى مقر (التجمع الإسلامي لأمريكا الشمالية) في (آن آربر ميشجن) واستقبلته وبقي في المدينة وما جاورها حوالي أسبوعين، وسافرت معه إلى كندا، وزرنا معالم ومدناً ومؤسسات عديدة، وتحدثت معه حول كل ما خطر بالبال ومشينا معه على الأقدام مسافات، وكان صحيح البنية خفيف المشي، لا نكاد نلحق به وهو في أواسط السبعينيات من عمره. وكان يمشي -قبل الوزارة- مع زوجته مسافات حول الحرم المدني كل ليلة بعد صلاة العشاء، وربما احتاج للتنكر أحيانًا حتى لا يشغله الناس بسؤال أو سلام.
ولد الشيخ في شقراء عام 1351هـ الموافق: 1932م وهو ينتسب إلى قبيلة تميم، ثم غادرها مع أقاربه إلى المدينة المنورة حيث عمل والده في محاكم المدينة المنورة واستقر فرع من العائلة هناك منذ ذاك، قال: "كان ذلك سبب نزوحنا للمدينة المنورة"، وكان كثير الثناء على مؤسسي القضاء في المدينة المنورة وبعضهم من ممن مارسوه في العصر العثماني ثم لم ينقطع عملهم ومدرستهم وتأثيرهم في العهد الجديد.
معتدل الجسم خفيف البنية أبيض خفيف الشعر جدًا، درس في كلية الشريعة في مكة 1374هـ ، ودرس لمدة ثلاث سنوات في معهد الرياض العلمي، وأتم دراسته للماجستير في معهد جامعة الدول العربية في القاهرة، وكان من أهم أساتذته الشيخ القانوني الكبير عبد الرزاق السنهوري، وقال عنه: "ما فهمت حكمة الفقه والتشريع الإسلامي إلا منه"، ثم ذهب إلى باريس لاستكمال الدراسات العليا القانونية وبقي بها عامًا ثم مرضت أمه فعاد ليهتم بها، وهو يعرف اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وأعلمُ عنه إجادة عالية للإنجليزية وكان يقرأ بها ويسمع ويتحدث، وفي فترة دراسته في مصر وفرنسا قال إنه اهتم بالأفلام الأمريكية فما خرج فلم في تلك الأزمنة إلا رآه.
وما كان يحرص على أن يقول رأيه في الأشخاص إلا عندما يرى الحاجة كبيرة لذلك، في أحد النقاشات أظهرت له إعجابي بأحد المفكرين وجهوده الرائعة، ولما أحس مني اندفاعًا لتأييد ذلك المفكر المؤثر، أثنى عليه بما هو أهل له، ثم أخبرني أنه متطرف -وعصبته- في موقف محدد، وكأنما أيقظني من نومة فكرية سببها الإعجاب بالحق ونسيان ما تلبسه، مما سبب تسللًا لأفكار غير مفحوصة سببها الثقة العامة في مفكر أو عالم ما، وكانت تلك المرة ربما المرة الوحيدة التي صدم قناعتي لغاية تبينتها. وما غبطت ممن عرفت من المثقفين على عقله مثله، وكان يختار كلماته بعيار دقيق، يجعلك تهتم بمستوى العبارة فلا يرتفع إلا لسبب مهم عنده، أما سياقه العام فهادئ متوازن.
وقد عرف عنه الاهتمام بالعمل الفكري الحضاري، فكان ممن أقنع الراجحي برصد مبلغ كبير لتأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن، فكان أن منح المعهد وقفاً بمائة مليون دولار للتشغيل وإنشاء أوقاف للمعهد. وكانت له تبرعات ويجمع الأموال من الأغنياء الذين لا يردون له طلبًا للمدارس وللأعمال الخيرية الكثيرة حول العالم، من الباكستان والهند إلى غرب إفريقيا وجنوب إفريقيا وأمريكا وأوروبا.
وكان مهتمًا بعملنا الإعلامي والثقافي في أمريكا سنوات قبل زياته لنا هناك، وقرر العمل على شراء مقر كبير للتجمع لولا أن حالت أحداث سبتمبر دون ذلك، ثم بقي مهتمًا بمجلتنا (المنار الجديد) وكان يراجع معي بعض المقالات ويناقش وينتقد. واهتم بإذاعة وموقع (طريق الإسلام- إسلام واي)، وبأعمال ومؤتمرات كنا نقيمها في دول وولايات عديدة.
كان من أصحاب فكرة مشروع رائد وهو (صندوق التنمية العقاري) وتولى رئاسة مجلس الإدارة. وكان عضوًا في المجالس العليا لخمس جامعات، ويكره الإعلام والشهرة، ويعتذر عن المقابلات التلفزيونية وغيرها. وقد تجده مهوّنًا من جهده ومن نفسه بلا تصنع فينقل عن والدته أنه قال لها: "عيّنوني مستشارًا في الديوان الملكي"، قالت له أمه: "دولة أنت مستشار لها، الله يعينها" -أو نحو قولها- وكان يعمل في مزرعته ساعات طوالًا بنفسه، ويقوم بكل العمل المعتاد، ولا يحب مظاهر الرئاسة ولا ألقابها، ويركب على الدرجة السياحية في الطائرة مع عامة الناس.
ولما طلب منه نشر فتاوى وخطب مشايخ الحرم قال بنظرة عميقة واسعة: "ليس كل ما يقال من محاضرات وفتاوى في الحرم يصلح لكل المسلمين في العالم" فهو يعرف قصور نظر بعض المشايخ والخطباء عن وعي قضايا أبعد من مداهم، كما لم يكن له علاقة بتعيين الخطباء والقراء.
كان يعيش حياة بسيطة لا يثقل نفسه بمتاع ولا غيره، دخلت مساكنه في مكة والمدينة فكانت في غاية البساطة، بل دون متوسط عامة الناس بكثير، ولم يكن يدّخر لنفسه شيئًا فيما أعلم، كانت له شقتان إحداهما في مكة والأخرى في المدينة المنورة، وإذا حلّ الموسم وجاء الحجاج أعطاها للحجاج من مختلف البلدان، زرته عدة مرات، في مكة والمدينة والرياض، فكانت لقاءاتنا علمية حميمة معرفية، ننهل خلالها من حكمته ثم نخفّ عليه قدر ما نستطيع فهو حيي جدًا، كان يحرص على مشاركته طعامه البسيط، وفي مرة زرته مع نسيبي فأكرمنا بمشاركته غداءه، وعندما خرجنا قال عجيب هذا الرجل لا يكاد يصدق من يراه أنه وزير! ومرة قال لصديق: "إنه لم يعزم أمير مكة عبد المجيد رغم قربه منه تجنبًا لما يكرهه من التبذير". وكان لا يحب أن يأكل طعام الطائرات، قال: "إن أخذته أخذت قليلاً منه، ثم يرمونه ولا ينتفع به أحد".
عين في أول أمره مستشارًا في وزارة المالية بعد عودته من فرنسا 1961، ورئيسًا لهيئة التأديب، وزير دولة للشؤون القانونية ورئيسًا لشعبة الخبراء، وعضوًا في مجلس الوزراء، عام 1964 في عهد الملك فيصل، وهو من أصدر قرار تعيينه، فلم يحب هذا المنصب، وقرر من بداية الأمر الخلاص وقال: "استشرت صديقًا لي عيّن معي فقال: "إن الملك قد لا يفسر قرارك كما تظن، فاصبر ستة أشهر ثم قدم طلب تقاعد مبكر، قال ولما مر على عملي ستة أشهر قدمت للملك طلبًا للتقاعد أو الاستقالة، فأخذه ثم وضعه في الدرج، ثم انتظر أربع سنين وبعدها استدعاني ثم قال: "ألم تزل على رأيك؟" يقول: "قلت نعم"، قال: "كما تحب ولكن إن احتجناك تأتينا؟" قلت له: "نعم على طلبكم"، ثم غادرت". وبعد زمن استدعاه مدير الديوان وكان شخصاً جديدًا تعين بعد ذهابه، قال: "فجئت الديوان وسلمت وجلست، وقابل مدير الديوان الموجودين فلما انتهى منهم قال: "وأنت ماذا تريد؟" قال: "لم آتكم وإنما طلبتنموني"، قال: "أنت صالح الحصين؟" قلت: "نعم"، "فلماذا ملابسك أشبه بملابس الفلاليح؟" أي الفلاحين. قلت: "هذه طريقتي"، ثم أعانهم بما أرادوا وخرج".
وقد بدأ مشروع مزرعة عندما ترك العمل الحكومي في المرة الأولى، وكانت مزرعته مهوى محبيه وزواره على بساطة وتخفف من أثقال الدنيا، وكانت مفتوحة لرجال الدعوة من أي مكان، وكان كثير القراءة ولا يقتني الكتب، جئته بأحد الكتب الغربية التي كتبت عنه وعن زيارته لأمريكا وقصة الأستاذ سامي الحصين، فقال لي : "إني لا أحب أن يُعيرني أحد كتبه، فإما أن تأتي وقت إنهاء الكتاب وإلا فإنني أتخلص منه". قلت: هذه نسختك، وكان يقرأ في العقود الأخيرة بالمكبر، وكان له خط جميل، وهو من العقول الكبيرة الذين أفادتهم الكتب ولم تستولِ عليهم، يأخذ حكمتها وخير ما فيها ثم لا يتبعها ولا يجمعها ولم يحرص على الكتابة إلا قليلًا في أواخر نشاطه. وكان في مكتبه وزيرًا عندما زرته، فكان لا يأبه بقول ما يعتقد في أمور لا يجرؤ من هو في مثل منصبه أن يقولها.
عندما تعين وزيرًا لشؤون الحرمين عام 1422هـ رفض إيداع رواتب الموظفين في البنوك، ولم يقبل حتى رفعوا عليه دعوى في ديوان المظالم، هربًا من أن يكون له دور في مساندة البنوك الربوية أو رفعًا لحرج مساندته للربا.
وفي الحج كانت الحكومة تمنع الافتراش في مناسك الحج، وتمنع الحجاج أن يحجوا دون أن يشتركوا في حملة توفر السكن لهم، ولكن وزير شؤون الحرمين الشيخ صالح يحج مع البسطاء والزهاد ويفترش مع فقراء المسلمين الذين لا يجدون مكانًا ولا مخيمًا، ويأبى البقاء في القصور الحكومية، كما ذكر هذا لي الدكتور محمد السلومي. ولم يمتلك سيارة في حياته، قال: "كان يصر ناس على نقلي بسياراتهم فأتجنب طريقهم وأمشي على الجهة الأخرى المخالفة لاتجاههم من الطريق". ولم يحمل هاتفًا جوالًا، وقيل إنه طلب منه بعد توليه الوزارة ففعل إذا سافر خارج مكة والمدينة، ولم يكن يحرص على مكانه المخصص خلف إمام الحرم في الصلوات بل يصلي حيث يتيسر له، وبيّن مكانه للموظفين وهو مكان قريب من أحد مداخل المسجد ليجدوه فيه لو طرأ طارئ فاحتاجوه.
وقد كان ممن يشرف بهم المنصب ولا يشرف هو به فكان متواضعًا يكره أن يقال له: "معالي الوزير"، ومرة قال: "إن كتبت عني يا فلان فريحني ولا تقل معالي ولا مهابط". فكان يأبى كتابة وصف منصبه بـ "رئيس كذا"، ويأنف من الألقاب الرسمية، تلك التي يرتقي بها ويتطاول لها الصغار ، ولكنها لا ترفع الكبار مثله فهو يدرك أنها ألقاب دونه، ولا يترفع بها على أحد.
وكان الشيخ لا يتكلف في اللباس، ويلبس اللباس البسيط، فقد قابلته أول قدومه في لباس رسمي قميص بين الكوت والقميص -على طريقة لباس المصريين- الصيفي في الستينات يوم كان لهم لباس وطني يعتزون به، ليس الغربي تمامًا ولا القديم، ثم رأيته في لباس البنجاب، وفي البلد في ثوب أبيض وغترة بيضاء. كان كثيرًا ما يفضل الجلوس على الأرض بدلًا من الكنب، مفترشًا رجله اليسرى رافعًا ركبته اليمنى، ويستقبل ويناقش، قلت له مرة ألا ترتفع فوق على الكنب قال: "أرتاح بهذه الجلسة"، قال: "كان والدي يجلس هكذا في الحرم المكي يوم توفي عام 1384هـ عام 1964م تقريبًا". وكان يمنع أي أحد أن يقبله على رأسه كما درج على ذلك الناس تقديرًا للكبير وذي العلم والقدر. وما كان يحب أن يحاضر إلا في فكر وبحث جديد، وإلا فإنه يفضل النقاش أو الصمت، ومرة جاء يزوه شباب سمعوا عن وجوده في آن آربر، فطلبوه محاضرة أو فاتحة علم "ما" فرد عليهم: بأن "النقاش أفضل من تكرار قول معروف أو معاد"، وكان النقاش معه متعة لا مثيل لها.
كان في سفره يحرص على مشاركة زملائه ولو في سن أحفاده على خدمتهم ومساعدتهم في شؤون السفر والطعام، ومرة قدم لي الشاي فحرصت على صبه فأبى قائلًا: "لا أمتهن ضيفي"، فمازحته: "أعلم تقديرك وقدرك، ولكن أعطني أصب الشاي حتى لا تكبه علينا!" وكان يصر على خدمة ضيفه ويداه ترجفان مع ضعف البصر، ولا أعلم أنه استخدم خادمًا حتى مرض مرضه الذي مات منه. وكانت آخر زيارة له وقد أقعده المرض في بيت ابنه الدكتور عبد الله الذي عرفته منذ نحو ثلاثين عامًا فكان من خير من عرفت نبلًا وتواضعًا.
ومن صرامته مع مبادئه أنه لم يقبل المساومة عليها، فقد كان عضوًا في لجان شرعية لبعض البنوك ثم تركها بناء على أن تلك اللجان كان يهمها وضع أغلفة إسلامية لممارسات ربوية. ويكفي أن تقرأ له هذه الكلمة في مقدمة كتابه: (خاطرات حول المصرفية الإسلامية) قوله: "والمقالات التي تضمها هذه المجموعة تظهر أن النظام المصرفي المبني على الربا الصريح أو الربا المغلف الذي يطبق تحت اسم المصرفية الإسلامية، ليس هو الوسيلة الصحيحة للإصلاح الاقتصادي في العالم الإسلامي" وكان يتجنب الفتوى دائمًا، ومرة سأله حاج عن حكم فأحال السؤال لطالب علم بجواره، فأبى الجواب فدلّه على ركن المفتين في الحرم.
وكان يحرص على فتح أفق مخاطبه لما لم يتنبه له من أطراف أي موضوع يطرح، ففي مواقف عديدة تسأله أحيانًا فيجيب بغير ما كان أجاب به سابقًا، أي يعطيك المناسب للحظة من الموضوع والنقاش، ولا يجمد على جواب واحد إن كان سبق أن قاله لك أو لغيرك.
وعندما شاركت في الحوار الوطني الثالث 1424هـ 2004م -وكان قد تعين مدير لمركز الحوار الوطني ذلك العام- بعد عودتي للبلاد شهدت إدارته للمؤتمر، وما كان يحرص على حضور شخصي ثقيل ولا توجيه مركزي للجلسات، بل أعطى فكرة موجزة ثم سلم إدارة الحوار لآخرين، وفوجئت به يأتي إلي مرحبًا ومسلماً بعد أن سمع صوتي فما كان يبصر عبر القاعة بسهولة. ولما حضرنا عند الملك قدم محاضرة إضافية في نحوعشرين دقيقة أو تزيد معتمدًا على شواهد ومراجع وقصاصات كان يحملها بجانب النص، ولم يهزه جمع ولا إعلام ولا تباين آراء، ثم جلس إلى جوار الملك فرحب به، وأثنى على علمه وتواضعه.
كان الشيخ يهتم بآراء بعض الكتاب ممن ترجمت أعمالهم أو لم تترجم للعربية ومنهم محمد أسد وقد كتب تلخيصًا لآرائه الحضارية والإسلامية، وكان يقرأ للفيلسوف القسيس الأمريكي "نيبور" واهتم بقضايا المرأة الغربية والاقتصاد، ولعل الاقتصاد هو ميدانه الأهم الثاني بعد فلسفة التشريع والقانون.
ولما عدت للرياض وقابلته حرص على أن يطلعني على نصوص مؤلفاته ومقالاته المهمة وكانت تنشر في مجلة العصر، وكان يتواضع ويطلب ملاحظات وتعليقات وجل ما راجعت وكتبت له عن كتابه (التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب) كانت أمورًا شكلية ولكنه كان يحرص على كمال نصوصه وتدقيقها.
ودعته يوم 9 أو 8 سبتمبر من عام 2001 من مطار ديترويت متجها لواشنطن وليقابل بعض أصدقائه في معهد الفكر، ونزل هناك وكان من المفترض أن يغادر واشنطن يوم 11 سبتمبر 2001، ولم يتمكن من السفر وجاءه رجال الإف بي آي في فندقه لعله كان اليوم الثاني للحدث، وحققوا معه طويلاً، وفقد وعيه أثناء التحقيقق ولعلهم أرهقوه، ثم استعاده فزعموا أنه كان يمثل عليهم، وقد وضعوه في غرفة وزوجه في أخرى فلم يجدوا إلا تطابقًا تامًا في كل شيء، ولعل ما أثار شبهتهم ما قيل إن أحد الذين قادوا الطائرة سكن في الفندق نفسه الذي سكن فيه الشيخ ليالي قبل ذلك، أو أنه بات في الفندق في الوقت الذي كان الشيخ في الفندق نفسه، ولفت انتباههم جدول زياراته المليئ وعلاقاته الواسعة، ومعرفته. فآذوه بالسؤال الطويل ولكنهم لم يؤخروه عن سفره، لأنهم لم يجدوا عنده ما يمكن ربطه بمن عبر وسكن في الفندق، وقد سافر في أوائل الرحلات بعد استعادة الطيران بين أمريكا والعالم.
وفيما بعد تخرص الغربيون وهوّلوا الحديث عنه، وكتبوا تقارير كلها تهاويل وأوهام وخرافات، فقد كان معتدل الرأي والشخصية ضد التطرف حيثما كان، وكما سيمر معنا أنه كان من أكثر العلماء تسامحاً مع الغرب عن قناعة شرعية عقلية وأكثر نقدًا للتطرف الغربي والشرقي، وأعرف من غيره من العلماء الكبار بالغرب.
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وقد حرصت على سرعة نشر هذا قبل دفنه، وفي الحلقات القادمة إطلالة على بعض أفكاره وآرائه الفقهية والفكرية بإذن الله.
محمد الأحمري
رئيس التجمع الإسلامي بأمريكا الشمالية
- التصنيف: