تفريج الكروب

منذ 2013-05-18

يا لها من لحظات إيمانية رائعة ومعبرة، ويا لها من سعادة وهناءة تنتاب قلبك وفؤادك يا من تقوم بهذه العبادة، تلك اللحظة التي تشعر بها أنك نفست عن مؤمن كربة أو محنة، أو خففت عن مؤمن آلامه وأحزانه، فترى الشكر والامتنان في عينيه، والدعاء لك بالتوفيق والسداد بين شفتيه، وقد غمرت الفرحة قلبه وعلت البسمة وجهه ومحياه، وعندها فقط يمكن أن تحيا وتشعر لا أن تقرأ أو تسمع، بصدق تلك المقولة المعبرة الرائعة: لذة العطاء أعظم وأحلى من لذة الأخذ.


إذا كانت الهموم والأحزان وكثرة الكروب التي تراكمت على الناس في هذه الأيام سمة هذا العصر والعنوان الأبرز لهذا العالم، فإن أكثر المكتوين بنارها والمتألمين من رمضائها هم المسلمين، لا لذنب ارتكبوه، ولا لجريمة اقترفوها، وإنما ذنبهم الوحيد وجريمتهم الكبرى عند المستبدين والظالمين، أنهم آمنوا بالله ربًا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولًا، فهل هذا ذنب؟! وهل هذه جريمة؟!

لقد اجتمعت أمم الكفر والطغيان على المسلمين كما تجتمع الأكلة إلى قصعتها، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وانتشرت الحروب والخطوب في بلاد المسلمين انتشار النار في الهشيم، وتزايدت أعداد المنكوبين والمكروبين والمحتاجين، ممن فقدوا بيوتهم وأرزاقهم وأسباب حياتهم، ناهيك عمن فقدوا المعيل والساعي في حوائجهم وطلباتهم، فاجتمعت في نفوسهم آلام فراق الأحبة والأعزة، ومرارة شظف العيش وقسوة الحياة، وضراوة معركة تأمين لقمة العيش وأسباب البقاء.

في مثل هذه الأوقات تتصدر عبادة تفريج الكروب كل العبادات -بعد أداء الفرائض طبعًا- وتعلو منزلة ومرتبة من يؤدي هذه العبادة فوق كل المنازل والمراتب، وكيف لا وهي العبادة التي يفرضها الظرف الراهن، والحالة المعاصرة التي تعيشها الأمة، ففي موضوع العبادة هناك ما يمكن أن يطلق عليه عبادة الهوية، فالغني عبادته الأولى والأهم إنفاق المال، والعالم عبادته الأولى والأهم التعليم، وهكذا كل من أعطاه الله تعالى نعمة اختصه بها، كان عليه أداء العبادة الملازمة لها، وهذه عبادة يمكن أن يطلق عليها عبادة الهوية، وهناك بالمقابل عبادة أخرى يمكن أن يطلق عليها عبادة الظرف والحالة الراهنة، فالعناية بوالدك أو والدتك أو قريبك المريض هي العبادة الأولى بالنسبة إليك في هذه الحالة، وإكرام الضيف الذي زارك هي العبادة الأهم بالنسبة إليك، وتفريج كربات المسلمين في هذا الزمن العصيب، الذي كثرت فيه أعداد المكروبين والمحتاجين، هي العبادة الأولى والأهم كذلك، بالنسبة لجميع المسلمين القادرين على تقديم المسساعدة وتفريج كرب المكروبين.

يا لها من لحظات إيمانية رائعة ومعبرة، ويا لها من سعادة وهناءة تنتاب قلبك وفؤادك يا من تقوم بهذه العبادة، تلك اللحظة التي تشعر بها أنك نفست عن مؤمن كربة أو محنة، أو خففت عن مؤمن آلامه وأحزانه، فترى الشكر والامتنان في عينيه، والدعاء لك بالتوفيق والسداد بين شفتيه، وقد غمرت الفرحة قلبه وعلت البسمة وجهه ومحياه، وعندها فقط يمكن أن تحيا وتشعر لا أن تقرأ أو تسمع، بصدق تلك المقولة المعبرة الرائعة: لذة العطاء أعظم وأحلى من لذة الأخذ.

وأول ما ينتظرك يا من تؤدي هذه العبادة العظيمة، بشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بها بالنجاة والفرج يوم القيامة، بقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» (صحيح الألباني / 6707 عن ابن عمر). وفي رواية سنن النسائي «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (4/308 برقم 7286).

هل يستشعر القارئ الكريم عظيم ما ينتظره بهذه العبادة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرك بأن الله تعالى سيكون في قضاء حاجتك وتيسيرها، إن كنت أنت في حاجة أخيك وقضائها، وهل تخيب حاجتك وقد تكفل الله تعالى لك بإنجازها! ثم لك فوق ذلك بكل كربة تفرجها عن مسلم في الدنيا، أن يفرج الله عنك كربة وشدة من كرب وشدائد يوم القيامة، وهي منحة لا يعطيها إلا مالك الملك سبحانه، فحوائج الدنيا مهما عظمت لا تساوي شيئًا أمام شدائد الآخرة وأهوالها، فهل يستشعر المسلم عظيم عطاء الله تعالى في هذا الحديث وهذه العبادة؟

لقد دفعت هذه العبادة لأهميتها ومكانتها في فهم الرعيل الأول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ترجمان القرآن وحبر الأمة، دفعته لترك الاعتكاف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخروج منه لقضاء حاجة مسلم وتفريج كربه وهمه.

عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنه كان معتكفًا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل فسلم عليه ثم جلس، فقال له ابن عباس: يا فلان أراك مكتئبًا حزينًا؟! قال: نعم يا ابن عم رسول الله، لفلان علي حق ولاء، وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه، قال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك، فقال: إن أحببت قال: فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟! قال: لا ولكني سمعت صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم والعهد به قريب فدمعت عيناه وهو يقول: «من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرًا له من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يومًا ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق أبعد مما بين الخافقين»" (رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي واللفظ له والحاكم مختصرًا وقال صحيح الإسناد).

لم يترك ابن عباس رضي الله عنه اعتكافه في أي مسجد، بل ترك الاعتكاف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما له من أجر مضاعف وعظيم، ولم يتركه لينقذ مسلمًا من الموت جوعًا أو بردًا أو خوفًا وذعرًا، بل خرج ليكلم له دائنه بالتأجيل والنظرة إلى الميسرة فحسب، وهي حاجة ربما يستصغرها بعض المسلمين اليوم، إلا أنها كانت كافية لإخراج ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم من معتكفه وعبادته.

أفلا تستحق آلام المسلمين المنكوبين اليوم، بأن نخرج من شح النفوس وهواها إلى كرمها وتقواها، ومن قسوة القلوب وغفلتها إلى لينها وذكرها لخالقها ومولاها، ومن إغلال الأيدي إلى الأعناق إلى بسطها بعض البسط في الإنفاق.

د. عامر الهوشان