من أجل هذه الكلمات

منذ 2013-05-27

ويحدثنا التاريخ بكل قرونه الممتدة، وطيات صفحاته المتابعة وعبره المتعاقبة، عن أناس دفعوا حياتهم وهم يستقلون بها، وبذلوا أرواحهم وهم يسترخصونها، ثمنا لهذه الكلمات المقدسة، التي ارتقت بالإنسان إلى أعلى مراتب الإنسانية، وأذاقته حلاوة العدل بعد مرارة الظلم، وأخذت بيده عبر المتاهة الظلامية البشرية، إلى آفاق النور الرباني المشرق الواضح الفطري الجميل.

 

تظل الكلمات هي الوجه الأوضح والأصدق؛ للتعبير عما نحمله من أفكار، وما نؤمن به من عقائد وقيم بكل دقة، والأكثر شفافية وإيحاء عما تحتضنه جوانحنا من يقينيات تمتلئ بها نفوسنا وتستيقنها، وتبقى صدى يتردد بكل ثبات ورتابة واصرار، معبراً عن مدى إيماننا بمعتقداتنا واستعدادنا للتضحية من أجلها، وحماية أهدافها والصبر على تكاليفها ومتطلباتها، وبقدر ما نحسه تجاه هذه الكلمات من تقدير وتصديق، وبحسب ما نتوقعه من روعتها وقدرتها على الارتقاء بنا كبشر مكرمين، تكون تضحياتنا وثباتنا على هذه الكلمات.

والكلمات والحال هذه، لابد وأن تكون ثمينة وعزيزة وصادقة، وآسرة للوجدان، ومطمئنة للأفئدة الوجلى، والنفوس المضطربة، ولكي تكون أهلا للافتداء والإتباع، لا بد لها أن تكون مقدسة في سويداء القلوب مستقرة بها، لا تستطيع النفس الهمس حتى مجرد الهمس بتركها، والتخلي عنها، أو استغلاء أي غال في سبيل علوها وامتدادها، وبسطها وارف ظلالها على كل مكدود ضانك ملهوف مظلوم.

وتتألق الحقيقة بكل تجلياتها، لنخلص إلى أنها لابد وأن تكون كلمات الله التي لا يأتيها الباطل ولا يمر من خلالها، ولا يقدر على محوها زمن ولا طاغوت ولا متجبر متكبر، ولا حتى تجرؤ على تجاهلها والاستخفاف بها نفس سوية عاقلة مدركة متفكرة.

ويحدثنا التاريخ بكل قرونه الممتدة، وطيات صفحاته المتابعة وعبره المتعاقبة، عن أناس دفعوا حياتهم وهم يستقلون بها، وبذلوا أرواحهم وهم يسترخصونها، ثمنا لهذه الكلمات المقدسة، التي ارتقت بالإنسان إلى أعلى مراتب الإنسانية، وأذاقته حلاوة العدل بعد مرارة الظلم، وأخذت بيده عبر المتاهة الظلامية البشرية، إلى آفاق النور الرباني المشرق الواضح الفطري الجميل.

يحدثنا التاريخ عن امرأة، في مقاييس الجاه أمة مملوكة، وفي مقاييس الصور سوداء، وفي مقاييس الأملاك والأطيان معدمة، ولكنها في مقياس الإنسانية النقي الحقيقي إنسانة ممتلئة بإنسانيتها، كريمة النفس متفكرة الفؤاد، لامست كلمات الله وجدانها فالتقطتها، وتمسكت بها، وقد أدركت أنها طوق النجاة الذي بحثت عنه طويلا، ليرفعها على أجنحة الوحدانية المكرمة، إلى أعلى مراتب السمو والكرامة، ورددت تلك الكلمات الخالدة خلود الأبد (لا إله إلا الله)، واستشعرت لذة القرب بعد الفقد، وعزة الجانب بعد الذلة، وخفة التحليق في أفق الحرية بعد ثقل الأغلال، ووجدت في ترداد هذه الكلمات حنين روحها، وبرد راحتها، فاحتضنتها بكل جوارحها، وقد نسيت ما سواها من الكلمات الفارغة الجوفاء.

وحين راودها الطغاة عن دينها وربها وكلماته المقدسة الغالية، تلفتت حولها فإذا هي أم تحنو على فتاها الذي اختار نفس الاختيار، واعتنق ذات الدين، وترنم بذات الكلمات، ثم التفتت مرة أخرى لترى الزوج الحاني، وقد أثقلته السنون وتبعات الجاهلية، ومرهقات الغربة، وضحكت مشاعرها، وسمت روحها، وامتزجت مشاعر الأمومة والحنو، والمحبة والود، بمشاعر الفخر والرضى، والخوف الطبيعي الأمومي، فطافت بها طائفات شتى.

ووجدت نفسها تقارن بين الأمومة وخالقها، وبين العاطفة ومسخرها، وبين المودة وملقيها في القلوب فلا ترى فيها سواه فتسكن إليه روحها وتنحاز إليه تعابيرها فتنطلق كلمات التوحيد ردا قاطعا وتبحث في مواثيق ربقة الجاهلية وإصرها، وتقارنها بنور الإسلام وعدله، بين تلك الكلمات الخرقاء التي تمجد حجارة وجمادات وكل فان مهين، وبين هذه العبارة الرحيبة والصادقة المهيبة، الباعثة للحياة في أرواح ماتت فيها كل إشراقات الحياة، فلا تأخذها مسيرة المقارنة طويلا، فالاختيار واضح لكل ذي لب لبيب، والكلمات العظيمة أغلى من كل ما تملك ومن تحب، وأسمى من كل المشاعر والأحاسيس ما تحسه وتلمسه وتعيش في ظله، منذ آمنت بأنه لا إله إلا الله، فاختارت الموت الكريم على الحياة المجردة من روح الحياة، موقنة بأنه السبيل إلى الكرامة والخلود، فخلد تسمية ذكرا وبطولة ومثلا وفازت بسبق الاستشهاد.

ويحدثنا التاريخ عن رجل عالم أديب توصلت نفسه إلى أعماق الكلمات الربانية، وتشربتها روحه الطيبة، وتمثلها سلوكا وفكرا، فحورب لأجلها وسجن وحكم عليه بالموت ظلما وعدوانا وفرعنة، حتى إذا آن أوان الاستشهاد من عليه الطاغوت بمن يذكره وياللسخرية أن يذكره بالكلمات التي يحكم عليه بالموت لأجلها، فيلتفت إلى الشيخ المعمم وقد طلب منه النطق بالشهادتين، يلتفت إليه بكل اطمئنان المؤمن، وأدب الأديب، وسكينة من يحس بأنه يقف على عتبات الواحد القهار العادل، وبكل ثقة الراضي برضى ربه قائلا: "وهل تراني جئت إلى هنا إلا من أجل هذه الكلمات" فخلد سيد قطب مثلا وعلما وأدبا وثباتا وشجاعة وصدقا وخاب الفرعون واستنزل على نفسه اللعنات وأفضى إلى ما قدم.

ويحدثنا التاريخ وآه من حديث التاريخ حين يجنح به الريح إلى منازل العبر والعظات.. يحدثنا عن فرعون حين أصر على كلماته الخاسرة وصدّق كذبته التي ألقاها في روعه شيطان الكبر وطاغوت الجاه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} [النازعات:24]. فدارت عليه كأس السنن فشربها: {فَأَخَذَهُ اللَّـهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ} [النازعات:25].

ويحدثنا التاريخ عن أمة عاشت في ظل كذبة كبرى، مبنية على كلمات مكذوبة، فأحرقت البلاد وأهلكت العباد، واستباحت بيوت الله وحرماته، وداست القيم وسرقت الأوطان، وزورت التاريخ، وعلت في الأرض بغير الحق، وأسرفت في ظلمها وعلوها، ولم تلق بالا لتلك الكلمات المقدسة المتوعدة الصادقة الربانية {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} [الإسراء من الآية:7] كل هذا وهي تدعي: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّـهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة من الآية:18].

وتظل الكلمات مدارا يسير في مساره، يعبر فيه أهل الصدق عن صدقهم، ويتلاعب فيه شيطان الكذب بأوليائه، وتبقى النفوس الرحبة المطمئنة الرجّاعة إلى ربها، تدفع راضية مرضية، ثمن ولاءها لكلمات الله الخالدة؛ لأنها تستحق التضحية وكيف؟ لا وهي النبع الفياض الدائم العصي على النفاد، الماضي دون تراجع ولا تغيير ولا تبديل، وكيف يتبدل العدل وبم؟ وكيف تنفد الرحمة والرزق والعطاء ولم؟

{قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]

فتبقى كلمات الله هي الكلمات التي من اجلها تقبل الأرواح على الموت وهي مستبشرة بصدق الوعد ورحمة الواعد وروعة اللقاء.

اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

 

رقية القضاة

كاتبة إسلامية وباحثة أردنية