ماذا يفعل ماكين في سوريا؟

منذ 2013-06-08

الصراع في سوريا اليوم قد أصبح على المكشوف، فالجميع قد كشف أوراقه، وألقاها أمام الجميع، وآخرهم رئيس حزب الشيطان الشيعي حسن نصر الشيطان يوم الأحد، ويبقى الفائز في ملحمة عض الأصابع الجارية على أرض سوريا، أكثر هذه الأطراف صبرًا وثباتًا، فبجانب التوازن الحرج بين أطراف الأزمة داخل سوريا (ثوار من شتى الأطياف ـ جيش نظامي وشبيحة)، يلعب البعد الخارجي دورًا مركزيًّا حاسمًا في توجيه مسارها...


الصراع في سوريا اليوم قد أصبح على المكشوف، فالجميع قد كشف أوراقه، وألقاها أمام الجميع، وآخرهم رئيس حزب الشيطان الشيعي حسن نصر الشيطان يوم الأحد، ويبقى الفائز في ملحمة عض الأصابع الجارية على أرض سوريا، أكثر هذه الأطراف صبرًا وثباتًا، فبجانب التوازن الحرج بين أطراف الأزمة داخل سوريا (ثوار من شتى الأطياف ـ جيش نظامي وشبيحة)، يلعب البعد الخارجي دورًا مركزيًّا حاسمًا في توجيه مسارها.

فالتاريخ والجغرافيا جعلا سوريا دومًا عند مسافة تتقاطع فيها المصالح الاستراتيجية والخلافات ذات الأبعاد السياسية والدينية والعرقية بين القوى الإقليمية الرئيسة؛ بل ويمتد تأثير سوريا إلى بعض دول المنطقة بحكم طبيعة التركيبة الاجتماعية المكونة لأعراق وديانات ومذاهب شعبها وامتداداتها في قلب هذه الدول، وإلى جانب هذا البعد الإقليمي وعلاقات أطرافه بالعالم نجد سوريا دائمًا تكون رقمًا مهمًّا تتقاطع عنده مصالح الدول المؤثرة في النظام الدولي، وتبرز أهميتها عند لحظات التحول الكبرى في طبيعة وشكل هذا النظام باعتبارها بوابة يمكن عبرها هندسة المصالح وإعادة صياغة موازين القوى الجديدة، فالميدان السوري اليوم هو عبارة عن حلبة الصراع بين العديد من الأطراف الدولية على النفوذ والمصالح والاستراتيجيات والحلفاء والمآلات، أيضًا حلبة صراع كبرى بين الأيديولوجيات والمناهج والعقائد والرؤى والأفكار، وهذا من قدر بلاد الشام، معدن الطائفة المنصورة، وأرض محشر الناس ليوم الميعاد.

ففي خطوة وُصفت بأنها تسريع لوتيرة الحسم النهائي للأزمة السورية، دخل السيناتور الأميركي جون ماكين الاثنين سوريا عبر تركيا لعدة ساعات؛ حيث التقى مع قياديين من المعارضة السورية، وقد أكد المتحدث باسم ماكين "بريان روجيرز" لشبكة "سي إن إن" الأميركية أن السيناتور الأميركي دخل سوريا عبر تركيا وبقي فيها عدة ساعات، التقى خلالها برئيس أركان الجيش السوري الحُرّ "سليم إدريس" ومع قياديين آخرين في المعارضة، وتباحثوا في مسألة تسليح الجيش الحُرّ بأسلحة ثقيلة وصواريخ متطورة، لمواجهة التطور الميداني الحادث على أرض سوريا بعد الدخول العلني لـ "حزب الله" الشيعي في المعركة ضد الثوار السوريين، والتصريح الصدامي لحسن نصر الشيطان يوم الأحد عن القتال في سوريا.

بوْنٌ كبير بين أول رد فعل أمريكي على الثورة السورية في تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية في 28 مارس 2011م، لدى سؤالها عما إذا كان من المتوقع تدخُّل الولايات المتحدة في سوريا على غرار تدخلها في ليبيا بفرض حظر جوي، أجابت قائلة: "كلا"، وأضافت في نص المقابلة الذي نشرته شبكة "سي بي إس" الأمريكية: أن "كلاًّ من هذه الأوضاع له خصوصيته، ومن المؤكد أننا نأسف بشدة للعنف في سوريا"، وبين الخطوة الجريئة التي قام بها جون ماكين بدخول سوريا والاجتماع مع بعض قادة المعارضة، فما الذي تريده أمريكا من الثورة السورية، وماذا يفعل ماكين في سوريا؟

أمريكا ظلت منذ بداية الثورة السورية رهينة الترقب والحذر من الدخول بقوة على مسارات الأزمة المتشابكة، مكتفية بإدانة فاترة وشجب بارد للمجازر السورية، تُجمِّل بها وجهها القبيح أمام هيئات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية، وذلك لأسباب كثيرة من أهمها تغير مزاج الناخب الأمريكي تجاه التدخلات الخارجية بعد ويلات أفغانستان والعراق، واتجاه هذا الناخب نحو مشاكله وأزماته الداخلية، ومنها مصلحة "إسرائيل" وتأثيرها النافذ والحاسم على صانع القرار الأمريكي، و"إسرائيل" كانت وما زالت ترى في أسرة الأسد والطائفة العلوية صديقًا مخلصًا وكنزًا استراتيجيا يعوض فقيدها الغالي ـ المخلوع مبارك ـ، منها استشراف مآلات الثورات العربية والتي أدت في معظمها لوصول الإسلاميين إلى الحكم.

ومع متغيرات الواقع السوري ومعطيات الثورة المتجددة أخذت أمريكا تتحرك نحو الخروج من الانكفاء ومطالبة النظام السوري بإجراء إصلاحات تلبي حاجات الشعب السوري، إلى خطوة أكثر جدية في فرض عقوبات اقتصادية على الأسد ومساعديه ومقربيه، حتى جاءت أول إشارة علنية لتغير الموقف الأمريكي من الثورة السورية خلال مقابلة تلفزيونية للرئيس الأمريكي أوباما مع شبكة "سي بي إس" في 12 يوليو 2011م، قال فيها: "إن بشار الأسد فقد شرعيته لعجزه عن إنجاز التحوّل الديمقراطي"، ولكنه لم يدعه إلى التنحي عن الحكم، ولم يُقدِّم أوباما على ذلك الموقف إلا في 18 أغسطس 2011م عندما تبيَّن فشل مساعي وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو في إقناع الأسد بإيقاف الحل الأمني خلال زيارة قام بها إلى دمشق في 9  أغسطس 2011م.

لكنَّ الولايات المتحدة عادت وتبنَّت موقفًا أكثر تحفُّظًا من الثورة، وما إن تم توقيع اتفاقية جنيف في 30 يونيه 2012م حتى دخل الأمريكان حيز الجمود الدبلوماسي تجاه الثورة السورية، وتوقف الحديث عن حلول للأزمة السورية، حتى إن الرئيس أوباما في خطاب "حال الاتحاد" في 12فبراير 2013م لم يتطرق إلى هذه المسألة مطلقًا؛ بل اكتفى بالقول: إنه سيواصل ضغوطه على النظام السوري وسيدعم قادة المعارضة، والأمر لم يكن يحتاج كبير تفسير لفهم أسباب الجمود الأمريكي وغض الطرف عن المساعدات الضخمة التي تنهال على الأسد من روسيا وإيران، فتخوُّف واشنطن من التوجهات السياسية والأيديولوجية لجزء من المجموعات المسلحة المعارضة للنظام السوري، وتداعيات ذلك على أمن المنطقة عامة و"إسرائيل" خاصة؛ إذ لا ترغب إدارة أوباما بدعم هذه المجموعات بالسلاح بما يؤدي إلى حسم المعركة لصالحها.

وشبح تجربتهم المريرة في أفغانستان عندما سلَّحوا جماعات المجاهدين لطرد القوات السوفيتية، ثم اتخذوا بعد ذلك أميركا نفسها هدفًا لهجماتهم، ما زال يطاردهم حتى اليوم، وقد تعمَّقت هذه المخاوف بعد مقتل السفير الأميركي في بنغازي، ونظرًا لتشرذم المعارضة السياسية السورية، وغياب بديل ميداني ذي توجهات متماهية مع المصالح الأمريكية ليحل محل النظام الحالي؛ وبسبب تأثير التجربة الأميركية في العراق أيضًا والنتائج الكارثية لانهيار الدولة هناك، بدأت أمريكا تقترب أكثر من الموقف الروسي الهادف إلى إيجاد حل سياسي يضمن الحفاظ على النظام وفق بنيته الحالية ومؤسساته.

وقد عبَّر وزير الخارجية الأميركي الجديد جون كيري بوضوح عن ذلك في شهادة أدلى بها أمام الكونجرس في 24 يناير 2013م، إذ قال: إن "التنسيق مع روسيا في الأزمة السورية هو أقل الشرور"، ومن هنا يتضح سبب مسارعة الولايات المتحدة إلى الترحيب بمبادرة معاذ الخطيب رئيس "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة" السورية في 5 شباط/ فبراير 2013م للحوار مع أطراف من النظام.

وبعد شهور من المد والجزر في الموقف الأمريكي جاء التدخل الشيعي السافر من جانب حزب الشيطان اللبناني ليضع الموقف الأمريكي على المحك، فالوضع ميدانيًّا بات في غاية التعقيد والصعوبة، والتوازن الحرج بين قوى المواجهة في سوريا داخليًّا والذي ظل الأمريكان محافظين به على الصراع في مكانه مراوحًا بين أقدامه - قد اختل بشدة، بعد الدخول الصريح والمباشر للمليشيات الشيعية.

فقد أصبح لدى الأسد ممرات أرضية ومزايا جيوسياسية وسَّعت قدراته على المناورة وفرض الشروط، والمواجهة في سوريا اليوم تعدت نطاقها المحلي لتطول دول الجوار منذرة بحرب إقليمية طائفية، فليس شيعة لبنان وحدهم في الميدان، فقد تواترت الأنباء عن دخول مليشيات شيعية عراقية مثل فيلق بدر و"حزب الله" العراقي وعصائب الحق لمساندة مقاتلي حزب الشيطان، وانتقلت المواجهات من القصير بحمص إلى دمشق والحدود اللبنانية ثم الداخل اللبناني، وهذا التطور سيعرض أمن المنطقة كلها للخطر، فلن يصمت أهل السنة على ذبح إخوانهم السوريين نهارًا جهارًا على يد أنجاس كفار، وستشتعل المواجهات الطائفية في كل دول الجوار، وما لم يتم حسم هذه الأزمة سريعًا سيكون الأمريكان أكثر الناس خسارة.

لذلك كان تحرك ماكين الأخير، فأمريكا سرَّعت من وتيرة جهودها الرامية لإيجاد البديل العلماني الملائم عن جبهة النصرة والتشكيلات الإسلامية المجاهدة بسوريا حتى تتفادى آثار تجاربها السابقة، وهو ما توفر في شخص اللواء سليم إدريس رئيس أركان الجيش الحُرّ بعد التخلص من القيادات المشكوك في ولائها مثل رياض الأسعد، وبعد أخذ التعهدات والمواثيق اللازمة، وبعد تدريب بعض كوادر الجيش الحُرّ في الأردن على مواجهة جبهة النصرة، وأمريكا لم تكن متحمسة بقوة لسليم إدريس، فهي قد وضعت قيدًا تبدأ عنده في تنفيذ تعهداتها له.

هذا القيد هو ليس التزام إدريس ومن معه بالعلمانية فحسب؛ ولكن أيضًا مقاتلة جبهة النصرة وطرد المجاهدين الأجانب من سوريا، وهو ما لم يتعهد به إدريس وتخوف منه حتى وقع المتغير الأخير بالدخول المباشر والصريح من المليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية والإيرانية في القتال بسوريا، عندها تضاءلت فرص المناورة الأمريكية على إدريس ومن معه، ومن ثم كانت زيارة ماكين الأخيرة ووعود التسليح الكبير والثقيل للجيش الحر، لضرب عصفورين بحجر واحد، التخلص من الضغوط الإيرانية ومنع اندلاع حرب طائفية إقليميًّا، ثم استخدام نفس التسليح في مواجهة جبهة النصرة، فهل ستنجح الخطط والمساعي الأمريكية لاحتواء الوضع السوري إنهائه كما يريد الأمريكان؟

لا أعتقد.

شريف عبد العزيز الزهيري