الإفساد وثورة العراق

منذ 2013-06-18

لَقَدْ كَانَ الْعِرَاقُ جَنَّةً مِنْ جَنَّاتِ اللهِ تعالى فِي الْأَرْضِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي أَرْضِهِ مِنَ الخَيْرَاتِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي غَيْرِهَا، فَبَاطِنُهَا ذَهَبٌ أَسْوَدُ، وَظَاهِرُهَا مُرُوجٌ وَأَنْهَارٌ وَثِمَارٌ، فَأَحَالَهَا الغَرْبِيُّونَ ثُمَّ الصَّفَوِيُّونَ إِلَى جَحِيمٍ لاَ يُوصَفُ، وَعَذَابٍ لاَ يُطَاقُ..

الخطبة الأولى:

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ، وَأَخْلِصُوا لَهُ أَعْمَالَكُمْ، وَعَلِّقُوا بِهِ قُلُوبَكُمْ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَعَاشِكُمْ وَمَعَادِكُمْ بِيَدِهِ سبحانه وتعالى؛ {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17].

أَيُّهَا النَّاسُ، تَسْمُو النَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ إِذَا سَعَتْ بِالْخَيْرِ وَالصَّلاحِ لِلنَّاسِ، وَعَمِلَتْ مَا يُدْخِلُ السُّرُورَ وَالسَّعَادَةَ عَلَيْهِمْ، وَتَسْفُلُ إِذَا أَرَادَتْ لَهُمُ الشَّرَّ وَالْفَسَادَ، وَأَدْخَلَتْ عَلَيْهِمْ الْحُزْنَ وَالشَّقَاءَ، وَالأَرْضُ بِمَا فِيهَا مِنْ خَيْرَاتٍ وَأَرْزَاقٍ، وَمَا تَحْتَاجُهُ مِنْ إِدَارَةٍ وَسُلْطَانٍ، كَانَتْ مَيْدَانًا لِلتَّنَافُسِ الْبَشَرِيِّ عَلَى النُّفُوذِ فِيهَا، وَبَسْطِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِا، فكَانَتِ الْحُرُوبُ وَالنِّزَاعَاتُ مُنْذُ فَجْرِ التَّارِيخِ، فَلاَ عَجَبَ وَالْحَالُ هَذِهِ أَنْ يَنْهَى اللهُ تعالى عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَأَنْ يُكَرِّرَ ذَلِكَ وَيُؤَكِّدَهُ فِي عَشَرَاتِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَبِصِيَغٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَيَضْرِبُ الْأَمْثَالَ بِرُمُوزِ الْإِفْسَادِ فِي التَّارِيخِ الْبَشَرِيِّ، ومَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ.

وَالْإِفْسَادُ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَيَاةِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، وَمِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَيَاتِهِمْ فِي الآخِرَةِ، وَهُوَ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ؛ وَذَلِكَ كَنَشْرِ الْإِلْحَادِ وَالشِّرْكِ وَالْبِدْعَةِ، وَصَرْفِ النَّاسِ عَنِ الدِّينِ الحَقِّ، وَإِفْسَادِ دِينِ النَّاسِ وَمُعْتَقَدَاتِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَمُعَامَلاَتِهِمْ، وَإِبَاحَةِ الْمُحَرَّمَاتِ لَهُمْ، وَأَذِيَّتِهِمْ فِي دِينِ اللهِ تعالى، وهَذَا كَانَ فِعْلَ الْمَلَأِ مِنْ كُلِّ الْأُمَمِ الَّتِي نَاكَفَتِ الرُّسُلَ، وَحَارَبَتْ دِينَ اللهِ تعالى فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، فَانْتَقَمَ اللهُ تعالى مِنْهُمْ، وَجَعَلَهُمْ آيَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ فَذَكَّر بِعَاقِبَتِهِمْ شُعَيْبٌ عليه السلام قَوْمَهُ فَقَالَ لَهُمْ: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:86].

وَكَانَ فِرْعَوْنُ أَشْهَرَ إِنْسَانٍ فِي نَشْرِ الْفَسَادِ وَمَنْعِ الْإِصْلاَحِ؛ وَلِذَا وَصَفَهُ اللهُ تعالى بِالْمُفْسِدِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَكَانَ إِفْسَادُهُ بِسَبَبِ عُلُوِّهِ؛ فَالْإِفْسَاد يَجْمَعُ رَذَائِلَ كَثِيرَةً مِنَ الظُّلْمِ وَالْعُلُوِّ وَالْكِبْرِ وَالطُّغْيَانِ؛ {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْض وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].

وَقَدْ بَلَغَ مِنْ إِفْسَادِ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ جَمَعَ السَّحَرَةَ لِيُطْفِئَ بِسِحْرِهِمْ نُورَ اللهِ تعالى، وَيَدْحَضَ الحَقَّ، وَيَحْجُبَهُ عَنِ النَّاسِ، وهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْإِفْسَادِ؛ فَقَالَ مُوسَى لَهُمْ لَمَّا بَهَرُوا النَّاسَ بِسِحْرِهِمْ: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس من الآية:81]، وَكُلُّ تَغْيِيرٍ لِلْحَقَائِقِ، وَتَبْدِيلٍ لِلْوَاقِعِ بِقَوْلٍ مُزَوَّرٍ أَوْ صُورَةٍ خَادِعَةٍ فَهُوَ مِنَ الْإِفْسَادِ، وَتَتَنَاوَلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ.

وَلَمَّا غَرْغَرَ فِرْعَوْنُ بِالمَوْتِ، وَنَطَقَ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ فِي وَقْتٍ لاَ تَنْفَعُهُ فِيهِ قَالَ اللهُ تعالى: {آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس من الآية:91]، فَوَصْفُهُ سبحانه فِرْعَوْنَ بِالْمُفْسِدِ فِي خِتَامِ حَيَاتِهِ؛ لَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِفْسَادَ يَنْتَظِمُ كُلَّ الأَعْمَالِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرْعِ اللهِ تعالى.

وَلَمَّا قَصَّ اللهُ تعالى عَلَيْنَا خَبَرَ إِفْسَادِ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، أَمَرَنَا بِالاتِّعَاظِ وَالاعْتِبَارِ، فقَالَ سبحانه فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ.

وَلَمَّا أَوْرَثَ اللهُ تعالى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْأَرْضَ بَعْدَ غَرَقِ فِرْعَوْنَ وَجُنْدِهِ، وَفَارَقَهُمْ مُوسَى لِيَذْهَبَ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ هَارُونَ لِيُقِيمَ فِيهِمْ شَرْعَهَ؛ أَوْصَاهُ مُوسَى بِمُجَانَبَةِ طَرِيقِ الْمُفْسِدِينَ؛ {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف من الآية:142].

وَقَارُونُ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى، وَلَكِنَّهُ بَغَى عَلَيْهِمْ بِمَا آتَاهُ اللهُ تعالى مِنْ مَالٍ، وَنَصَحَهُ النَّاصِحُونَ، فَقَالَوا: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْض إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77].

وَقَدْ أَخْبَرَنَا رَبُّنَا سبحانه عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ يَعْرِضُونَ الْإِفْسَادَ فِي أَثْوَابِ الْإِصْلاَحِ؛ لِيَخْدَعُوا بِهِ النَّاسَ، وَيَنْشُرُوهُ فِيهِمْ؛ وَلِذَا كَانَ لاَ بُدَّ لَهُمْ فِي تَسْوِيقِ مَشْرُوعَاتِ الْإِفْسَادِ التَّغْرِيبِيَّةِ مِنْ حُجَجٍ شَرْعِيَّةٍ، فَاسْتَخْدَمُوا لِهَذِهِ المُهِمَّةِ الرَّخِيصَةِ مَنِ اشْتَرَوْا بِعَهْدِ اللهِ تعالى وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً، فَشَرَّعُوا لَهُمْ مَا يُرِيدُونَ، وَلَبَّسُوا عَلَى النَّاسِ دِينَهُمْ، قَالَ اللهُ تعالى فِي الْمُنَافِقِينَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض قَالَوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ} [البقرة:11-12].

وَالكُفَّارُ مِنْ أُمَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أُمَّةُ فَسَادٍ وَإِفْسَادٍ؛ وَلِذَا كَانُوا أَكْثَرَ الأُمَمِ رُسُلاً؛ لِسُرْعَةِ مَا يُغَيِّرُونَ مِنْ دِينِهِمْ، وَمَا يُبَدِّلُونَ مِنْ شَرَائِعِهِمْ، وَمَا يَقْتُلُونَ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ، وَفِي إِفْسَادِهِمْ قَالَ اللهُ تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:4]، وَفِي وَصْفٍ آخَرَ لَهُمْ قَالَ سبحانه: {كُلَمَّا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْض فَسَادًا وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [الَمَّائدة:64].

فَكَفَرَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عَصْرِنَا هُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ إِفْسَادًا فِي الْأَرْضِ، وَإِفْسَادُهُمْ قَدْ جَمَع مَا فِي الْأُمَمِ الْغَابِرَةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِفْسَادِ، وَحَضَارَتُهُمُ المُعَاصِرَةُ شَيَّدُوهَا عَلَى جُثَثِ مَلاَيِينِ الْبَشَرِ وَأَحْزَانِهِمْ، وَغَذَّوْهَا بِدِمَائِهِمْ، وَمَا يَزَالُونَ يُغَذُّونَهَا بِالدِّمَاءِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.

لَقَدْ رَفَضَ المُعَذَّبُونَ مِنْ أَهْلِ الْأُمَمِ الخَالِيَةِ دِينَ اللهِ تعالى، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ الرُّبُوبِيَّةَ وَأَلَّهَ نَفْسَهُ كَمَا فَعَلَ فِرْعَوْنُ، وَالْحَضَارَةُ الغَرْبِيَّةُ المُعَاصِرَةُ أَلَّهَتِ الإِنْسَانَ، وَأَطْلَقَتْ لَهُ الحُرِّيَّةَ، وَجَعَلَتْهُ مَرْكَزَ الكَوْنِ، وَرَفَضَتْ شَرِيعَةَ اللهِ تعالى.

وَفِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مَنْ أَفْسَدُوا الاقْتِصَادَ كَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَحَضَارَةُ الغَرْبِ المُعَاصِرَةُ كَانَ بِنَاؤُهَا الاقْتِصَادِيُّ عَلَى الرِّبَا وَالقُمَاِرِ مُحَارِبِينَ اللهَ تعالى وَرُسُلَهُ عليهم السلام.

وَفِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مَنْ تَخَلَّقُوا بِالفَوَاحِشِ كَقَوْمِ لُوطٍ، وَقَدْ فَاقَ الغَرْبُ قَوْمَ لُوطٍ فِي فَوَاحِشِهِمْ، وَشَرَعُوا أَنْوَاعَ الشُّذُوذِ الجِنْسِيِّ، وَزَوَاجَ الرِّجَالِ بِالرِّجَالِ، وَزَوَاجَ النِّسَاءِ بِالنِّسَاءِ، وَلَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ، وَزَادُوا عَلَيْهِمْ مُزَاوَجَةَ الْبَشَرِ لِلْحَيَوَانَاتِ! نَعُوذُ بِاللهِ تعالى مِنَ الضَّلاَلِ.

وَهَذَا الْإِفْسَادُ العَرِيضُ فِي الْأَرْضِ يَفْرِضُهُ الغَرْبُ بِقُوَّةِ القَرَارِ السِّيَاسِيِّ، وَيُلَوِّحُونَ بِالتِّرْسَانَةِ العَسْكَرِيَّةِ الضَّخْمَةِ فِي وَجْهِ مَنْ يُعَارِضُهُ، وَيَرْبِطُونَهُ بِالمُسَاعَدَاتِ الاقْتِصَادِيَّةِ لِلدُّوَلِ الَّتِي أَفْقَرُوهَا وَنَهَبُوا ثَرَوَاتِهَا.

إِفْسَادٌ مُتَرَاكِمٌ مُظْلِمٌ قَاتِمٌ، جَمَعَ العُلُوَّ وَالطُّغْيَانَ وَالظُّلْمَ وَالأَثَرَةَ وَالاعْتِدَاءَ، وَاسْتِرْخَاصَ الْبَشَرِ، وَسَفْكَ الدِّمَاءِ.

وَمَا مِنْ دَوْلَةٍ أَتَى عَلَيْهَا الاسْتِعْمَارُ الغَرْبِيُّ عَسْكَرِيًّا إِلاَّ وَنَشَرَ فِيهَا الفَوْضَى، وَقَضَى عَلَى الاسْتِقْرَارِ، وَنَهَبَ ثَرَوَاتِهَا وَمُقَدَّرَاتِهَا، وَجَعَلَهَا دَوْلَةً مُتَخَلِّفَةً.

وَمَا مِنْ دَوْلَةٍ صَدَّرَ فِكْرَهُ إِلَيْهَا بِمَا يُسَمَّى القُوَّةَ النَّاعِمَةَ إِلاَّ أَفْسَدَ دِينَهَا وَأَخْلَاقَهَا، وَقَضَى عَلَى اسْتِقْلالِهَا، وَجَعَلَهَا تَابِعَةً لَهُ، ذَيْلاً فِي الْأُمَمِ وَلَوْ كَانَتْ مِنْ أَغْنَى الدُّوَلِ.

وَمَا سُفِكَ مِنْ دِمَاءِ الْبَشَرِ لِبَقَاءِ النُّفُوذِ الغَرْبِيِّ أَوْ تَوْسِيعِهِ مُنْذُ قِيَامِ حَضَارَتِهِمُ المُعَاصِرَةِ يَزِيدُ عَلَى مَا سُفِكَ مِنْ دِمَاءِ الْبَشَرِ مُنْذُ أَنْ كُتِبَ التَّارِيخُ إِلَى مَا قَبْلَ سِيَادَتِهِمْ، وَفِي مَجَازِرِ فِلَسْطِينَ وَأَفْغَانِسْتَانَ وَالْبُوْسَنَةِ وَالهِرْسَكِ وَكُوسُوفَا وَالشِّيشَانِ وَالْعِرَاقِ وَسُورِيَّا بَرَاهِينُ لِلْمُشَكِّكِينَ، يَقْتَسِمُونَ الأَدْوَارَ، ثُمَّ يَسْتَصْدِرُونَ القَرَارَ، فَيَبْدَؤُونَ، فَقَوْمٌ يَذْبَحُونَ وَيُعَذِّبُونَ وَيَقْتَلُونَ وَيَغْتَصِبُونَ وَيَنْهَبُونَ، وَآخَرُونَ يُهَدِّئُونَ وَيُطْلِقُونَ المُبَادَرَاتِ تِلْوَ المُبَادَرَاتِ لِامْتِصَاصِ الغَضَبِ، وَلِتَمْكِينِ الجَلاَّدِ مِنَ الإِجْهَازِ عَلَى ضَحَايَاهُ، وَهَذَا مَا نُشَاهِدُهُ الآنَ فِي أَرْضِ الشَّامِ وَفِي غَيْرِهَا، وَإِنَّهُمْ لَحَقِيقُونَ بِقَوْلِ اللهِ تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، {طَغَوْا فِي البِلَادِ . فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر:11-12].


فَنَسْأَلُ اللهَ تعالى بِقُدْرَتِهِ أَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِمْ سَوْطَ عَذَابٍ، وَأَنْ يَنْصُرَ أُمَّةَ الإِسْلامِ عَلَيْهِمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [البقرة من الآية:223].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مَنْ تَأَمَّلَ الْآيَاتِ القُرْآنِيَّةَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِفْسَادِ يَجِدُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا يُقْرَنُ فِيهَا الْإِفْسَادُ بِالْأَرْضِ، مِمَّا يَعْنِي تَصْدِيرَ الْفَسَادِ إِلَى الغَيْرِ، وَنَشْرَهُ فِي الْأَرْضِ، وَهَاكُمْ جُمْلَةً مِنَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة من الآية:60]، {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [الَمَّائدة من الآية:33]، {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف من الآية:56]، {مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ} [يوسف من الآية:73]، {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ} [الإسراء من الآية:4]، {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف من الآية:94]، {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} [القصص من الآية:77]، {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [محمد من الآية:22].

وَبِقَدْرِ مَا يَمْلِكُ الْمُفْسِدَ مِنْ قُوَّةٍ إِنْسَانًا كَانَ أَمْ دَوْلَةً أَمْ أُمَّةً تَكُونُ قُوَّةُ نَشْرِهِ لِلْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَتَشْرِيعُهُ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى يَصِيرَ مَألُوفًا لاَ يُنْكِرُونَهُ، بَلْ يُدَافِعُونَ عَنْهُ؛ وَلِذَا نَجِدُ مِنْ مَسْلُوبِي الإِرَادَةِ، وَمُسْتَلَبِي العُقُولِ مِمَّنْ يُسَمَّوْنَ بِالمُفَكِّرِينَ وَالمُثَقَّفِينَ مَنْ يُدَافِعُونَ عَنْ حَضَارَةِ الغَرْبِ رَغْمَ مَا يَرَوْنَهُ مِنْ تَوَحُّشِهَا وَضَرَاوَتِهَا فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ والْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ الآلَةَ الإِعْلاَمِيَّةَ، وَالتَّنْظِيرَ الفِكْرِيَّ الفَلْسَفِيَّ يَعْمَلُ عَمَلَهُ فِي العُقُولِ حَتَّى تُسَوِّغَ الجَرَائِمَ، وَتَسْتَسِيغَ المَذَابِحَ.

وَمَا وَجَدَ الغَرْبُ أُمَّةً تُمَاثِلُهُ فِي وَحْشِيَّتِهَا، وَتُنَافِسُهُ فِي قَسْوَتِهَا كَالفِرَقِ البَاطِنِيَّةِ؛ وَلِذَا مَكَّنَ لَهَا فِي بِلاَدِ المُسْلِمِينَ، وَسَلَّطَهَا عَلَيْهِمْ، فَعَاثَتْ فِيهَا فَسَادًا، كَمَا مَكَّنَ لِلنُّصَيْرِيَّةِ فِي الشَّامِ، فَقَضَوْا خِلاَلَ نِصْفِ قَرْنٍ عَلَى حَضَارَتِهَا الزَّاهِيَةِ، وَجَعَلُوا شَعْبَهَا الأَبِيَّ الغَنِيَّ مِنْ أَفْقَرِ الشُّعُوبِ وَأَذَلِّهُمْ.

ثُمَّ تَسَلَّطَ الغَرْبُ الْمُفْسِدُ عَلَى الْعِرَاقِ الَّذِي خَرَّجَ إِمَامَيِ الفِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانَ وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي جُمْلَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ العُلَمَاءِ وَالقُرَّاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالأُدَبَاءِ وَالمُؤَرِّخِينَ، فَعَاثَ فِيهَا فَسَادًا وَأَرْجَعَهَا إِلَى الوَرَاءِ مِئَاتِ السِّنِينَ، ثُمَّ سَلَّمَهَا لِوُكَلاَئِهِ الصَّفَوِيِّينَ لِيُبِيدُوا أَهْلَ السُّنَّةِ؛ فَفَعَلُوا مِنَ الجَرَائِمِ مَا يَعَفُّ عَنْهُ الوَصْفُ، وَيَعِزُّ عَلَى العَدِّ وَالْحَصْرِ، وَبَعْضُهُ مَنْقُولٌ فِي الشَّبَكَاتِ العَالَمِيَّةِ لِلتَّوَاصُلِ.

لَقَدْ كَانَ الْعِرَاقُ جَنَّةً مِنْ جَنَّاتِ اللهِ تعالى فِي الْأَرْضِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي أَرْضِهِ مِنَ الخَيْرَاتِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي غَيْرِهَا، فَبَاطِنُهَا ذَهَبٌ أَسْوَدُ، وَظَاهِرُهَا مُرُوجٌ وَأَنْهَارٌ وَثِمَارٌ، فَأَحَالَهَا الغَرْبِيُّونَ ثُمَّ الصَّفَوِيُّونَ إِلَى جَحِيمٍ لاَ يُوصَفُ، وَعَذَابٍ لاَ يُطَاقُ.

كَانَ تَمْرُ الْعِرَاقِ يُصَدَّرُ إِلَى أَقْطَارِ الْأَرْضِ، فَيُفْطِرُ عَلَيْهِ مَلاَيِينُ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ، وَجَاوَزَتْ أَنْوَاعُ ثِمَارِهِ أَعْدَادَ أَيَّامِ السَّنَةِ، وَبَعْدَ الاحْتِلاَلِ الصَّفَوِيِّ لاَ تَمْرَ فِي الْعِرَاقِ، يَسْتَجْدِيهِ أَهْلُهَا مِنَ الدُّوَلَ المُجَاوِرَةَ لِتُرْسِلَهُ لِيُفْطِرُوا عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ.

لَقَدْ أَفْسَدَهَا الصَّفَوِيُّونَ فَنَهَبُوا خَيْرَاتِهَا، وَدَمَّرُوا تَعْلِيمَهَا، وَقَتَلُوا عُلَمَاءَهَا، وَقَضَوْا عَلَى ثَقَافَتِهَا وَحَضَارَتِهَا، وَطَمَسُوا تُرَاثَهَا لِيَسْتَبْدِلُوا بِهِ تُرَاثَ المَجُوسِ!

لَقَدْ ظَنَّ البَاطِنِيُّونَ وَقَدْ سَلَّمَ لَهُمُ الغَرْبُ عَاصِمَةَ الْأُمَوِيِّينَ، ثُمَّ عَاصِمَةَ العَبَّاسِيِّينَ، أَنَّهُمْ غَدًا يَكُونُونَ فِي عَاصِمَةِ الخِلَافَةِ الرَّاشِدَةِ، وَلَكِنَّ اللهَ تعالى بِلُطْفِهِ بِالمُسْلِمِينَ أَشْعَلَ ثَوْرَتَيْنِ مَجِيدَتَيْنِ فِي الشَّامِ وَالْعِرَاقِ سَتُعَرْقِلُ المَشْرُوعَ الصَّفَوِيَّ الطَّامِحَ، وَرُبَّمَا قَضَتْ عَلَيْهِ نِهَائِيًّا..

لَقَدْ ضَاقَ أَهْلُ الْعِرَاقِ بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالطُّغْيَانِ، فَخَرَجُوا يَتَسَلَّحُونَ بِالإِيمَانِ، وَيَرْجُونَ عَوْنَ الوَاحِدِ القَهَّارِ، وَهُوَ سبحانه نَاصِرُهُمْ مَتَى مَا صَبَرُوا وَثَبَتُوا وَأَيْقَنُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ تعالى حَقٌّ، وَعَلَّقُوا قُلُوبَهُمْ بِهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ.

إِنَّ المَكْرَ الغَرْبِيَّ الصَّفَوِيَّ قَدْ طَفَا عَلَى السَّطْحِ، وَإِنَّ اقْتِسَامَ الأَدْوَارِ بَيْنَ الدُّوَلِ الْمُفْسِدَةِ المُسْتَبِيحَةِ لِدُوَلِ الإِسْلاَمِ قَدْ بَانَ لِكُلِّ ذِي بَصِيرَةٍ، وَمَا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ إِلاَّ أَنْ تَجْتَمِعَ كَلِمَتُهُمْ، وَأَنْ تَتَرَاصَّ صُفُوفُهُمْ، وَأَنْ يَنْبُذُوا خِلافَاتِهِمْ، وَأَنْ يُعِينُوا إِخْوَانَهُمْ بمَا يَسْتَطِيعُونَ، وَأَعْظَمُ ذَلِكَ وَأَجَلُّهُ الدُّعَاءُ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَنْزِلُ النَّصْرَ، وَيَدْرَأُ الخَطَرَ.

إِنَّ الغَرْبِيِّينَ وَالصَّفَوِيِّينَ يَسْعَوْنَ لِإِثَارَةِ الفِتَنِ فِي بِلاَدِ المُسْلِمِينَ، وَتَفْرِيقِهِمْ شِيَعًا وَأَحْزَابًا مُتَنَاحِرَةً؛ لِيُحَقِّقَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَطْمَاعَهُ فِي المِنْطَقَةِ، وَإِنَّ وَحْدَةَ صَفِّ المُسْلِمِينَ، وَاجْتِمَاعَ كَلِمَتِهِمْ، وَعَوْنَهُمْ لِإِخْوَانِهِمُ المُضْطَهَدِينَ سَيُفْشِلُ المَشْرُوعَاتِ الصَّفَوِيَّةَ الصِّهْيَوْنِيَّةَ؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...