ضرورة الدولة في الإسلام
وإذا كانت (الدولة) تمثل ضرورة من ضرورات الاجتماع الإنساني؛ حيث لا يصلح الناس دون قانون ناظم، وإطار جامع يضبط إيقاع الحياة؛ فإن الرؤية الإسلامية لـ: (ضرورة الدولة) تضيف لذلك أن الإسلامَ لا يمكن أن يقوم بحدوده وقوانينه الإنسانُ في إطار (الفرد)، بل لا بد من إطار (الجماعة)، الذي تنتظمه الدولة وتنظِّمه.
الإسلامُ ليس مجرد فكرة من الأفكار، ولا فلسفة من الفلسفات، ولا معرفة من المعارف، بل هو نظام وقانون له أركانه وأُسسه، وتوابعه ومقتضياته. ولو كان الإسلامُ مجرد فكرة أو فلسفة أو معرفة من الأفكار والفلسفات والمعارف، لصحَّ أن يكونَ موضع أخْذٍ ورَدٍّ، ومحلاًّ للقيل والقال، دون أن يجدَ مَن يدافع عنه، ويذود عن حِياضه، بل لاجترأ عليه السفهاءُ من كل حدَب وصوب، وما أكثرَ السفهاءَ حين يتصل الأمر بالإسلام! لقد شاءت حكمةُ الله البالغة أن يتصارعَ الحق والباطل، وأن يحكمَ صراعَهما سننٌ وقوانينُ لا تحابي أحدًا، ولا تخضع إلا لمن يبذلُ لها أسبابَها: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4].
ومتى تصارَعَ الحقُّ والباطل، ولم يكن للحق دولة وصولة مثل ما للباطل؟ فإن انتصار الحق يبقى حُلْمًا بعيدَ المنال، أقرب إلى الخيال والأماني! ولذلك أمَرَنا الله تعالى بقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]؛ أي: قاتلوهم مجتمعين، كما يقاتلونكم مجتمعين، أو قاتلوهم جميعًا كما يقاتلونكم جميعًا؛ فالآية الكريمة لا تقرِّر معاذ الله عدوانًا على أحدٍ، ولا تدعو إلى مبادأة أحد بالقتال كما يظن البعض، إنما هي توجب على أهل الحق أن يَهبُّوا لنصرتِهِ ويحشدوا صفوفهم، كما يتداعى أهل الباطل إلى باطلهم. وقال سبحانه أيضًا: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] فكيف يمكن أن تتحقق لنا (المِثْلِيةُ) في رد العدوان، إن لم نملك من القوة والعدة على أقل تقدير مثلما يملِكُ أهل الباطل؟!
وهذا ما استنبطه الإمامُ ابن تيمية من قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25]، فقال: "لا بد للدِّين من كتاب هادٍ، وحديدٍ ناصر"؛ لأن الكتاب دون حديدٍ (أي: قوة) ينصره، يبقَى مجرد مواعظَ، قد يتطاول عليها السفهاءُ دون خوف من عقاب. ولذلك أرشدنا الخليفةُ الراشد عثمان بن عفان إلى تلك الحقيقة المؤكدة بقوله: "إن اللهَ لَيَزَعُ بالسلطان، ما لا يَزَعُ بالقرآن".
لقد ظل النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو قومَه بلا ضجر أو ملل، بذَل لهدايتهم ما يستطيع من وسائل، حتى كادت نفسُه تذهب عليهم حسرات! فنزل القرآنُ الكريم يعزِّيه ويسلِّيه، ويأمره أن يخفف عنه ما يجده في نفسه بسبب إعراض قومه وتعنتهم: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8]. سلك صلى الله عليه وسلم في دعوتهم كلَّ مسلك؛ من الكلمة الطيِّبة، والدعوة الناصحة، والقول اللَّين، والموعظة البليغة، ومع ذلك لم يجِدْ منهم إلا الصدود والنفور، والتكذيبَ والاستهزاء. ولحكمةٍ بالغة، تأخر الإذنُ بالقتال، على الرغم مما عاناه المسلمون. وإن من حِكَم هذا التأخير، أنه لا بد أن تكون للمسلمين أولاً دولةٌ قوية، وكيان متين، له حدودُه وأسسه وأركانه، وله من عوامل البقاء الذاتية ما يستعين بها على تذليل العَقبات التي تعترضُ سيرَ الدعوة والدعاة؛ (راجع المزيد في: خطوات في الهجرة والحركة، د. عماد الدين خليل، ص: [7-8]، دار الاعتصام).
حتى إذا قامت تلك الدولة، وصارت حقيقةً قائمة بعد أن كانت حُلمًا يُرْتَجَى، واجتمعت لها أسباب المَنَعة والفتوة، فإن كثيرًا من العقبات التي يرصدها المشركون في طريق الدعوة ستنمحي من تلقاء نفسِها؛ لأن الباطلَ لا يفهم إلا لغةَ القوة، وهو عن المواجهة جبان. أما ما بقِي من تلك العقبات، فإن قوةَ الحقِّ منضافة إلى حق القوة كفيلةٌ بإزاحتها، وردِّها إلى صدور الذين شرَعوها أول مرة. ثم نزلت الآياتُ الكريمات بعد وجود الدولة، وتحقُّق المَنَعة تأذَن لمن أُوذوا وطُردوا وحُرِموا من الديار والأهل والأموال، أن يردُّوا عن أنفسهم كيد المعتدين الغاصبين، واثقين بأن عناية الله لا تنفك عنهم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 39-40].
وإذا كانت (الدولة) تمثل ضرورة من ضرورات الاجتماع الإنساني؛ حيث لا يصلح الناس دون قانون ناظم، وإطار جامع يضبط إيقاع الحياة؛ فإن الرؤية الإسلامية لـ: (ضرورة الدولة) تضيف لذلك أن الإسلامَ لا يمكن أن يقوم بحدوده وقوانينه الإنسانُ في إطار (الفرد)، بل لا بد من إطار (الجماعة)، الذي تنتظمه الدولة وتنظِّمه. فالإسلام لا ينظم علاقة الفرد بربِّه فحسب كما يزعم دعاة (اللادولة في الإسلام)؛ أي: العلمانية، بل ينظِّم أيضًا علاقة المسلم بغيره، سواء كان هذا الغيرُ مسلمًا أو غير مسلم، وسواء كان غير المسلم هذا في جوارٍ مشترك مع المسلم أو في دولة أخرى، وسواء كان ذلك في سِلْم أو حرب. ومن هنا كانت الدولة ضرورة من ضرورات الاجتماع الإنساني، تمامًا كما هي أمرٌ لازم لإقامة الدين، وتطبيق شرائعه وفرائضه في واقع الناس. وإلا، فمن الذي يقيم الحدود، ويحمي الحرمات، ويكفل المحرومين، وينظِّم العمران، ويرفع نداء الجهاد؟! هذه مجالات لا يقوم بها أفراد.
وإذا كانت الدولة العلمانية يمكنها أن تقوم ببعض هذه الأمور، أو بما يقابلها في الفكر العَلْماني المادي، فمن حق الإسلام -وهو منهج شامل لجوانب الحياة كافة- أن تكونَ له دولته التي ترعى آدابه، وفرائضه، وحُرُماتِه. لا بد للإسلام من دولة تقوم به ويقوم عليها، وتحيا به ويُحييها، وترفع لواءه ويرفعُها، وترد عنه السهام الطائشة، والافتراءات الكاذبة، وقد نظمت هذا المعنى في بيت (أرجو أن يكون له إخوة قريبًا):
متى لم يكنْ للحقِّ سيفٌ يؤازِرُه *** رأيتَ العِدَا من كل صَوبٍ تُبادِرُه
السنوسي محمد السنوسي
- التصنيف:
- المصدر: