الاستراتيجية الأوروبية الجديدة لحقوق الإنسان.. هل من جديد؟

منذ 2013-06-22

أوروبا تجعل من احترام حقوق الإنسان أولوية، كأنها طريقة جديدة تحدد بها أسس الولاء والبراء لما فيه خير عموم البشر، والسؤال هنا: هل الأمر فعلاً كما يبدو عليه من مثالية؟


تبنّى الاتحاد الأوروبي عبر مجلس شؤونه الخارجية في بداية شهر يوليو الماضي، ما سماه إطاراً استراتيجياً حول حقوق الإنسان والديمقراطية، وقد شرح المسؤولون الأوروبيون هذه الاستراتيجية بقولهم: "إن أوروبا كانت على الدوام مهتمة بمسألة الحريات وحقوق الإنسان، لكنها اليوم تود أن تعطي أولوية أكثر لهذه القضية وتبني علاقاتها مع غيرها من الدول على أساس احترامها لمواثيق حقوق الإنسان". الجديد في هذا الموضوع هو من زاويتين:

الأولى: هي سعي الجانب الأوروبي لوضع خطة عمل من أجل تنفيذ الاستراتيجية على أرض الواقع وجعلها فاعلة.

والثانية: هي أنه ولأول مرة يكون لدى الاتحاد الأوروبي إطار استراتيجي موحد لهذا المجال من السياسات الحيوية، وهي خطوة توضح بلا شك مدى التنسيق بين الدول الأوروبية وتشارك الرؤى.

ويمكننا أن نسمع في هذا الصدد العبارات الرنانة لـكاثرين آشتون، الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية/ نائب رئيس المفوضية الأوروبية، التي قالت في تصريح لها بعد تبني الرزمة: "إن حقوق الإنسان هي إحدى أولوياتي الرئيسية، وهي الحبل الفضي الذي يسير عبره كل شيء نعمله في العلاقات الخارجية، ومن خلال هذه الرزمة الشمولية نريد أن نعزز فعالية وشفافية سياسة الاتحاد الأوروبي في مجال حقوق الإنسان" (يمكن الرجوع لمعلومات تفصيلية حول هذه الاستراتيجية من خلال موقع الاتحاد الأوروبي على شبكة الانترنت).

إذاً، فأوروبا تجعل من احترام حقوق الإنسان أولوية، كأنها طريقة جديدة تحدد بها أسس الولاء والبراء لما فيه خير عموم البشر، والسؤال هنا: هل الأمر فعلاً كما يبدو عليه من مثالية؟

تُعلمنا السياسة الأوروبية وكتب التاريخ: أن الأمور ليست غالباً كما تبدو عليه، فقد تم تغليف الاحتلال والاستخراب بكلمة "استعمار" التي تحمل بداخلها معاني التنوير والبناء ونقل التحضر، وأقنعت أوروبا أبناءها بأنها تحمل "رسالة" يجب أن توصلها إلى العالم، وأيضاً فقد سبق الحروب الدامية والجرائم التي صاحبتها أجمل الكلمات عن الوطنية والنبل والعطاء.

حينما كان الأوروبيون يسطرون هذا الميثاق الجديد، كانت أحداث القتل والمجازر اليومية تتصاعد في بورما، أو ميانمار حسب اسمها الجديد، وكان الآلاف قد رحلوا أو كانوا بصدد الرحيل عن إقليم أراكان الذي رأت الغالبية البوذية أن تطهره من المسلمين.. لم يلتفت أحد من الأوروبيين إلى هذه المأساة، بل كانت تصريحات متفرقة تثمن جهود حقوق الإنسان في ذلك البلد وتدعو لتعميق الأواصر معه بعد عهد من القطيعة أسوةً بما بدأته الولايات المتحدة التي أعادت سفيرها بعد غياب وانقطاع دام 22 عاماً، بل بدأ بها أوباما زيارته لآسيا، وفي حين كان ذلك جائزة لإطلاق سراح المعارضة أونغ سان سو تشي، بدا الأمر لملايين المسلمين وكأنه جائزة على قهرهم وإذلالهم.. تلك نظرة لا يمكن ببساطة نقدها، فحتى لو تعاطفت مع السيدة التي قضت ما يقارب الربع قرن محبوسة داخل بلدها وممنوعة من السفر والمغادرة، فلا يعقل أن تتجاهل الملايين التي تقتل بلا ذنب وتنتهك حقوقها بشكل سافر ويومي.

هذا مجرد مثال يفرض نفسه هذه الأيام ويدلّل بكل وضوح لا على الازدواجية، بل على عدم الحياد بشكل يرقى لوصفه بعدم التعاطف مع قضايا المسلمين من قبل جهات تدَّعي العالمية والمساواة وتتحدث بإسهاب حتى عن حقوق الحيوان.

إلا أن الأغرب من حقيقة النوايا الأوروبية؛ هو وجود من يظل يؤمن بمثل هذه الكلمات البرّاقة، ويذكرني ذلك بتعليق ممثلي السلطة الفلسطينية عقب كل لقاء لهم بمبعوث أوروبي أو بقيادي غربي، حيث يقولون: "إن أوروبا قد تفهمت مطالبنا وتعاطفت معنا ضد الاحتلال الإسرائيلي". ومعهم حق؛ فالأوروبيون خير من يجيد اللعب على وتر الكلمات البرّاقة التي توحي بأنهم سيقطعون على الفور علاقتهم الاستراتيجية مع الكيان الصهيوني ويرتمون في الأحضان العربية المناضلة، لكن هذه الكلمات ما تلبث أن تتبدل وتتبخر وتأتي عوضاً عنها كلمات جديدة وشروط جديدة تجعل من الفلسطيني الطرف الهمجي الذي يرفض الحوار والتفاوض والحلول السلمية العادلة.

إن السؤال الأكبر هو: هل من حق أوروبا كدول أو كمؤسسات لعب دور الوصي على حقوق الإنسان ومواطني العالم؟ وهل تملك من الإرث القديم أو الحديث ما يؤهلها لذلك؟ أسأل نفسي هذا السؤال وتمر بذاكرتي مجازر الاحتلال وسرقة الثروات الوطنية، خاصة في إفريقيا التي بنيت أوروبا الحديثة بجهود أبنائها وبثروات بلادهم التي أخذت بلا ثمن أو بثمن بخس بعد الاستقلال وتولي حكومات عميلة شؤون البلاد.. يمر بذاكرتي التاريخ الحديث والسجون السرية وصفقات الأسلحة وتصنيع أدوات التعذيب التي تصدر للدول في العالم الثالث، خاصة الدول العربية التي يتم انتقادها فيما بعد بسبب حقوق الإنسان، ويمر ويمر ويمر...

كأن هنالك أوروبتين.. أوروبا التي تحكم بفكر فلاسفة النهضة وطوباوية الأخوة الإنسانية وقيم الديمقراطية؛ وأوروبا التي نراها على الأرض والتي لا يهمها سوى مصلحتها واقتصادها وتحالفاتها الأمريكية والإسرائيلية بغض النظر عما يجلبه هذا التحالف من تعدٍّ على الحقوق أو خروج على ما يسمى القيم الأوروبية.

في هذا المقال، ولأن الأمثلة أكثر من أن تحصى أو أن تحصر، سأكتفي بالتذكير بثلاثة أمثلة واضحة للابتذال الأوروبي لمواضيع الحريات وحقوق الإنسان والمواطن؛ مثال اتفاقية كوتونو، ومثال محكمة الجنايات الدولية، ثم ما سميته: الاستثناء الإسرائيلي.

اتفاقية كوتونو:
في 23 يونيو من العام 2000م وفي مدينة إفريقية ساحلية ومغمورة، كوتونو عاصمة بنين، وبعد مشاورات أوروبية طويلة؛ تم التوقيع على ما بات يعرف باتفاق الشراكة بين دول الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول الإفريقية الكاريبية الباسيفيكية التي تعرف اختصاراً بــ ACP، وليس المقام هنا التعريف بهذا التجمع الذي يبدو وكأنه رابطة لدول ليس بينها رابط واضح ولا تتفق بشكل عام إلا على السعي بكل قوة للارتباط بالتمويل الغربي وما يطرحه من "جزر" ووعود وهبات.


المهم أنه قد تم تغليف الأطر الاقتصادية بأدبيات كثيرة تتحدث عن دور أوروبا في الأخذ بيد هذه الدول النامية ودفعها للتطوير واللحاق بركب الدول المتقدمة من خلال شراكات تفضيلية ومنح أولويات وتسهيلات وتبادل للخبرات، إضافة إلى مختلف أنواع المنح الدراسية والبحثية والمالية واللوجستية.

بالتأكيد، فقد تجمعت الدول المختلفة للتوقيع على هذا الاتفاق الذي دخل حيز التنفيذ في أبريل 2003م قبل أن تطرحه أوروبا للمراجعة، من جانب واحد، وتقوم بتعديلات وصفتها بأنها بسيطة ومن السهل الاتفاق عليها مقابل الشراكة التي ستنقل تلك الدول خطوات بعيدة إلى الأمام.

كانت التعديلات تركز بطبيعة الحال على موضوع حقوق الإنسان بشكل خاص وما يجاوره من موضوعات متعلقة بالمرأة والمساواة والعدالة حتى يتبنى أصدقاء الاتحاد الأوروبي الجدد نفس قيمه التي يراها "كونية" و"إنسانية".

الاتفاقية التي تم الاحتفال بها بشكل كبير كمثال على الشراكة الناجحة بين دول الشمال الغنية ودول الجنوب؛ كان بها عدة مشاكل جوهرية واجهتها منذ البداية، فبالإضافة للغة الخادعة التي استخدمت فيها، كشأن كل الاتفاقيات الدولية الحديثة، عانت الاتفاقية مما يمكن إيجازه في نقطتين:

الأولى: هي أنها بنيت على أساس القيم الأوروبية معتبرة أن هذه القيم ثابتة وعالمية ونموذجية ومن ثم لا غضاضة في فرضها على العالم الثالث الذي هو، بالضرورة، أقل تطوراً وتحضراً من الدول الغربية.

أما الثانية: فهو ما ثبت بالتجربة من أن أي حديث عن اتفاق أو حوار بين المجموعتين اللتين يوصفا اختصاراً بـ ACP-EU؛ هو مجرد خداع لفظي؛ حيث إنه لا تشارك ولا حوار، بل منح من يد عليا ليد سفلى ليس من حقها أن تتفاوض أو أن تملي شروطاً أو حتى أن تتحفظ على بعض ما يقدمه ويطرحه الأوروبيون.

وكما نكرر كل مرة فالمشكلة لا تكمن في مسألة حقوق الإنسان بحد ذاتها، ولا في الاهتمام العالمي بهاP بل نرى أن كثيراً من الدول الإسلامية تبدو اليوم في غالبها بعيدة جداً عن هدي الإسلام في مجالات الحقوق الأساسية للمواطن والمرأة والأقليات، ما يجعلها عرضة للانتقاد والسخرية من كل من هب ودب.

لكن مشكلتنا ستبقى مع التفسير الأوروبي لمصطلح حقوق الإنسان، ففي هذه الاتفاقية يتم الحديث عن المساواة ثم يتم إقرار مبدأ المساواة بين الجنسين وعدم التمييز، ثم يتم إقرار مبدأ عدم التمييز على أساس التوجهات الجنسية حتى يجد الطرف المقابل نفسه مضطراً لمنح الشواذ حقوق التجمع والاعتراف والدعوة حتى يتم قبوله كطرف "متحضر" في الأسرة الدولية، فالشاذ بحسب مفهومنا ليس شاذاً بحسب المفهوم الأوروبيP بل هو مجرد شخص بتوجه جنسي مختلف!

ثم يتم الحديث عن العدالة والعدالة المطلقة وضرورة عدم الإفلات من العقاب، خاصة لمرتكبي الأفعال والجرائم الكبيرة، ليتم الخلاص إلى كون المحكمة الجنائية الدولية هي الأساس الذي يجب أن يتحاكم إليه الجميع باعتبارها تمثل آخر ما توصل إليه العقل البشري الغربي بطبيعة الحال، وأي نقاش حول هذه المسلَمة يخرجك من نادي الدعم الغربي الكبير.

هذان مثالان على ما يتم تضمينه في مثل هذه الاتفاقيات، والطريف هو ذلك التصدير الذي يسبق كل اتفاقية أوروبية من أن اتفاقية ماستريخت المؤسسة للاتحاد الأوروبي قد نصت على أن يكون التعامل الثنائي أو مع أي مجموعة في العالم وفق احترامها للحقوق الأساسية وقيم الديمقراطية، وهو ما يجعل الالتزام بذلك مقدساً لدى الأوروبيين.. هذه هي العبارة التي حفظناها، لكن لن يجيبك أحد عن سؤال مثل: لماذا كانت علاقتكم متطورة جداً مع أنظمة مثل مصر مبارك وتونس بن علي إذاً؟ مجرد مثال حتى لا نذكر دولاً ما زالت تجاهر بالديكتاتورية وتُدعم في الوقت ذاته من قبل جميع الدول الأوروبية.

لقد أدى الإصرار على تلغيم هذه الاتفاقية بمثل هذه البنود ورفض تضمين أي بند آخر يسمح بالمناقشة أو التحفظ على ما ورد بها، خاصة في القضايا الاجتماعية وقضايا المرأة والحريات الجنسية؛ إلى تحويلها لاتفاق تبعية واضحة للدول الغربية ولمصالحها ورؤاها، ما حدا بالسودان، الذي كان الدولة العربية الوحيدة داخل مجموعة الدول الإفريقية الكاريبية الباسيفيكية؛ للانسحاب، في حين ظلت بقية الدول مترددة في قبول الاتفاقية بشكلها الاستعلائي السافر لفترة قبل أن ترضخ وتوافق ليتم تضمينها في بنود المنح والتعاون الاقتصادي والتنموي الذي تحتاج إليه أكثر من أي شيء آخر.

محكمة الجنايات الدولية:
فكرة هذه المحكمة ولدت، كعادة كثير من الأفكار الأوروبية البرّاقة، إبان نهاية الحرب العالمية التي أودت بحياة الملايين والتي ارتكب فيها من التقتيل والتخريب ما يعجز المرء عن تخيله. في العام 1945م خرج مصطلح الجريمة ضد السلام والجريمة ضد الإنسانية إلى العلن من خلال اجتماع في لندن، وتمت هنالك محاكمة كارل دونيتز خلف هتلر بهذه الجرائم كأول قضية واضحة المعالم.


تبلورت الفكرة حين تمت الدعوة في العام 1998م لمؤتمر آخر جامع حضره عدد كبير من الدول، (160) دولة، وهو ما عُرف بميثاق روما، الذي تحدث عن ضرورة تطبيق العدالة على الجميع وعدم الإفلات من العقاب، كما أسهب في تعريف الجرائم الخطيرة التي تهدد الأمن والسلم أو التي تعرض أعداداً كبيرة من الناس للخطر أو الموت.

حسب ذلك الميثاق فإن الدول الموقّعة تلتزم بالتعاون مع المحكمة لإحقاق الحق وملاحقة المجرمين ولا يستثنى من ذلك أي شخص أو جهة، كما ترى المحكمة أن من حقها التدخل في حالة الدول الهشة التي لا تملك نظاماً قضائياً أو لا تستطيع تطبيق القانون وملاحقة المجرمين، وهو ما تسميه "عالمية العدالة".

حتى الآن صدّقت 121 دولة على هذا الميثاق، منها 33 دولة إفريقية، وهو ما شجع القائمين عليها على وصفها بالدولية، وفي الواقع إنه لا يمكننا أن نلوم أي دولة على توقيعها، فبخلاف مسألة الضغوط الغربية، فإنك تجد أن أدبيات هذا الميثاق قد كُتبت بمثالية كبيرة، مثلاً تجد أنهم يقولون إنه لم يعد هنالك مكان لمرتكبي جرائم التطهير العرقي والقتل الجماعي والاغتصاب الممنهج والتعذيب، وذلك لأنه، وحسب ما يعلنه الميثاق، ستتم إدانة كل نظام وكل قائد وكل شخصية مهما علت إذا ثبت تورطها.

ذلك على الورق، لكننا إذا جئنا على الواقع فسنكتشف حقائق مذهلة، أهمها: أن الولايات المتحدة لا تعتبر نفسها طرفاً في كل هذه القصة، وتعتبر جنودها وسياسييها خارج هذه اللعبة مهما ارتكبوا من جرائم واضحة يشاهدها العالم كله، كما سنكتشف أن فلسطين ليست دولة معترفاً بها، لذلك فالمحكمة غير معنية بأي جريمة إسرائيلية ترتكب على الأرض هناك.

من ناحية أخرى، لن تجد إجابة لسؤالك عن اختيار إفريقيا كميدان وحيد لعمل المحكمة، فكل القضايا المطروحة والمرفوعة هي قضايا لقادة أفارقة، مع استثناءات بسيطة لكولومبيا وهندوراس وأفغانستان، وهو سؤال محرج لكل متحدث باسم المحكمة مهما حاول استخدام الدبلوماسية للتهرب منه، فلا أوضح من الجرائم التي ارتكبها جورج بوش وتوني بلير ومن تحالف معهما في أفغانستان والعراق، ولا أوضح من سياسات الكيان الصهيوني وما قام به، خاصة في هجومه على قطاع غزة في الوقت الذي لم تحرك فيه هذه المحكمة ساكناً ولم تصدر عنها حتى بيانات تنديد، بل حاولت أن تشغل العالم وموظفيها بادّعاءات جرائم إبادة في إقليم دارفور السوداني.

لن أتطرق في هذا المقام إلى الجوانب الشرعية، من حيث جواز الاحتكام لمثل هذه المحاكم التي تسيطر عليها أجندات الاستعمار والاستعلاء، لكنني أكتفي فقط بتعرية هذا التمثال الأوروبي القبيح الذي يتخذ من مسألة حماية حقوق الإنسان وسيلة لبلوغ مقاصده السياسية والتطويقية، والأمثلة في هذا المقام كثيرة بخصوص هذه المحكمة، وهي قد بدأت تثير حنق كثير من الجهات المحايدة في العالم؛ فقد رأى العالم كيف تحمست للتدخل في ليبيا ومحاكمة القذافي ورفاقه في حين صمتت وتصمت أمام المجازر المعلنة التي ترتكب في سورية، متماهية مرة أخرى مع الموقف الأوروبي والأمريكي الذي لا يتحمس ذات الحماس لتغيير الرئيس السوري لأسباب مختلفة ومصالح سياسية وجغرافية.

وقبل أن نغادر هذا المثال نذكر فقط بأن من الدول التي لم توقع على هذا الاتفاق "العالمي" إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية: الصين وروسيا والهند والكيان الصهيوني! (ظهرت كثير من الدراسات والبحوث التي تنتقد عمل هذه المحكمة، وآخر ما اطلعت عليه في هذا المجال هو ملف قيم في مجلة Notre Afrik الصادرة في بروكسل؛ حيث أفردت عددها ليونيو 2012م لبحث أوجه القصور العملية والأخلاقية والصعوبات التي تواجه حيادية المحكمة كجهاز قضائي بالأساس).

الاستثناء الإسرائيلي:
ربما يكون من نافلة القول الحديث عن ازدواجية المعايير الأوروبية في النظر للقضية الفلسطينية، حيث إنه لا يستطيع أحد من الباحثين المحايدين أن يقول إن أوروبا تقف على مسافة واحدة من الطرفين فيما يسمى الشرق الأوسط، وقد يحتج الأوروبي بقوله: إن الاتحاد الأوروبي كان دائماً من أول المنتقدين للسياسات الإسرائيلية وتعدّياتها على حقوق الإنسان، وهذا صحيح من ناحية قوة الألفاظ التي تدين وتشجب وتستنكر وتعلن عدم اعترافها بالمناطق المحتلة وبالتجاوزات الاستيطانية وسياسات الاعتداء على الأراضي والبشر والتاريخ..


لكن السؤال هو: إذا كان الأمر كذلك أفلا تملك أوروبا بكل قوتها وسائل للضغط السياسي والاقتصادي حتى نستبعد العسكري على ذلك الكيان الغاصب؟

إن الاستثناء الإسرائيلي وكون هذا الكيان شيئاً فوق القوانين والدساتير ولا تنطبق عليه أي قوانين دولية، ولا يضع اعتباراً لأي معايير؛ ليس مجرد مسألة تاريخية، بل واقع متكرر كل يوم وكل ليلة، ويكفي أن نتذكر مثال الهجوم على غزة وفضيحة السكوت العالمي الذي انتقل من نقد الطرف المعتدي إلى المساواة بين الطرفين الصهيوني والفلسطيني حتى خلص إلى تناسي القضية تماماً.

بُنيت الاستراتيجية الأوروبية على صوت الاستنكار العالي وامتصاص غضب شعوبها التي تروعها مناظر الدمار والقتلى من المدنيين والأطفال، ثم التهديد بأن العلاقات مع الكيان الإسرائيلي لن تعود كسابق عهدها، خاصة في ظل استمرار العمل على توسيع المستوطنات، ثم رويداً رويداً يجف كل ذلك ويتضح أن شيئاً لم يؤثر على الشراكة الاستراتيجية بين أوروبا والكيان العبري.

حينما كانت استراتيجية حقوق الإنسان الجديدة تُطبَع في بروكسل، كان وزير الخارجية الصهيوني المتطرف أفيغدور ليبرمان يزورها موقّعاً أهم اتفاقيات الشراكة مع التكتل الأوروبي في مختلف المجالات، ليعلن الاتحاد الأوروبي بدوره رفع مستوى العلاقات بينه وبين إسرائيل ما يمنحها وضعاً مميزاً تكاد به أن تكون دولة عضواً في اتحاده.

الزيارات لم تنقطع، ولم يأتِ ليبرمان إلا بعد زيارة رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه باروسو إلى تل أبيب؛ حيث بدا متحمساً جداً لفتح صفحة جديدة مع الكيان الصهيوني في خداع للمستمع وإيحاء بأنه قد كان هنالك توتر ما في مرحلة سابقة.

هذه الخدعة المتكررة لم تعد تنطلي على أحد.. فقط المشكلة هي أن الاتحاد الأوروبي، ومن خلفه الولايات المتحدة بطبيعة الحال، يريد من الجميع أن يتعامل مع الكيان الصهيوني كاستثناء، وهو ما لا يقبله ليس فقط العرب والمسلمون؛ بل ضمير الملايين من المتابعين حول العالم، وهو ما يظهر في ردود أفعال الكثير من الجمعيات الحقوقية والسياسية الأوروبية ذاتها (انتقد عدد كبير من السياسيين هذا التوجه الأوروبي للتعاون مع الكيان الإسرائيلي رغم تجاوزاته، وكان من أبرز المنتقدين المجموعة الاشتراكية في البرلمان الأوروبي والشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية حيث تحدثوا عن فشل الإتحاد الأوروبي في ما كان يدعو إليه من ربط لعلاقاته بمسألة احترام حقوق الإنسان، وهو الأساس الذي قامت عليه سياسة ما يعرف بـ الجوار الأوروبي).

كلمة أخيرة:
لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين، وأرانا -للأسف- نعوّل في كثير من الأحيان على المبادئ والمبادرات الواهية التي يتشدق بها الغرب، والتي نتمنى أن تصدق ليكون العرب والمسلمون المستضعفون في كل مكان، حتى في بلدانهم، هم أكبر المستفيدين؛ لكن المتابع الحق لن ينخدع بهذه الشعارات الزائفة، خاصة الإعلان الكبير بأن حقوق الإنسان هي المعيار الأساس لجميع سياسات الاتحاد الأوروبي.


هذه مجرد نقاط سريعة جاءت على خاطري وأنا أقرأ عن هذه الاستراتيجية الجديدة القديمة، لكن مفاهيم "عالمية حقوق الإنسان" وتنزيلها على السياسات الخارجية للدول الأوروبية، ومعنى الشراكة في هذا المجال، ومناقشة طرق عمل المؤسسات والجهات المعنية، وواجب الحكومات الإسلامية التي تملك المرجعية الأشمل والرؤية الأحق إن تم تطبيقها بشكلها الصحيح؛ كل تلك موضوعات تستحق أكثر من مقال، بل أكثر من كتاب.


مدى الفاتح


 

المصدر: مجلة البيان