المرجعية السنية... الحق لابد له من ناطق

منذ 2013-07-01

وما يعانيه أهل السنة في العراق منذ الساعات الأولى للاحتلال وإلى يومنا هذا أشد وأنكى ما يمكن أن يقاسيه مسلم من تعذيب وتهجير وقتل وإقصاء وتغيير هوية، بل ربما ترحم البعض على هولاكو والتتار؛ لأن ما سجله التاريخ عنهم من تنكيل ودمار للبلاد والعباد عند احتلال بغداد لا يصل معشار ما وصلت إليه آلة القتل الطائفي التي رعتها ومكنتها قوى الغرب لتدير عجلة أبشع قتل ممنهج ولمدة تقترب اليوم من عامها العاشر.


حين يتعرض المخلوق للظلم والعدوان، وحين يُضطهد وتُنتهك حقوقه، وحين يُتهم بشتى أصناف التهم الكاذبة الملفقة، فلا بد من لسان حق يجهر ويصدع، ولا بد من موقف يستحضره كل شريف يُنصر فيه المستضعف من كان وحيث كان، فحين يتذكر سعيد بن عامر الجمحي رضي الله عنه موقفه من نصرة خبيب وسكوته في يوم مقتله، فإنه يُصرع ويُغشى عليه حتى لا يدري ما يجري حوله، إنها شكوى أهل الشام في أميرهم إلى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب، فكان جواب الأمير سعيد بن عامر للفاروق شهدت مصرع خبيب بن عدي وأنا مشرك، ورأيت قريشًا تقطع من جسده وهي تقول له: أتحب أن يكون محمدٌ مكانك وأنت ناج؟ فيقول والله ما أحب أن أكون آمنًا وادعًا في أهلي وولدي، وأن محمدًا يوخز بشوكة، وإني والله ما ذكرت ذلك اليوم وكيف أني تركت نصرته إلا ظننت أن الله لن يغفر لي... وأصابتني تلك الغشية.

وما يعانيه أهل السنة في العراق منذ الساعات الأولى للاحتلال وإلى يومنا هذا أشد وأنكى ما يمكن أن يقاسيه مسلم من تعذيب وتهجير وقتل وإقصاء وتغيير هوية، بل ربما ترحم البعض على هولاكو والتتار؛ لأن ما سجله التاريخ عنهم من تنكيل ودمار للبلاد والعباد عند احتلال بغداد لا يصل معشار ما وصلت إليه آلة القتل الطائفي التي رعتها ومكنتها قوى الغرب لتدير عجلة أبشع قتل ممنهج ولمدة تقترب اليوم من عامها العاشر.

سعيد بن عامر رضي الله عنه تحمل المسؤولية لما استشعر عجزه عن نصرة مظلوم واحد قُتل بين يديه، فمن يتحمل المسؤولية اليوم، وهو يرى ويسمع بمشاهد التعذيب في سجون دولة الظلم والفساد؟ فلابد للحق من لسان ينطق به وحجة يدافع بها عن نفسه وواجهة تقية طاهرة تعرف سبيل الحق فتسلكه وسبل الغَي فتنصرف عنها، وتصدع بالحق وتنصر المظلوم.

يحدثنا النبي صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه والحديث متفق عليه، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم أقبل على الناس، فقال: «بينا رجلٌ يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نُخلق لهذا، إنما خُلقنا للحرث، فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم؟» نعم إن ظلم مخلوق فلابد للحق من لسان ناطق، ويحد?نا بأبي هو وأمي وكما في الحديث المتفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة ٌعيسى بن مريم وصاحب جريج- وكان جريج رجلًا عابدًا فاتخذ صومعةً فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فلما كان من الغد أتته، فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وكانت امرأة بغيٌّ يُتَمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه، قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي، فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه، وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلانٌ الراعي، فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا.

وبينا صبيٌّ يرضع من أمه فمر به رجلٌ راكبٌ على دابة فارهة وشارة حسنة، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه، فجعل يرتضع، قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فيه فجعل يمصها، وقال: ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زَنيت سَرقت وهي تقول حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها فترك الرضاع، ونظر إليها، فقال: اللهم اجعلني مثلها، فقالت: مر رجلٌ حسن الهيئة فقلت: اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها، ويقولون: زَنِيت سَرقت فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهم اجعلني مثلها، قال: إن ذلك الرجل كان جبارًا، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زَنيت ولم تزن، وسَرقت ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها
».

فحين يُتهم المرء في عرضه وشرفه، وحين تُنتهك الكرامة، فالحق ينطق ولو على فم رضيع؛ هكذا يعلمنا ربنا جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالدابة نطقت بالحق يوم أن ظُلمت لتُعرِّف بمظلوميتها، وعيسى عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وسلام نطق بالحق يوم اتُّهمت أمه الطاهرة في عرضها، وجريج أنطق الله له الرضيع ليقول كلمة الحق، ويُبرِّئَ ساحته، والمرأة الزنجية السوداء العفيفة أنطق الله لها الرضيع بكلمة الحق ليُظهر براءتها.

واليوم ما يعانيه سنة العراق ابتداءً من مشروع التهم المعلبة الجاهزة (4 إرهاب) والتي وُجهت لرأس المذهب السني السياسي (طارق الهاشمي) وانتهاءً بالتهم المنسوبة للعضو السني في مجلس محافظة بغداد (ليث الدليمي) مرورًا بالانتهاكات والاعتقالات والسجون التي تغص بمئات الآلاف من الأبرياء الذين لا جريرة لهم إلا أنهم سنة، واغتصاب الأوقاف السنية علنًا جِهارًاً نهارًا وتحت غطاء القانون ومظلة وزارة العدل ومباركة الحوزة الناطقة وغير الناطقة، أصبح لزاماً على أهل السنة أن يوجدوا لأنفسهم لساناً ناطقاً بالحق في مظلوميتهم، ويراجعوا مواقفهم طيلة أعوام الاحتلال الماضية ويترفعوا عن الخلاف فيما بينهم ويؤسسوا لقاعدة عريضة من المشاركة، ويَدَعوا الخلاف جانبًا، فالسنة هم صمام الأمان في تحقيق تماسك العراق وعدم تقسيمه وفاقد الشيء لا يعطيه، فما دام أهل السنة مقسمون فإن إمكانية توحيدهم للبلاد معدومة، بل مستحيلة.

من هنا فقد وردت مسامعنا جهود خيرة مباركة في لملمة الصف السني على مختلف أطيافه وألوانه، ففي اسطنبول وفي السليمانية وفي الأردن مؤتمرات متتالية نأمل أن يكمل بعضها البعض، ولعل الأمة في رمضان هذا العام تستبشر بمولود جديد ينطق باسم الحق المفقود في العراق من شماله إلى جنوبه.

وهذه رسالة أوجهها لعلمائنا ومثقفينا القائمين على تنظيم هذه اللقاءات، أن يحسبوا خطواتهم بكل عناية ودقة وهم يؤسسون لمرجعية سنية وأن يضعوا العاطفة والحماسة جانباً، فأهل السنة لن يتحملوا خطأً جديداً، والخطأ في هذه المرحلة هو رصاصة الرحمة على المشروع السني في العراق بأكمله.



نصير عثمان البغدادي