حديث: إذا لم تستح فاصنع ما شئت

منذ 2013-07-02

والحق أن الحياء رافد من روافد التقوى؛ لأنه يلزم صاحبه فعل كل ما هو جميل، ويصونه عن مقارفة كل قبيح، ومبعث هذا الحياء هو استشعار العبد لمراقبة الله له، ومطالعة الناس إليه، فيحمله ذلك على استقباح أن يصدر منه أي عمل يعلم منه أنه مكروه لخالقه ومولاه، ويبعثه على تحمّل مشقة التكاليف؛ ومن أجل ذلك جاء اقتران الحياء بالإيمان في غير ما موضع من النصوص الشرعية، في إشارة واضحة إلى عظم هذا الخلق وأهميته.


متن الحديث:

عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» [رواه البخاري].

الشرح:

الحياء زينة النفس البشرية، وتاج الأخلاق بلا منازع، وهو البرهان الساطع على عفّة صاحبه وطهارة روحه، ولئن كان الحياء خلقا نبيلا يتباهى به المؤمنون، فهو أيضا شعبة من شعب الإيمان التي تقود صاحبها إلى الجنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة»[رواه أحمد والترمذي].

والحق أن الحياء رافد من روافد التقوى؛ لأنه يلزم صاحبه فعل كل ما هو جميل، ويصونه عن مقارفة كل قبيح، ومبعث هذا الحياء هو استشعار العبد لمراقبة الله له، ومطالعة الناس إليه، فيحمله ذلك على استقباح أن يصدر منه أي عمل يعلم منه أنه مكروه لخالقه ومولاه، ويبعثه على تحمّل مشقة التكاليف؛ ومن أجل ذلك جاء اقتران الحياء بالإيمان في غير ما موضع من النصوص الشرعية، في إشارة واضحة إلى عظم هذا الخلق وأهميته.

وقد عُرف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق واشتُهر عنه، حتى قال عنه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها"، وهكذا نشأ الأنبياء جميعا على هذه السجيّة، فلا عجب إذاً أن يصبح الحياء هو الوصية المتعارف عليها، والبقية الباقية من كلام النبوة الأولى، والتي يبلغها كل نبي لأمته.

وللحياء صور متعددة، فمنها : حياء الجناية، ومعناه: الحياء من مقارفة الذنب مهما كان صغيراً، وذلك انطلاقا من استشعار العبد لمخالفته لأمر محبوبه سبحانه وتعالى، ومن هذا الباب اعتذار الأنبياء كلهم عن الشفاعة الكبرى حينما يتذكرون ما كان منهم من خطأ - وإن كان معفواً عنه - وكان الإمام أحمد بن حنبل يكثر من قول:

 

إذا ما قــــال لــي ربي ***أما استحييت تعصيني

وتخفي الذنب من خلقي*** وبالعـصيــان تأتينــــي

فـما قـولي لـه لــمـــــــا*** يعاتـبـنــي ويُقـصـيـني



وهناك نوع آخر من الحياء، وهو الحياء الذي يتولد من معرفة العبد لجلال الرب، وكمال صفاته، ويكون هذا الحياء دافعا له على مراقبة الله على الدوام؛ لأن شعاره هو قول القائل: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظم من عصيته".

ويمكن أن يُضاف نوع ثالث، وهو حياء النساء، ذلك الحياء الذي يوافق طبيعة المرأة التي خُلقت عليها، فيزيّنها ويرفع من شأنها، واستمع إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذ تقول: "كنت أدخل بيتي الذي دُفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي، فأضع ثوبي - أي أطرحه - فأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دُفن عمر معهم فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة عليّ ثيابي؛ حياء من عمر".

فإذا اكتمل الحياء في قلب العبد، استحيا من الله عز وجل ومن الناس، بل جرّه حياؤه إلى الاستحياء من الملائكة الكرام، ولهذا جاء في الحديث: «من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم» [رواه مسلم].

لقد جسّد النبي صلى الله عليه وسلم الحياء في سلوكيات عملية، تدرّب المرء على هذا الخُلق النبيل، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استحيوا من الله حق الحياء، قلنا: يا رسول الله إنا نستحيي والحمد لله، قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبِلَى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» [رواه الترمذي].

وهذا التصوير النبوي لخُلق الحياء، يدلّنا ويرشدنا إلى أسباب وصول أمتنا لهذا المستوى من الذلّ والمهانة، إننا لم نستح من الله حق الحياء؛ فأصابنا ما أصابنا، ولو كنا على المستوى المطلوب من خُلق الحياء، لقدنا العالم بأسره، فالحياء ليس مجرّد احمرار الوجه وتنكيس الرأس، بل هو معاملة صادقة، وإخلاص تام في حق الخالق والمخلوق.

ولعل مما يحسن التنبيه إليه في هذا الباب أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - بحجة الحياء من الناس - قصور في الفهم، وخطأ في التصوّر؛ لأن الحياء لا يأتي إلا بخير، والنبي صلى الله عليه وسلم على شدة حيائه، كان إذا كره شيئا عُرف ذلك في وجهه، ولم يمنعه الحياء من بيان الحق، وكثيرا ما كان يغضب غضبا شديدا إذا انتُهكت محارم الله، ولم يخرجه ذلك عن وصف الحياء.

وبعد: فهذه جولة سريعة مع خُلق الحياء، عرفنا فيها معالمه وفضائله، وصوره وجوانبه، وجدير بنا أن نحرص على هذا الخلق النبيل، وأن نجعله شعار لنا حتى نلقى ربنا الجليل.
 

المصدر: الشبكة الإسلامية