العُلَمَاءُ وشَرَك فِتْنَةِ الحُكْمِ

منذ 2013-07-12

العلماءُ هم حفظةُ العلم ونقلته، وهم الأدلَّاءُ على طريق الله، ولذلك عظَّم الله فضلهم، وأجزل لهم الثوابَ والعطاءَ في الدنيا والآخرة، ووصفهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنهم الورثةُ لعلوم الأنبياء...


العلماءُ هم حفظةُ العلم ونقلته، وهم الأدلَّاءُ على طريق الله، ولذلك عظَّم الله فضلهم، وأجزل لهم الثوابَ والعطاءَ في الدنيا والآخرة، ووصفهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنهم الورثةُ لعلوم الأنبياء، فبيَّن أَنَّ «الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ» الذي به يَصلحُ أمرُ الدنيا ويُنالُ به نعيم الآخرة.


فهذا العلمُ هو الميراثُ الذي أصابَهُ أهلُ العلمِ وطلَّابه، فأنعم به من ميراث، وأكرم بتحصيله من منقبةٍ وفضلٍ، فالعلماءُ هم أئمةُ الناسِ بعد الأنبياءِ، وهم أحقُ الناسِ بالطاعةِ بعد طاعته سبحانه وطاعةِ رسلهِ وأنبيائهِ عليهم صلوات اللهِ وسلامهِ.

فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإنَّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، رضًا بما يصنع، وإنَّ العالِم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإنَّ فضل العالِم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنَّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يورثوا دينارًا، ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» (سنن أبي داود: [3/317/3641]).

لهذا كان للعلماء دورٌ عظيمٌ في تثبيت قلوب المسلمين، وجمع صفَّهم، وبثِّ الهدوء والطمأنينة في روعهم، سيَّما في أزمان الفتن، وأوقات الهرج، فللعلماء دورٌ كبيرٌ في توضيح ما أُشِكل على الناس، وردِّ مُخطئهم، وانْتشال من وقع منهم في الفتنة والغي والبغي، وليس لأحد من غير العلماء القدرة على هذا الأمر؛ لما يميزهم من فضيلة "الوراثة لعلم النبوة" بما تتضمنه من صفاء العلم وسلامته وصلته بمعين النبوة الصافي.

وقد حفل تاريخنا الإسلامي بالعديد من الأسماء التي كان لها عظيمُ الأثر في تجاوز مراحل الفتن، والعبور بالأمة الإسلامية إلى برِّ الأمان، ولو أدى الأمر إلى تعرضهم وذويهم للبغي والأذى من قِبل أعداء الأمة، فكم من عالم أوذي في سبيل الحق الذي معه، أو الباطل الذي يعاديه ويناكفه؛ ولأجل أن يبلغ هذا الدين المَبْلغ الذي بشَّر به النبي صلى الله عليه وسلم، فعن تميم الداري قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله الله هذا الدين، بعزِ عزيزٍ، أو بذلِ ذليلٍ، عزًا يُعزّ الله به الإسلام، وذلًا يُذلّ الله به الكفر» (مسند أحمد: [4/103/16998]).

وهذا الدورُ لم يكن ليقتصر على مظهرٍ واحدٍ، وإنَّما تنوع بتنوع الفتن، فإن كانت الفتنة فتنة قتالٍ وحروبٍ وهرجٍ ومرجٍ، خرجَ العلماءُ منتصرين لفسطاط الحق، مبصِّرين الناس بصاحب الحق، والواجب علي الأمة حيال هذه الفتنة، وإن كانت الفتنة فتنة مالٍ نرى العلماءَ أبعد الناس عنها، زاهدين في عطايا الملوك وهِباتهم، وكل ما له صلة بهم، وهكذا الحال تجاه كل فتنة تعرض على المسلمين، فلم نرَ من العلماء الربانيين في ذلك إلا كل صدقٍ وأمانةٍ وحرصٍ على هذه الأمة، ولم نرَ منهم إلا قُدوات ونماذج مثالية للإقتداء والتأسي.

فتنةُ الحُكْمِ أشدُ الفتنِ وأكثرُها غوايةٍ:

غير أن أشدَّ الفتن إهلاكًا للمسلمين على مرِّ تاريخهم كانت فتنة الحكم، بل نستطيع القول أنَّ الحكمَ هو رأسُ الفتنِ، ومنبعُ كلِ شرٍ أصاب الإسلام ووقع في أرض المسلمين، لهذا جاءتْ النصوصُ المحذرة من تولي المناصب، سيَّما منصبي القضاء والولاية، وكثر تحذير العلماء بعضهم البعض من الدخول على الحكّام والرضا بمجالسهم، أو قبول مناصبهم وتولي أعمالهم.

وتبعًا لذلك كثرت النصوص المحذرةُ من علماء السلاطين، والداعيةُ العلماء إلى تركِ مجالسةِ الحكامِ في غير حاجة، لما للملك والملوك من فتنةٍ وسطوةٍ، ولذلك قال ابن الجوزي رحمه الله: "من صفات علماء الآخرة أنْ يكونوا مُنْقَبِضِين على السلاطين، مُحْترزين عن مخالطتهم، قال حذيفة رضي الله عنه: إياكم ومواقف الفتن، قيل: وما هي؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيُصدِّقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه" (الآداب الشرعية لابن مفلح: [3/459]).

وهذا الأمر كما قلنا ليس على إطلاقه، وإنَّما يتقيد، بمدى صلاح العالِم وصبره على فتنة السلطان، والغاية من الدخول عليه، كما يرتبط بصلاح السلطان وعدله وورعه.

قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: "وأمَّا السلطان العادل، فالدخول عليه ومساعدته على عدله من أجلِّ القُربِ، فقد كان عروة بين الزبير، وابن شهاب، وطبقتهما من خيار العلماء يصحبون عمر بن عبد العزيز، وكان الشعبي، وقبيصة بن ذؤيب، والحسن، وأبو الزناد، ومالك، والأوزاعي والشافعي، وغيرهم رحمهم الله يدخلون على السلطان، وعلى كل حال، فالسلامة الانقطاع عنهم، كما اختاره أحمد وكثير من العلماء" (المرجع السابق: [3/459-460]).

موقفُ العلماءِ منْ الحكامِ والولاةِ:

للعلماء دورٌ مهمٌ في ضبط مسار الحاكم، ومراقبة أحكامه وما يصدر عنه من قرارات، وما يصدره من أحكام وآراء، بحيث لا تَخْرج عن النسق المشروع، ولهذا ما ضلَّ حاكم سمع لأهل المشورة من العلماء المخلصين، وما سدَّد الله خطى من أهان العلم واضطهد أهله، ونحَّاهم عن مجالسه، أو قرَّب من لا خلاقَ لهم ممن باعُوا ضمائرهم، وتهاونُوا وتساهلُوا، ورضُوا بعيش الحكامِ، وأكلُوا من طعامهم، واستحلُوا جوائزهم.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الصدد كلامٌ جيدٌ، يُجلي فيه العلاقة بين الحاكم والعالِم، يقول فيه: "ولا يجب على عالِم من علماء المسلمين أنْ يقلِّد حاكمًا؛ لا في قليلٍ، ولا في كثيرٍ، إذا كان قد عَرف ما أمر الله به ورسوله، بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكِم في شيء، بل له أنْ يستفتى من يجوز له استفتاؤه، وإنْ لم يكن حاكِماً، ومتى ترك العالِم ما علَّمه من كتاب الله، وسنة رسوله، واتبع حكم الحاكِم المخالِف لحكم الله ورسوله، كان مرتداً كافراً يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة" (الفتاوى لابن تيمية: [35/372-373]).

ولهذا جاء التحذير النبوي من الدخول على الأمراء وأهل الحكم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدَّقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولستُ منه، وليس بواردٍ عليَّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يُصدِّقهم بكذبهم، فهو مِنّي، وأنا منه، وهو واردٌ عليَّ الحوض» (سنن الترمذي: (4/525/2259)، مسند أحمد: [3/24/11208]).

وقد ذكر ابن مفلح عن الإمام أحمد رحمه الله أنه كان: "لا يأتي الخلفاء، ولا الولاة والأمراء، ويمتنع من الكتابة إليهم، وينهى أصحابه عن ذلك مطلقاً" (الآداب الشرعية لابن مفلح: [3/457]).

وذكر-ابن مفلح- أيضاً عن مهنا أنه قال: "سألتُ أحمد عن إبراهيم بن الهروي، فقال: رجلٌ وَسَخٌ، فقلتُ ما قولك إنه وَسَخٌ؟ قال: من يتبع الولاة والقضاة فهو وَسَخٌ، وكان هذا رأي جماعة من السلف، وكلامه في ذلك مشهور، منهم: سويد بن غفلة، وطاوس، والنخعي، وأبو حازم الأعرج، والثوري، والفضيل بن عياض، وابن المبارك، وداود الطائي، وعبد الله بن إدريس، وبشر بن الحارث الحافي، وغيرهم" (المرجع السابق: [3/457]).

موقفُ العلماءِ تِجَاهَ منْ وَالَى بَغْي الحُكَّامِ:

على العلماء ألا يتركوا سنة التدافع فيما بينهم، فعليهم أن يقفوا للباطل، بيانًا، ونُصحًا ومُواجهةً، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ} [البقرة:251].

وقال أيضاً: {وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا} [الحج:40].

فبسنةِ التدافعِ يُسخر الله العلماء الأتقياءِ لمواجهة أدعياء العلم، وبطانة السوء من المتكسبين بشرع الله وكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ممن ارتضوا لأنفسهم الدنية، واستحبُّوا الحياة الدنيا على الآخرة، فلولا تصدي أهل الحق -من العلماء الربانيين والدعاة المهديين- لباطل هؤلاء المبطلين، لما رأينا للحق صولة ولفسدت الأرض بفعل أطماع الحكام ورغباتهم، ولما وَجَدَ الناس من يُرشِدهم ويُصحّح لهم أمر دينهم.

ولقد وجدنا في زماننا هذا الكثير من علماء السوء، ممن ركنوا إلى الحكام وأقرُّوهم على ظلمهم ومخالفتهم لشرع الله، إما قولًا، وإما فعلًا، وإما تقريرًا بسكوتهم عن هذا الباطل، حتى سالت الدماء، وكثر الخبث، والبغي والفحش، وليس أمر سوريا عنا ببعيد، حيث وجد طاغية سوريا من علماء السوء من يُبرِّر له جرائمه، كما كان من البوطي -عليه من الله ما يستحق- حيث استحل بفتاويه دماء الأبرياء من الموحدين من أهل سوريا، بل برَّر لأعوان بشار شركهم وسجودهم لغير الله.

وما يحدُث في مصر هذه الأيام شاهد واضح على هذا البغي، فحتى هذه اللحظة لم نر بياناً أو استنكاراً من مؤسسة الأزهر لما يحدُث من إراقة لدماء المسلمين على أيدي المنقلبين علي إرادة الشعب، والبغاة الذين استحلوا دماء المسلمين لأجل سلطة زائلة، واستحلوا في سبيل ذلك أيضاً إغلاق منابر الخير من القنوات الإسلامية، واعتقال الدعاة والعلماء، والتضييق على أصحاب السمْت الإسلامي، وإرهابهم بكتائب من البلطجية الذين يسيحون في طول البلاد وعرضها لإرهاب الناس.

لهذا على العلماء الربانين الحاملين لأعباء الدعوة والرسالة الصدع بالحق، ومواجهة كل انحراف عن الجادة، لا كما فعل أحد الرؤوس الإسلامية المسموعة -هذه الأيام- حيث خرج علينا في وقت حاجة المسلمين له ولعلمه؛ ليعلن للعالَم أنه سيعتكف في بيته ويعزِل نفسه عن الفتن، وقد كان أولى به وأكرم أن يعتزل من منصبه، طالما أنه لم يعد مدركاً لواقع الأمة، وما يُدبَّر لها من قِبل أعدائها.

العلماءُ مصابيحُ الهدَى والأئمةُ بعد الأنبياءِ:

يلخص الإمام الآجري رحمه الله دور العالِم في هذه الدنيا وحاجة الناس إليه بكلمات موجزة وعبارات ثاقبة يقول فيها: "فما ظنكم رحمكم الله بطريقٍ فيه آفات كثيرة ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فإنْ لم يكنْ فيها ضياء وإلا تحيروا، فقيَّض الله لهم فيه مصابيح تُضيء لهم فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءتْ طبقاتٌ من الناس لابد لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ انطفأت المصابيح فبقوُا في الظلمة فما ظنُّكم بهم؟ هكذا العلماء في الناس، لا يعلم كثير من الناس كيف يؤدي الفرائض، ولا كيف اجتناب المحارم، ولا كيف يعبد الله في جميع ما يعبده به إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العلماء تحير الناس ودرس العلم بموتهم وظهر الجهل" (أخلاق العلماء للآجري: [ص:96]).

فإن أولى مهمات العلماء بيان الحقِّ للناس، وعدم كتمانهِ عنهم؛ يقولُ اللهُ تعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:87].

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159].

وقالَ الله عز وجل: {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [يس:17].

ولذلك فلا فاجعة أكبر بعد فاجعة موت الأنبياء إلا موت ورثتهم من العلماء الربانيين، والهداة المهديين، من حملة العلم والدعاة على طريق الله، ولذلك أيضاً كان من علامات قُرِب نهاية الدنيا، وقيام الساعة نزع العلم بموت حامليه وطلَّابه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالِماً اتخذ الناس رؤوساً جهَّالًا فسُئِلوا فأفتوا بغير عِلم فضلُّوا وأضلُّوا» (متفق عليه، البخاري: [1/50/100]، ومسلم: [4/2058/2673]).
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

رمضان الغنام

كاتب إسلامي مصري التحصيل العلمي: "باحث بالدكتوراه"، تخصص الدراسات الإسلامية، جامعة طنطا.